كيف تتجاوز الشركات الأزمات التي تواجهها؟

تعاني الشركات أيضاً من أزمات وجودية، ومن لحظات حاسمة يجب عليها خلالها صياغة مستقبل جديد لها إذا كانت لا تريد أن تضعف وتنهار.



تحدث هذه الأزمات بالطريقة نفسها؛ حيث تتزايد حدة المشكلة حتى وصول الشركة إلى الحضيض بسبب طول التجاهل المقصود للفشل المتفشي في المنظمة الذي يعرِّضها للخطر، ثمَّ تتأرجح على حافة الهاوية حتى يظهر بطل - غالباً ما يكون رجلاً - وينقذ الموقف وحده.

يُفصَل المديرون ويُطرَد الموظفون وتُقلَّل التكاليف بلا هوادة وتُبرَم الكثير من الصفقات؛ مما يحقق النصر في النهاية؛ إذ إنَّ البساطة المبتذلة لهذه القصص تُظهِر ضمنياً المديرين السابقين أغبياء والبطل خبيراً عبقرياً، يقتل التنانين البيروقراطية بشجاعة ملهمة.

الواقع أكثر تعقيداً ودقة من هذا، كما أنَّه أيضاً أكثر عاطفية، فعندما تفشل الشركات القديمة العظيمة، يبكي الرجال الناضجون على حماقتهم وضعفهم، وفقدان السمعة والإرث، في نهاية تاريخ الشركة.

تُظهِر دموعهم أنَّ الشركات هي أكثر من مجرد مبانٍ وميزانيات عمومية؛ بل هي كائنات حية تحتضن أحلامهم الشخصية، وعندما تموت الأعمال التجارية، تموت معها الآمال الشخصية.

كان أحد أكثر التجديدات جذرية في الشركات في الآونة الأخيرة إعادة هيكلة شركة "نوكيا" (Nokia) التي كانت في يوم من الأيام المصمم والمنتِج المهيمن للهواتف المحمولة في العالم في التسعينيات وأوائل القرن الواحد والعشرين، والتي حوَّلَت ما كان يُعَدُّ غرضاً فاخراً يقتنيه المديرون التنفيذيون ذوو الأجور المرتفعة إلى غرضٍ يقتنيه كل مستهلك في العالم.

كانت أول شركة تضع الكاميرات في الهواتف، وهي شركة رائدة في مجال الأجهزة اللوحية وألعاب الهاتف المحمول، وبالنسبة إلى العديد منا كانت شركة "نوكيا" (Nokia) هي كل ما نعرفه عن "فنلندا"؛ حيث تمثِّل عائدات الشركة 4% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وما جنَته الشركة من المال يساوي ما جنته جميع الشركات الأخرى في البلاد مجتمعة.

على عكس أساطير "وادي السيليكون"، لم يكن إطلاق جهاز "آيفون" (iPhone) في عام 2007 بمنزلة نهاية حتمية لشركة "نوكيا" (Nokia)، فبمقارنة اختراع "آبل" بهاتف "نوكيا إن 95" (Nokia N95) الذكي، استخف الناس بالوافد الجديد، ومدحوا القديم.

في الربع الأول من عام 2008، شحنت "نوكيا" 115 مليون هاتف، مقارنة بـ 1.7 مليون جهاز فقط من "آبل"، ولم يبدُ أنَّه من الممكن المقارنة بينهما.

ولكن عندما أُطلِق نظام التشغيل "أندرويد" (Android) في وقت لاحق من عام 2008، تغيَّر السوق وتسارعت الأحداث، وبدأَت المشكلات الدائمة بالظهور؛ حيث جعلت نقاط الضعف في نظام التشغيل "سيمبيان" (Symbian) الذي تعتمده "نوكيا" التحديث بطيئاً وصعباً للغاية، وكانت الهواتف قاسيةً للغاية لدرجة أنَّ الشاشة التي تعمل باللمس احتاجت تقريباً إلى مطرقة لنقرها، ولم تكن هذه المشكلات أسراراً، لكنَّ ثقافة الشركة كانت مهذبة للغاية وهرمية لدرجة أنَّه لم يتحدث عنها أحد.

