دراسة حول فوائد التفاؤل والآثار المترتبة عليه

نسمع هذه الأيام كثيراً عن الفوائد المفترَضة للتفكير الإيجابي، مع تزايدٍ مستمر للتطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي التي تدَّعي تحسين سعادتنا وتفاؤلنا. وقد نجم هذا التركيز جزئياً عن عقود من الأبحاث التي بيَّنت فوائد التفكير الإيجابي على الصحة العقلية والنفسية. يبدو الترويج للإيجابية والتفاؤل جديراً بالثناء، لكنَّك قد تتساءل ما إذا كان الأمر سهلاً للغاية، ففي النهاية ما هي التكاليف المُحتمَلة له؟



التوقعات الإيجابية:

إذا توقَّع الناس دوماً تحقيق أهدافهم، ومستقبلاً لامعاً، أليس هناك خطر من إصابتهم بالتقاعس في أثناء انتظار حدوث الأشياء الجيدة؟ وإذا ما فشلوا في بلوغها، ألن يخيب أملهم بشدة لامتلاكهم تلك التوقعات الإيجابية؟

سعيتُ وزملائي للتطرُّق إلى هذه الأسئلة في بحثنا الجديد. وبالعمل معاً، توحي نتائجنا بطرائق يمكنك الاستفادة منها لتعزيز تفاؤلك، مع تقليل العواقب إلى الحد الأدنى.

انبثق مشروعنا النوعي عن عقود من الأبحاث التي تُظهِر أهمية التوقعات للأشخاص وأنَّهم - عموماً - مُفرِطو التفاؤل غالباً. تقود توقعاتك المستقبلية قرارات حياتك، وهذا ينطبق على القرارات الصغرى؛ كإحضار مظلةٍ أم لا اعتماداً على احتمالية هطول الأمطار، كما أنَّه صحيح أيضاً فيما يخصُّ القرارات الهامة؛ كاختيار مهنةٍ ما بناءً على احتمالية النجاح والقناعة.

تؤثر توقعاتك المستقبلية في سعيك لهدف ما من عدمه، ومقدار المجهود الذي تبذله فيه، ووقت استسلامك، كما تؤثر في مشاعرك أيضاً؛ إذ يشعر الناس بالراحة حين يبدو المستقبل منحازاً لرغباتهم، وبالسوء عندما يبدو كئيباً أو عندما تخيب الآمال فجأة.

وعلى الرغم من أنَّ التوقعات عمَّا هو مُرجَّحٌ في المستقبل حاسمةٌ للخيارات، فهي غالباً خاطئة. والمثير للاهتمام أنَّها خاطئة دوماً بكونها تفاؤليةً جداً.

وسطياً، يتوقع الأشخاص حدوث الأشياء الجيدة وعدم حدوث السيئة منها، وهذه الاعتقادات التفاؤلية إيجابيةٌ أكثر ممَّا يمكن للواقع تفسيره. وينطبق تفاؤل معظم الأشخاص اللاواقعي على كل شيء؛ كالتفوق في اختبار ما، أو فوز فريقهم المُفضَّل في المباراة. تقودك رغباتك في حدوث الأشياء الجيدة إلى الاعتقاد باحتمالية حدوث ما تريده؛ إذ إنَّ التفاؤل بالأحداث القادمة مُدهِشٌ في مرونته.

إقرأ أيضاً: فعالية التوقعات الإيجابية

يحافظ معظم الناس على تفاؤلهم:

يحافظ معظم الناس على تفاؤلهم حتى عندما يتبيَّن لهم أنَّه لا يوجد أساس منطقي له، أو في وجه ردود الفعل السلبية والإخفاقات السابقة.

