غسيل الأدمغة: تاريخ كئيب ينبغي عدم تجاهله

في عام 1937، حُكِم على الزعيم البلشفي جورجي بياتاكوڤ (Georgy Pyatakov) في موسكو بتهمة الخيانة والتخريب وغيرها من الجرائم المزعومة ضد الاتحاد السوڤييتي.



قدم بياتاكوڤ اعترافاً كاذباً حينها قائلاً: "ها أنا أقف أمامك كمخلوقٍ قَذِر، مُهان بسبب جرائم ارتكبتُها بيدي، ومجرَّد من كل شيء بسبب أخطائي، رجل فقد حزبه، وليس لديه أصدقاء، وفقد عائلته، فأنا الرجل الذي فقد نفسه". وقد أُعدِم بياتاكوڤ بسبب جرائمه المزعومة هذه بعد ذلك بوقت قصير، وكان واحداً من بين العديد غيره.

كيف أقنع السوڤييت الكثير من المتهمين بالإدلاء بشهاداتهم على هذه الأكاذيب؟ كان بعض المراقبين مقتنعين بأنَّهم طوروا أداة سرية لإجبار الناس على فعل وقول الشيء. لم يكن الأمر يتعلق فقط بقدرتهم على إجبار الناس على الكذب وقول أشياء محددة؛ ولكنَّ الأمر الأغرب هو أنَّ ضحاياهم كانوا يصدقون فعلاً الأكاذيب التي يقولونها.

استعمل السوفييت عدداً من الأساليب للحصول على الاعترافات، ولم يخجلوا من اللجوء إلى أساليب وحشية. بعض الاعترافات الموقعة والموجودة في الأرشيف تكشف بقع دماء. كان يتم استجواب المتهمين بشكل متكرر حتى يأتي وقت يشعرون بأنَّهم "آليون". كانوا يُعزَلون في الحبس الانفرادي، ولكن على مسافة قريبة من السجناء الآخرين الذين كانوا يتعرضون للضرب على مسامعهم.

في البداية لم يكن هناك مصطلح مُستَعمَل على نطاق واسع لشرح مثل هذه المحاولات للإقناع القسري؛ لكنَّ ذلك تغير إثر انتصار مؤسس جمهورية الصين الشعبية ماو تسي تونغ (Mao Zedong) في الصين والحرب الكورية التي تلتها بعد بضع سنوات.

يُنسَب إلى إدوارد هانتر (Edward Hunter)؛ أحد الدعاة والمروجين في مكتب الخدمات الاستراتيجية في الولايات المتحدة في زمن الحرب، الفضل في ابتكار مصطلح "غسيل الدماغ" في عام 1950 لتفسير الاعترافات الغامضة التي انتُزِعت من أسرى الحرب.

بعد المعاملة الوحشية، لم يعترف بعض الضحايا بتهم غير صحيحة فحسب؛ بل بدوا أيضاً متعاطفين مع سجَّانيهم. ظهر غسيل الدماغ لاحقاً بشكل بارز في فيلم "المرشح المنشوري" (The Manchurian Candidate)؛ إذ يشرح الدكتور ين لو (Dr Yen Lo) الشرير لأحد المتآمرين الشيوعيين أنَّ سجينه الأمريكي "الذي وبعد أن دُرِّبَ على القتل، لم يتذكر أنَّه قتل؛ إذ إنَّه لم يُغسَل دماغه فقط؛ بل جُفِّفَ أيضاً".

مع هذا التاريخ، لا عجب أن يُنتَقدَ مفهوم غسيل الأدمغة الذي يبدو كل شيء يتعلق به كئيباً وتفوح منه رائحة الحرب الباردة والعلم المشكوك فيه.

يعتقد بعض الناس أنَّ هذا المصطلح قد استُعمِل كسلاح لمهاجمة أتباع الحركات الجديدة. يكره آخرون هذا المصطلح لأنَّه يبدو أنَّه يلوم الضحايا لكونهم ساذجين وضعفاء، على الرغم من أنَّ بعض حالات ضحايا غسيل الدماغ شملت أفراداً موهوبين جداً.

لكنَّ بعض الناس يغفلون حقيقة أنَّ هذا النوع من الإقناع المظلم يحدث في حالات متطرفة؛ أي عندما يصل الضحايا إلى مرحلة خسارة عقولهم حرفياً.

شبَّه الفيلسوف لودفيغ فتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) الكلمة الجديدة ببذرة جديدة زُرِعَت في أرض النقاشات، لكن ربما تُشبه أيضاً نبتة ضارة.