أصبح الانتشار العالمي الضخم لـ "نوكيا" في 140 دولة عبئاً؛ حيث جعل تغيير التصاميم معقداً للغاية، وما كان نعمة في السابق مثل التكنولوجيا والثقافة التنظيمية وهيكل الإدارة، أصبح نقمة الآن؛ حيث طُرِحَ كل منتج جديد إلى السوق بعد فوات الأوان، وبدا كما لو أنَّ الشركة وقعت في دوامة الموت.

في أواخر عام 2009، وضع مؤشر "ماكينزي للصحة التنظيمية" (McKinsey’s Organizational Health Index) الذي قارن شركة "نوكيا" (Nokia) بآلاف الشركات الأخرى الشركة من بين أسوأ 25 شركة؛ إذ توقَّعت شركة "ماكينزي" أنَّ أيَّة شركة عند هذا المستوى من القائمة ستتوقف عن العمل في غضون عامين.

وفي حالة من اليأس، فعل مجلس الإدارة ما تفعله العديد من الشركات: حاول جلب رئيس تنفيذي منقذ. وفي عام 2010، عيَّنوا "ستيفن إيلوب" (Stephen Elop)، وهو مسؤول تنفيذي من شركة "مايكروسوفت" (Microsoft) ليصبح أول شخص غير فنلندي يُدير الشركة التي يبلغ عمرها 150 عاماً.

أوضحت عبارته الشهيرة حالة الشركة حينها، إذ قال: "لقد صببنا الزيت على النار، ولقد افتقرنا إلى المساءلة والقيادة الحكيمة التي تدفعنا إلى تنظيم الشركة وتوجيهها خلال هذه الأوقات المضطربة؛ فلم نقدِّم الابتكارات بالسرعة الكافية، ونحن لا نتعاون داخلياً".

إنَّ معرفة أنَّك في أزمة أمر ضروري للبقاء، لكنَّه نادراً ما يكون كافياً.

لقد انتهت الكثير من الشركات لهذا السبب، مثل شركة "شاربر إيميج" (Sharper Image) و"واشنطن ميوتال" (Washington Mutual) و"ليمان براذرس" (Lehman Brothers) وتويز آر أص (Toys "R" Us)، وتمثلت ردود فعلها المُعتادة بتسريح العمال وخفض التكاليف وتقديم النصائح للعمل بجدية أكبر، وهي أمور تبعث على السخرية والانقسام والازدراء.

يتطلب وضع الخطط لمستقبل لا يمكن لأحد رؤيته شكلاً من أشكال الخيال المتخلف، فعندما يكون الوقت ضيقاً والمال ينفد، لا تستطيع الشركة تحمُّل الخيارات المزدوجة؛ بل تحتاج إلى اتخاذ الكثير من الخيارات، ولكن تحت الضغط، يصبح التفكير عادة أكثر تقييداً وابتذالاً وتصلباً بسبب الخوف.

كانت شركة "نوكيا" (Nokia) محظوظة برئيسها الجديد، فقد كان "ريستو سيلاسما" (Risto Siilasmaa) من حيث الخلفية والعقلية رائد أعمال معتاداً على المخاطرة والتفكير بحرية وحده. وبصفته عضواً في مجلس الإدارة، شعر طوال أربع سنوات بالانزعاج من إجراءات الشركة الرسمية والمتساهلة، وكانت لديه الآن السلطة للتدخل وفرض التحديات عليها.

شاهد بالفديو: السمات الثمانية للقيادة الرشيدة عند الأزمات

ما ميَّز منهجه هو أنَّه في الوقت الذي يضيق فيه التركيز عادةً، كان "سيلاسما" (Siilasmaa) مستعداً للتفكير خارج الصندوق، وبدلاً من محاولة شق طريقه نحو الازدهار، حثَّ أعضاء مجلس الإدارة والموظفين وشجعهم ودفعهم للتشكيك في كل شيء، فليست هناك فكرة ممنوعة، ولن تكون الشركة رهينة القدر، ولا مجال للإذعان.

لقد طبَّق خططاً متعددةً سريعةً، مقدِّماً ترتيبات متنوعة لشركة "نوكيا" (Nokia) الجديدة، حيث يقول: "عندما تعلم أنَّك لا تستطيع التوقف، فمن السهل الاستمرار".