وذلك لا يعني أنَّ كل الأشخاص متفائلون دوماً بخصوص كل شيء (يُستَثنى من هذا الميل العام الأشخاص المُشَخَّصون بالاكتئاب، والذين يملكون توقعات أكثر واقعيةً وسلبيةً)؛ وإنمَّا المغزى بالأحرى أنَّ الميل الوسطي، بين الناس وخلال المواقف، هو الإيمان بحدوث الأشياء الجيدة.

يشير الاستمرار في هذه التوقعات المُتفائلة خطأً إلى أنَّها سِمةٌ للعقل البشري قدَّمت بعض الفوائد التطورية.

في مقالةٍ مُؤثِّرة في عام 2009، وضع الطبيب النفسي "ريان مكي" (Ryan McKay) والفيلسوف "دانيال دينيت" (Daniel Dennett) الإطار التطوري لنظرية إدارة الخطأ، والمطوَّرة سابقاً من قِبل الطبيبين النفسيين "ديفيد باس" (David Buss) و"مارتي هايزلتون" (Martie Haselton)؛ وذلك لتوقُّع بعض الفوائد المُحتمَلة. وكان جدالهم حول أنَّ القناعات غير الدقيقة باستمرار يجب أن تبقى فقط إن جلبَت فوائد شاملة تفوق العواقب.

ما هي الفوائد المُحتمَلة لكونك متفائلاً؟

1. التوقعات التفاؤلية مُحفِّزة: إن لم تتوقع النجاح في تحقيق أهدافك، فلن تُتعب نفسك بالمحاولة. وفي غياب التفاؤل، يبدو السعي ميؤوساً منه. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن تحفِّز توقعات النجاح جهودك المبذولة.

قد يرى الطلاب الذين يتوقعون نتيجة جيدة في امتحان ما، أنَّه من الأجدر بذل مجهود في الدراسة. وطبعاً، كلَّما كَثُرت دراستهم، زادت احتمالية حصولهم على درجة جيدة. من الهام ملاحظة أنَّ إمكانية ذلك تكون وحسب في المواقف؛ حيث يُترجَم المجهود إلى نجاح؛ لذا، لسوء الحظ، فإنَّ توقُّع فوز فريقك الرياضي المُفضَّل بتفاؤل لن يساعدهم على الفوز.

2. التوقعات التفاؤلية تقلل الشعور بالإجهاد والتوتر: قد يُقلِّل توقُّع إيجابية التجارب المستقبلية مقدار إجهادك وقلقك؛ على سبيل المثال، قد يشعر الطلاب الذين يتوقعون درجة جيدة في أحد الامتحانات بثقةٍ أكبر وإجهادٍ أقل بخصوصه؛ الأمر الذي يقلل الضريبة النفسية المُحتمَلة للإجهاد، بالإضافة إلى مكافأةٍ إضافيةٍ هي السماح للطلاب بالتركيز على الدراسة بدلاً من القلق.

هناك أيضاً جانبٌ سلبيٌّ عاطفيٌّ مُحتمَلٌ لتوقُّع النجاح التفاؤلي عند السعي وراء الأهداف؛ إذ إنَّك إن توقَّعت نتائج إيجابية، فأنت تخاطر بالإصابة بصدمةٍ وخيبة أملٍ مُحتمَلة عند وقوع الأحداث السلبية غير المُتوقَّعة.

شاهد بالفيديو: أقوال وحكم رائعة عن التفاؤل في الحياة

دراسة الآثار المحتملة للتفاؤل:

لقد قررنا اختبار هذه التوقعات عن الفوائد والآثار المترتبة المحتملة على التفاؤل في بحثنا. وللقيام بذلك، أجرينا دراساتٍ عدة طلبنا فيها من الأشخاص مشاركة توقعاتهم بخصوص حدثين مستقبليين هامَّين في حياتهم؛ إذ كان هذان الحدثان، طلاباً يقومون باختبارهم الأول في مسيرتهم الجامعية، وطلاب طبٍّ يقررون برنامج إقامتهم بعد إكمال تدربهم. وقد تابعنا مشاركينا مراتٍ عدة لمعرفة مقدار المجهود المبذول لتحقيق أهدافهم، سواءً نجحوا أم لا، وكيف شعروا بعد النجاح أو الفشل.