فضَّل بعض الخبراء مصطلح "الإقناع القسري" لشرح السلوكات غير العادية التي لوحظت بين أسرى الحرب والرهائن الذين - وللمفارقة - انحازوا إلى مهاجميهم أو قدموا اعترافات كاذبة ومدمرة للذات بشكل واضح.

وعلى الرغم من أبحاث الخبراء حول هذا الموضوع، ما يزال الكثيرون يَعُدُّون غسيل الدماغ بمنزلة خرافة وقصة شبح من الماضي.

"الإقناع القسري" - الذي سوف نستعمله بشكل متكرر ومُتبادَل مع مصطلح "غسيل الدماغ" - هو مصطلح يصعب مناقشته بشكل أكبر. من الواضح أنَّه يمكن إجبار الناس على فعل أشياء، ولكن يبدو أيضاً أنَّه يمكن إجبار الناس على تصديق الأشياء في ظل ظروف معينة. يمكننا أن نرى هذا كثيراً في حالات الاعترافات الكاذبة، ومتلازمة ستوكهولم (حيث يطور الرهينة ولاءه لآسرِه).

شاهد بالفديو: كيف تمتلك مهارة الإقناع والتأثير في الآخرين

حتى إنَّ هناك قلقاً اليوم من أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تحاول إقناع المتابعين بشكل قسري، بمحاولة تلقين الناس معلومات غير معقولة، ومن ثمَّ تصديقها، على سبيل المثال: انتشار شائعة أنَّ "اللقاحات تسبب التوحد"، أو أنَّ "فيروس كورونا لا يستحق القلق بشأنه".

هل يمكن أن تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في الإقناع القسري؟ للإجابة عن هذا السؤال، يحتاج المرء إلى معرفة أنواع المواقف التي تؤدي إلى الإقناع القسري بشكل أوضح.

يمكن تسمية عالم الفيزيولوجيا الروسي والحائز على جائزة نوبل إيفان بافلوف (Ivan Pavlov) بأب علم الإقناع القسري. فعندما فاض نهر نيڤا (Neva) في مدينة سانت بطرسبرغ في عام 1924، كوَّنَ بافلوف رؤى فريدة من نوعها حول آثار الصدمة في السلوك.

غمر النهر معمل الكلاب الخاص به وكادت تغرق كلابه المحبوسة في الأقفاص. وما حدث فيما بعد هو أنَّ بافلوف لاحظ أنَّ الكلاب بعد الحادثة لم تكن هي نفسها قبلها؛ لقد نسوا سلوكاتهم المكتسَبة، والصدمة غيرت تصرفاتهم.

كان بافلوف، صاحب التجارب المستمرة على الدوام، يعيد تعريض أحد كلابه المصابة بصدمة نفسية لقطرات من الماء في الغرفة التجريبية؛ وهذا أدى مرة أخرى إلى تعطيل استجابة الكلب المُدرَّب.

بفضل صبره ومهارته الهائلَين، تمكَّن بافلوف من تهيئة كلب للاستجابة إلى نوتة معينة على السلم الموسيقي. والحقيقة التي أذهلَته هي فكرة إمكانية الصدمة تعطيل مثل هذا التدريب الدقيق.

كان الزعيم السوڤييتي لينين (Lenin) مفتوناً بإمكانية استعمال نهج بافلوف للتأثير في الشعب الروسي. وقدمت الحكومة السوفيتية دعماً مالياً لمعهد أبحاث يضم مئات الموظفين. لاحظ بافلوف أنَّ بعض العوامل كالشعور المفاجئ بالتوتر والحرمان من النوم والعزلة والصبر الممنهج ساهمَت جميعها في تغيير سلوك الكلاب.

ظهرت إرهاصات غسيل الدماغ خلال فترات متلاحقة في أثناء تجارب ستالين (Stalin) في ثلاثينيات القرن الماضي، وخلال الأربعينيات من القرن الماضي عندما بحثت الحكومات في زمن الحرب عن المخدرات لتسريع الاستجواب، وفي أوائل سنوات الحرب الباردة عندما تسابقت الحكومات لإقناع الأعداء بالانشقاق.

طوال القرن العشرين، استثمرت الحكومات بكثافة في البحث عن الإقناع القسري؛ إذ تعاونت الوكالات الحكومية والمؤسسات والجامعات في إجراء دراسات مكثفة حول استعمال الأدوية لتغيير السلوك أو استخراج المعلومات.