تبدو فكرة بناء مجموعة متنوعة من السيناريوهات واختبارها واضحة، لكنَّ معظم الشركات التي تمرُّ بأزمات تعمل بجدٍّ لبناء خطة واحدة مثالية، وغالباً ما تتسبب التعقيدات في تقليص خياراتها عندما تحتاج إلى توسيعها.

ما فاجأ "سيلاسما" (Siilasmaa) هو أنَّ التفكير مع موظفيه ساعد الجميع على الثقة في بعضهم، فلاحظ أنَّه عندما تشعر أنَّ الآخرين ينصتون إليك، فأنت تقدِّرهم؛ لذا لقد كانت طريقة رائعة للمديرين التنفيذيين ومجلس الإدارة للتعلم والبحث، وهي طريقة سريعة وتحويلية للحصول على مساهمة أعمق وأكثر ثراءً من الجميع.

رفضوا الثقة في أنَّ أيَّة خطة واحدة ستثبت أنَّها مثالية، واستمروا في إعادة تجميع أجزاء مختلفة من الحل، وبحلول عام 2013، وجدت الشركة الخطوة الأولى: إنَّ بيع الهواتف المحمولة لشركة "مايكروسوفت" (Microsoft) من شأنه أن يُكسِب الشركة الوقت. لقد أقنع أسلوب "سيلاسما" (Siilasmaa) الاستشاري الهادئ المدير التنفيذي لشركة مايكروسوفت "ستيف بالمر" (Steve Ballmer) المعروف بأنَّه شخصٌ شديد الانفعال بالتفاوض بحسن نية.

لم يفكر "سيلاسما" (Siilasmaa) في أي وقت من الأوقات في أنَّ شركة "نوكيا" (Nokia) هي مجرد كيان مالي؛ بل شكَّلت الشركة معنى كبيراً للموظفين وشركاء الأعمال والعملاء والأمة الفنلندية ككل، وكلهم فخورون بالعمل التجاري الذي كان رائداً في واحدة من أروع شركات التكنولوجيا في حياتهم؛ لذا لا يمكن حل أزمة "نوكيا" (Nokia) عن طريق التنازل عن المعايير؛ بل بالارتقاء إليها.

لم يكن "برنامج الجسر" (bridge program) الخاص بالشركة تعبيراً نموذجياً عن تسريح الموظفين؛ بل قدَّم هذا البرنامج التابع للشركة التدريب على الوظائف الجديدة، أو المال من أجل التعليم أو دعم المشاريع الريادية أو المساعدة للعثور على عمل مع شركة جديدة، وبنَت الطريقة التي عومِل بها زملاؤهم الثقة والطاقة بين مَن بقوا.

عندما تمت صفقة "مايكروسوفت" (Microsoft)، بكى الكثيرون في الشركة، لكنَّ الأزمة لم تنته بعد، فماذا سيحدث للأصول المتبقية للشركة غير المتماسكة استراتيجياً؟

مرة أخرى، بحث "سيلاسما" (Siilasmaa) وفريقه عن ترتيبات عدة لشركة جديدة حتى وجدوها أخيراً في عام 2016، مع الاستحواذ على شركة "ألكاتل لوسنت" (Alcatel-Lucent)، برزت "نوكيا" (Nokia) بصفتها واحدة من أكبر ثلاث شركات للبنية التحتية للاتصالات في العالم.

إقرأ أيضاً: القيادة في الأزمات وكيفية التصدي للتحديات

كلما أرسلتَ شيئاً اليوم إلى الإنترنت، فإنَّه يمر عبر معدات أو برامج شركة "نوكيا" (Nokia) في مكان ما على طول الطريق؛ فهي واحدة من عدد قليل جداً من صانعي البنية التحتية للإنترنت (بخلاف الشركات الصينية).

قصة "نوكيا" ليست ميلودراما أنيقة للموت والبعث؛ بل هي ملحمة من الظروف القاسية والتفاوض المميز الذي أُجرِي بصبر وخوف من قِبل آلاف الأفراد الذين تمثل الشركة بالنسبة إليهم أكثر من مجرد وظيفة، ويمثِّل زملاؤهم أكثر من مجرد وحدات إنتاج اقتصادية.