إقرأ أيضاً: التفاؤل: القوة الكامنة

● الدراسة الأولى:

طلبنا من أكثر من 1000 طالب في جامعتين مختلفتين أن يُبلِّغوا عن جهودهم الدراسية، وما هي الدرجة التي توقَّعوا نيلها في اختبارهم الأساسي الأول في مسيرتهم الجامعية.

إجمالاً، كانت توقُّعاتهم عاليةً قبل أسبوعين من الاختبار؛ إذ توقَّع 63% منهم (الأغلبية) علامات "ممتازة جداً" في الاختبار القادم، في حين أنَّ 2% فقط توقَّعوا درجة أقل من "جيد". وقد سألناهم أكثر في اليوم الذي يسبق الاختبار، وبعد يومين من نشر النتائج.

وسطياً، توقَّع 68% من الطلاب مفرطي التفاؤل نتيجة أفضل ممَّا حققوه فعلاً. ومع ذلك، فقد كان التفاؤل مفيداً؛ إذ بذل الطلاب الذين توقَّعوا درجات أعلى قبل أسبوعين من الاختبار مجهوداً أكبر، وبحلول اليوم السابق له كانوا قد درسوا ساعات أكثر، ناهيك عن شعورهم برضى أكبر تجاه نوعية دراستهم.

تنبأت التوقعات التفاؤلية بدرجات امتحانية أفضل، وقد فسر ذلك الجهد الذي بذله الطلاب في الدراسة؛ بعبارة أخرى، تنبَّأ التفاؤل بالمجهود المبذول، الذي تنبَّأ بدوره بالنجاح.

علاوةً على ذلك، كان الطلاب الذين توقَّعوا درجات أعلى قبل أسبوعين من الاختبار أكثر سعادةً في اليوم السابق له، ولم يكن هناك دليل على وجود جانب سلبي لامتلاك توقعات عالية؛ بل على العكس، تنبَّأ التفاؤل الأولي العالي برضى أكبر تجاه الدرجة المُتلقَّاة والجهد الدراسي المبذول، بالإضافة إلى سعادةٍ أعظم في الأسبوع التالي لمعرفة النتائج.

● الدراسة الثانية:

استخدمنا في الدراسة الثانية طلاب طبٍّ يمرون بما يُسمَّى "يوم التطابق" (مصطلح يُستعمَل على نطاق واسع في كلية الطب للخريجين، لتمثيل اليوم الذي يصدر فيه "برنامج المطابقة الوطنية للمقيمين" للمتقدمين الذين يسعون إلى الحصول على مقاعد تدريب في الولايات المتحدة).

بعد إنهاء تدريبهم في كلِّية الطب، يتقدم الطلاب بطلبات إلى برنامج الإقامة في كل أنحاء البلاد، الذي يُحدِّد مهنتهم المستقبلية، بما في ذلك التخصص والتوظيف؛ إذ تُجرى مفاضلة ما بين المتقدِّمين والبرامج المتاحة، ومن ثم تُقرِن خدمةٌ مركزيةٌ الطلاب مع برامجهم. تتطلَّب العملية مستوىً من التخطيط والتدبير من الطلاب.

في يوم التطابق، يكتشف جميع المتقدمين أماكن ذهابهم، وهم مُلزَمون بالالتحاق في أيِّ مكانٍ يُطابَقون فيه. وإن لم يُطابَقوا من قِبل النظام، فعليهم التحرك على الفور لإيجاد شاغرٍ والتقدم إليه.