إقرأ أيضاً: فن الإقناع: تعريفه، ومراحله، وأهم أدواته

كما أظهروا أنَّ الحرمان الحسي وتقييد النوم يزيدان من إمكانية القابلية للإقناع، على سبيل المثال: في أحد خطوط البحث، استمع الأشخاص لتسجيلات صوتية مقنعة حول موضوع معين، وبعضهم فعل ذلك في أثناء وضعهم في غرفة مظلمة وهادئة للتعرض للحرمان الحسي.

بعد الانتهاء من تجاربهم، مال المتطوعون في حالة الحرمان الحسي إلى إظهار اهتمام أكبر بالموضوعات، وفي بعض الحالات ظهر عليهم تأثير التسجيلات بشكلٍ جليٍّ أكثر.

يبدو أنَّ الإقناع القسري يكون أكثر فاعلية عندما تكون الضحية معزولة عن الآراء والمعتقدات الأخرى. كنتُ لأتمنى أنَّ كل هذه الدراسات استخدمَت متطوعين؛ لكنَّ بعض التجارب التي تنطوي على استخدام مخدرات قد أُجرِيَت على ضحايا غير واعين.

في دراسة "ذروة منتصف الليل" (midnight climax) في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، استأجر عملاء وكالة المخابرات المركزية شقة في سان فرانسيسكو (San Francisco) واستأجروا فتيات لإدخال عقار ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (LSD) المخدر في مشروب عملائهم لمعرفة ما إذا كانوا سيفشون المعلومات بسهولة أكبر.

ومن ثمَّ، فإنَّ لغسيل الدماغ تاريخاً أكثر جوهرية مما قد يبدو عليه للوهلة الأولى؛ لكنَّه سيبدو دائماً وهمياً ما لم تكن هناك طرائق واضحة لتقييمه. إذن ما هي خصائصه المحددة والقابلة للقياس؟

أولاً، يتضمن الإقناع القسري عادةً تلاعباً خفياً؛ فقد لا يعرف الأفراد حتى أنَّهم مستهدفون. علاوة على ذلك، يتم اتخاذ إجراءات وأفعال معينة على حساب الأفراد المستهدفين بحيث يستفيد شخص آخر من هذا التلاعب.

فغالباً ما يكون الحرمان من النوم إلى درجة معينة جزءاً من النظام المُتَّبَع؛ وهذا يترك الضحية مرهَقة ومُربَكة؛ لذا وكما يبدو، فإنَّ الإقناع القسري يكون أكثر فاعلية عندما تكون الضحية معزولة عن الآراء والمعتقدات الأخرى.

كتجربة فكرية، دعنا نقترح لك كيف يمكن تصنيف هذه الحالات وفحص كيفية ظهورها في الحالات الموثقة. هناك عدد لا يُحصَى من الأمثلة عن غسيل الدماغ المزعوم؛ لكنَّ العديد من الخبراء سيشملون اعترافات البلاشفة خلال "محاكمات موسكو" لـ ستالين في أواخر الثلاثينيات وسلوك الكاردينال المجري جوزيف ميندزنتي (József Mindszenty) خلال محاكمته عام 1949.

سيُصنِّف معظمهم أيضاً الطريقة التي عومِلَ بها بعض أسرى الحرب الأمريكيين في أثناء الحرب الكورية وبعض ضحايا تجارب مشروع إم كي ألترا (MKUltra) السري لوكالة المخابرات المركزية في الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي على أنَّها محاولات لغسيل دماغ.

في الحقيقة، أحد البرامج الممولة من إم كي ألترا في مونتريال عرَّضت الناس للعلاج بالصدمات الكهربائية المكثفة، ولجرعات متكررة من عقار (إل إس دي) المخدر، وربع مليون أو أكثر من الأشرطة التي توثق كيفية تغيُّر سلوكهم.

أخيراً، حريٌ بنا النظر في الحالات التي تُستَعمَل فيها أساليب الإقناع بالإجبار التي يمكن القول إنَّها فتاكة. ستُحقِّق هذه الحالات درجة عالية في المتغيرات التي من المفترض حدوثها في حالة الإقناع القسري، في حين أنَّ حالات الإقناع المجرد ستسبب تغيرات بدرجات منخفضة.

عند تقييم كل حالة من هذه الحالات المزرية، علينا طرح هذه السلسلة من الأسئلة:

هل حدث تغير في نظام النوم للضحايا؟

عادةً ما يُستعمَل النوم كطريقة فعالة للتلاعب بالضحايا سواءً من قِبَل المحققين أم مُحتجزي الرهائن أم الطوائف.