ربما ساعد الشركة قدرتها على إعادة الابتكار، ففي عام 1865، بدأت كمصنع للأخشاب وأصبحت مولِّداً للطاقة ثم شركة تصنيع الكابلات الكهربائية والأحذية المطاطية وإمدادات الطاقة، ويدور إرث الشركة كله حول التغيير والتكيف والتجديد، وعند البحث عن صورة تمثِّل مستقبل الشركة، فلا عجب أن يشير "سيلاسما" (Siilasmaa) إلى السبورة البيضاء الفارغة.

كان التفكير الاستراتيجي الخلاق، والاستعداد للنظر في أيَّة فكرة، ضروريَين لبقاء "نوكيا" (Nokia)، لكنَّهما لم يكونا كافيَين، وهنا جاء دور العلاقة الهامة بين قادة الشركة، التي أدَّت إلى توليد هذا التبادل المفتوح للأفكار.

على الرغم من أنَّ "سيلاسما" (Siilasmaa) كان ينتقد مجلس إدارة الشركة في البداية، إلا أنَّه عرف مع مرور الوقت مقدار اهتمامهم بشركتهم التجارية، وعندما عملوا معاً لإنقاذها، تعمَّقت العلاقات الرسمية بينهم.

ما مكَّن "نوكيا" من البقاء هو الالتزام العاطفي الذي قطعه قادتها تجاه بعضهم؛ حيث قال "سيلاسما" (Siilasmaa): "في مجال الأعمال، ننسى أنَّنا بشر؛ حيث يعتقد العديد من القادة الأقوياء أنَّه لا ينبغي أن يكونوا أصدقاء مع زملائهم، ولكنَّ هذا خاطئ؛ فالعمل عاطفي، ويجب أن نكون أصدقاء مع زملائنا، فنحن نتجاوز الأزمات لأنَّنا نهتم ببعضنا كثيراً".

يمكن أن يكون التاريخ مكسباً، ليس لأنَّه يكرر نفسه؛ بل لأنَّه يضع المعايير ويجعل الناس يشعرون أنَّهم ينتمون إلى شيء أكثر أهمية من الأوضاع المؤقتة، مثل الكاتدرائيات، والشركات القديمة التي لها معنى، لو كانت تنطق لقالته لنا؛ حيث اكتشف "آلان مولالي" (Alan Mulally) هذا عندما كان يترأس شركة "فورد" (Ford) في أثناء الأزمة المالية، وقضى عطلات نهاية الأسبوع في أرشيف الشركة، يبحث عن صور وقصص تربط مرونة ماضي الشركة بمتطلبات المستقبل.

وبالمثل، عندما أسقط تاجر متمرد "بنك بارينغز" (Barings Bank) في عام 1995، كان تاريخ البقاء هو أول ملاحظة للأزمة، "لقد حدث مجدداً ما حدث في عام 1890"، قد يبدو هذا وكأنَّه رمز سري، ولكنَّ المعنى كان واضحاً بالنسبة إلى محامي الشركة "نيكولاس جولد" (Nicholas Gold).

كان ذعر "بنك بارينغز" (The Barings Bank Panic) عام 1890 أسطورياً، عندما كاد الدين الأرجنتيني أن يتسبب في انهيار مالي عالمي، ويبدو أنَّ حدوث مثل هذا الشيء مرة أخرى أمر لا يمكن تصوره، ولكن عندما انضم "جولد" (Gold) إلى اجتماع المديرين، علِم أنَّ البنك قد خسر كل شيء باستثناء 10000 جنيه إسترليني.

جلس الرئيس، "بيتر بارينغ" (Peter Baring)، غير مصدِّق: "لا يُعقل أن يحدث ذلك، لا يُعقل أن يحدث ذلك".

يقول "جولد" (Gold) إنَّ إدارة الأزمات هي ما يجيده؛ حيث قضى حياته المهنية بأكملها في تقديم المشورة للمديرين التنفيذيين تحت الضغط، سواء الساعين منهم وراء الاستحواذ على شركة أخرى أم المهددين من شركة أخرى، ففي العام الماضي، صُنِّف الجزء الخاص به من الأعمال في شركة "بارينغز" (Barings) كأفضل شركة استشارية في مدينة لندن، متقدماً على شركة "جولدمان ساكس" (Goldman Sachs) وشركة "وارباغ" (Warburg).