غالباً ما تبدأ جهة معينة بطقوسها على الضحايا بعد فترة من حرمانهم من النوم. عندما يقل النوم، تتدهور القدرة على إطلاق أحكام صحيحة ويصبح الناس أكثر قابلية للإذعان، كما يمكن للمرء تقييم شدة تأثير التلاعب بالنوم كأسلوب لغسيل الدماغ من خلال قياس تكرار فرضه بشكل متسق وشامل.

من بين الأشياء القليلة التي يبدو أنَّ العديد من المحافظين والليبراليين يتفقون عليها هي قدرات الإقناع المُظلِمة التي تملكها وسائل التواصل الاجتماعي، فهل كان هناك دليل على وجود عزلة قسرية بشكلٍ أو بآخر؟

حسناً، يُعَدُّ الحرمان الحسي والعزلة عن الأصدقاء والعائلة أمرَين ضروريَّين لحدوث الإقناع القسري. يمكن للمرء أن يُقيِّم مدى هذه العزلة من خلال البحث عن إجابات لهذه التساؤلات:

هل تُمنَع الضحية من مغادرة المكان أو التواصل مع الآخرين، أو مجرد تثبيطها من التواصل مع الغرباء؟ وما هو مقدار السيطرة الخفية التي فُرِضَت على الضحايا؟

إقرأ أيضاً: 5 طرق مميّزة لتحافظ على نظام نوم ثابت

هل جرى إعطاء الضحايا أدوية تجعلهم غير واعين؟

وإن حدث ذلك، فهل تم على مرحلة واحدة أم مرات عدة؟ وهل تمت العملية بشكل خفي؟

هل أُجبِرَ الضحايا على المشاركة في طقوس تُحرِّض على جعلهم يشعرون بالذنب أو تحطُّ من قدرهم أو ربما وُضِعوا بموقف يتعرضون فيه لانتقاداتٍ جماعية قاسية؟

هل كانت المشاركة في مصلحة الضحية أم لمصلحة شخص آخر؟

يحدث الإقناع القسري عادةً في الأماكن التي تتعرض فيها حرية الضحية وسلامتها للخطر وحيث يستفيد شخص آخر من تدهور حالة الشخص المعني أو الضحية.

لذا، فمن الممكن تقييم هذه الحالة من خلال معرفة إلى أي مدى تتضمن التكتيكات الإقناعية المُتَّبَعة سجن الضحايا أو تعريض سلامتهم للخطر.

فإذاً عندما يتضح تحقق هذه الشروط، ستكون فكرة تعرُّض الضحايا للإقناع القسري راجحة. لنأخذ بلدة جونستاون (Jonestown) على سبيل المثال، فقد تم تقييد سكان هذه البلدية من المغادرة، وجُعِلَ التواصل مع الغرباء محدوداً بشكل حاد، كما وتم إجبارهم على الإدلاء باعترافات مهينة وحرمانهم من النوم بشكل مزمن؛ وكنتيجة لهذا الحصار وبعد انتهائه، توفي أكثر من 900 شخص بعد أن ضحى بهم زعيمهم.

إنَّ الحديث عن الإقناع القسري وتضمينه في سياق أو آخر ليس بالضرورة لوضع المتلقي بين خيارين إما الأبيض أو الأسود؛ إذ إنَّ هناك حالات مُعاصِرة تجعلنا نأخذ ظهور اتجاهات جديدة في الإقناع في الحسبان. وكما ذكرنا آنفاً، إنَّ إمكانية إجراء الإقناع القسري بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي هي فكرة مثيرة للتساؤل.

فهذا الاستفسار يحتاج إلى دراسة متأنية، وقد تكون التساؤلات الممكن طرحها: هل يمكن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لعزل الناس أو إكراههم أو جلب الشعور بالعار لهم؟ وإن حدث هذا التلاعب، فهل يتم بشكلٍ خفي أم أنَّه يحدث بوضوح؟

هل يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تشجع الناس على المخاطرة بسلامتهم لضمان سلامة الآخرين؟ وهل من الممكن أن تتدخل وسائل التواصل الاجتماعي في أنظمة نوم مستعمليها؟

منذ أكثر من قرن، تجمَّعَت وتراكمت الملاحظات والمشاهدات التي تُظهِر أنَّه يمكن إجبار الناس على فعل أمور معينة وإقناعهم قسراً بتصديقها؛ لذا سيكون من غير المنطقي رفض وعدم تقبل هذه الدلائل.

إذا تجاهلنا التطورات المحتمل حدوثها لغسيل الأدمغة في القرن الحادي والعشرين، فسنكون جميعنا عُزَّل وضحايا بسهولة إن وُضِعنا أمام حالات كهذه.

المصدر




مقالات مرتبطة