كان "جولد" فخوراً بسمعة الفريق وعازماً على حمايته، لقد كان براغماتياً، ففي أثناء عمله على محاولة شركة "غلاكسو" (Glaxo) العدائية لشراء "شركة ويلكوم" (Wellcome)، كان يعلم أنَّ عمل موكله عند الانتهاء سيجلب للبنك 10.5 مليون جنيه إسترليني، ومهما حدث، فإنَّ هذا المال يمكن أن يكسبه الوقت، وقد يكون القسم التجاري للبنك في حالة من الفوضى، ولكنَّ تمويل الشركات سوف يظل مثمراً.

إقرأ أيضاً: أنواع الأزمات وكيفية إدارتها

جاءت الأفكار من كل مكان خلال عطلة نهاية الأسبوع، وكان "بارينغز" (Barings) اسماً مبجَّلاً في هذا المجال وكان المصرفيون يأملون في إنقاذه، هل سيتدخل بنك إنجلترا، كما فعل من قبل؟ وماذا عن بنك اليابان؟ وهل يمكن للبنوك الأخرى أن تغطِّي خسائر "بارنغز" وتبقيه واقفاً على قدميه؟ وهل يمكن لمؤسسة بارينغ الخيرية أن تتولى البنك التجاري؟

امتلك "تومي سوهارتو" (Tommy Suharto) نجل رئيس إندونيسيا، ما قيمته 17 مليار دولار من البلاتين، ربما يمكن استخدام ذلك كضمان لإعادة رسملة البنك، اقترح السيناريو الواعد أن يكون العميل السابق، "سلطان بروناي" (Sultan of Brunei)، قادراً على المساعدة، لكنَّ بنك إنجلترا سيظل بحاجة إلى ضمان الصفقة.

ولكن مع أفول عطلة نهاية الأسبوع الطويلة، فشلت الأفكار كلها؛ فلن يتدخل بنك إنجلترا، ولم تستطع البنوك الأخرى المساهمة بشكل كافٍ، ولم يكن "سوهارتو" على مستوى التحدي، وإنَّ تكليف مؤسسة خيرية بمسؤولية أحد البنوك سيجعل العمل مستحيلاً، وفي الساعة 8:36 مساءً، وردت أنباء تفيد بأنَّ "سلطان بروناي" قرَّر عدم التقدُّم.

تردد صدى الأخبار في قاعة التداول في الساعة 9 مساءً: انهار بنك "بارينغز" (Barings)؛ حيث بكى الرئيس التنفيذي "بيتر نوريس" (Peter Norris)، وبقي خياران فقط: رهن البنك أو بيعه، لكنَّه كان مثقلاً بالديون، فما الذي بقي منه للشراء؟

كانت جميع الديون على الجانب التجاري للبنك، وتكمن كل قيمته في تمويل الشركات، وستبقى قيمته فقط إذا بقي الفريق، وكان في إمكانهم جميعاً الحصول على وظائف في مكان آخر، لكنَّ "غولد" (Gold) قال إنَّهم لم يترددوا ولو للحظة في البقاء؛ وذلك لأنَّ الطريقة التي عملوا بها في "بارينغز" (Barings) كانت مختلفة تماماً؛ "لقد كانت إنسانية وبشرية، وأردنا الاحتفاظ بها على هذا النحو".

في النهاية، بِيع بنك "بارينغز" (Barings) إلى بنك هولندي صغير غير معروف يُدعى "آي إن جي" (ING)، مقابل 1 مليار جنيه إسترليني ودينٍ قدره مليار جنيه إسترليني، وانهار الجانب التجاري لبنك "بارينغز" (Barings)، لكنَّ تمويل الشركات استمر.

وفي العام اللاحق، كان مرة أخرى، أفضل شركة استشارية في المدينة، وبقي "غولد" (Gold) يعمل فيه حتى تقاعده بعد 14 عاماً.

عندما سُئِل كيف تمكَّن من تجاوز مثل هذه الأزمة الهائلة والبقاء هادئاً، ضحك، وكان دائماً غير مرتاح للمديح، لكنَّه اعترض على جودة زملائه، وكان يعتقد أنَّ تناول الغداء معاً كل يوم جعلهم متَّحدين، وحدد مصدراً آخر للقوة: لقد عمل دائماً على أساس أنَّ أي شيء يمكن أن ينتهي غداً؛ لذلك عاش على راتبه، ولم ينفق مكافأته أبداً.

أدى عدم الاعتماد على البنك إلى جعله صريحاً بشأن ما هو على المحك؛ أي البنك نفسه، وليس أمانه المالي الشخصي، وقال إنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة لعدم الخلط بين ما قد يكون أفضل للمؤسسة وما قد يكون مفيداً لك.

لكنَّ الباحثين عن الكفاءات معروفون بتداولهم الأخبار الدقيقة عند حدوث أيَّة أزمة، فما الذي جعل الفريق متماسكاً؟ ضحك "غولد" مرة أخرى، متذكِّراً كيف كان الجميع يرون أنفسهم أرفع الموظِّفين شأناً، "أردنا العمل معاً، لقد أحببنا "بارينغز" (Barings)، لقد أحببناه وحسب".

نجت شركتا "نوكيا" (Nokia) و"بارينغز" (Barings)؛ لأنَّهما كانتا تعنيان الكثير للأشخاص الذين عملوا فيهما، لقد دافعتا عن الابتكار والتحمُّل والصدق العادل، فهذه الصفات التي كانت هامةً بدرجة كافية للاستفادة من قدرات القوى العاملة لديهما من التحمل والإبداع والتصميم، ومع شغف حقيقي بالمكان والناس فيه، عملوا من أجل ما هو أكثر من المال.

كثيراً ما يقال في مجال الأعمال التجارية إنَّ النقد هو الملك في الأزمات، وهناك حقيقة قاسية يجب قولها هنا: "إنَّ المال يشتري الوقت لصياغة استراتيجية البقاء"، لكنَّ ما لن يشتريه المال هو الدافع الذي يحتاجه الناس للاستمرار، لتحمُّل الإذلال والتهميش والغضب والحزن، وتوفر الروابط العميقة والثقة والاهتمام الذي يبنى مع مرور الوقت فقط ذلك.

في "بارينغز" (Barings)، وجد "غولد" (Gold) ذلك في زملائه الذين كان يتناول الغداء معهم كل يوم، كان لديه أيضاً مورد آخر، ففي اليوم الذي انتشرَت فيه الأخبار، بعد التخطيط الاستراتيجي، وبعد اجتماع الإدارة، كان رأسه يترنح بسبب ضغط العمل، اتصل هاتفياً بأقرب أصدقائه، قال: "كان عليَّ فقط أن أتحدث إلى شخص يفهم؛ يفهم ما كان يعنيه ذلك بالنسبة إليَّ، هذا المكان القديم الذي كان يتمتَّع بالكرامة، والذي كان دائماً حريصاً جداً، لقد كانت أكثر تجربة محطمة وعاطفية في حياتي".

نادراً ما يجري الحديث عن الصداقة في مستوى الإدارة من الشركات، ولكن يجب أن يحدث ذلك؛ فلا أحد ينجو من هذه الأزمات وحده، وللناجين أصدقاء، فليس بالضرورة أن يكونوا أشخاصاً يعملون في مجال الأعمال التجارية ولكنَّهم يعرفون شكلها، وماذا تعني؛ أصدقاء لا يضمرون سوى الخير.

كل قائد أعمال ناجح عرفته أو عملت معه لديه مثل هؤلاء الأصدقاء، ويمكن لكل فرد أن يصف الأزمات التي عانوها ونجوا منها بمساعدة بعضهم بعضاً، هذه العلاقات ليست معاملات، وليست شبكات، ويشير بعض القادة إلى أصدقائهم على أنَّهم "نجمهم الشمالي"، وبعضهم الآخر على أنَّهم الجسر بين الفكر والشخصية، فمَن ينقذ الأشخاص من الأزمات هو بعضهم بعضاً.

المصدر




مقالات مرتبطة