في دراستنا، قام المتقدمون بعملٍ جيدٍ إجمالاً؛ إذ تمت مطابقة جميعهم تقريباً، ونصفهم كان مع برنامجه المُفضَّل. وبذكر ذلك، كانوا أيضاً متفائلين جداً، فقد توقَّع 30% منهم وسطياً المطابقة مع خيارهم الأول ولم يتحقق ذلك. ومع هذا، فقد كان التفاؤل ذا فائدة مرة أخرى؛ إذ كان الطلاب الذين توقَّعوا مطابقة خيارهم الأول راضين أكثر عن قرارهم، وكانوا أكثر احتمالاً لتحقُّق توقعهم.

علماً أنَّ هذا لم يكن ناجماً عن التنافسية الزائدة للطلاب المتفائلين (اعتماداً على درجاتهم الامتحانية أو تجاربهم)؛ وإنَّما الأصح أنَّ توقعاتهم الإيجابية غيَّرت طريقة اتخاذهم للقرار؛ ممَّا نتج عنه نجاحٌ أعظم. ولا نعلم ما هو الاختلاف الذي فعلوه تحديداً، ولكن اعتماداً على نتائج دراستنا الأولى، نظنُّ أنَّهم وسَّعوا جهودهم في عملية المطابقة.

علاوةً على ذلك، اختبر هؤلاء الطلاب أيضاً فوائد عاطفية قبل يوم المطابقة؛ إذ كانوا أكثر سعادةً وأقلَّ توتراً. وفي الوقت نفسه، لم يبدُ أنَّ هناك عواقب لامتلاك توقعاتٍ عاليةٍ لم تتحقَّق؛ بل كان الطلاب تعساء نسبياً حين لم يُطابَقوا لبرنامجهم المُفضَّل، ولكن شعروا بدرجة التعاسة نفسها بغضِّ النظر عن توقعهم لهذه النتيجة السلبية من عدمه.

إن لم تكن بيدك الحيلة للقيام بشيءٍ تجاه حدثٍ مستقبلي، فإنَّ التفاؤل لن يغيِّر النتيجة.

عموماً، تدعم نتائجنا فكرة أنَّ البشر تطوروا ليُصبِحوا مفرطي التفاؤل؛ لأنَّ فوائده تفوق العواقب المُحتمَلة، كخيبة الأمل الشديدة.

إذاً، ما هي الطريقة لتطوير التفاؤل وجني فوائده؟

توجد رسالةٌ هامة مستوحاة من عملنا، وهي أنَّ توقُّع حدوث الأمور الجيدة ليس كافياً، في حين يكون التفاؤل مفيداً عندما يُترجَم إلى أفعال للسعي وراء الأهداف.

تستطيع توقُّع الأشياء الجيدة، لكن عليك أن تكون مستعداً لبذل مجهود لجعلها تتحقق. يساعد المزيج بين التفاؤل والعمل على إثارة الحافز لتحقيق الأهداف، وعلى المثابرة عند مواجهة التحديات والعواقب. ومن الهام ملاحظة أنَّ امتلاك توقعاتٍ إيجابيةٍ يختلف عن التخيل.

لقد أظهر برنامجٌ بحثيٌّ أجرته الطبيبة النفسية "غابريل أوتنجين" (Gabriele Oettingen) وزملاؤها أنَّ التخيل البصريَّ للنجاح ليس ذا نفع؛ إذ يمكن لاختلاق التخيُّلات أن يؤدي إلى الثقة العمياء والرضى عن النفس؛ وهذا يودي بك إلى إنجازٍ أسوأ ودافع أقل.

بدلاً من الإسهاب في التخيلات الإيجابية، تشير نتائجنا إلى أنَّ الإيمان بإمكانية النجاح يساعدنا عليه، ما دام هناك مجالٌ ليؤثِّر المجهود في النتائج.

إن لم تكن بيدك الحيلة للقيام بشيءٍ تجاه حدثٍ مستقبلي، فإنَّ التفاؤل لن يغير النتيجة، لكن على أيِّ حال، حتى في سيناريوهات مماثلة، فإنَّ التفاؤل يخفض مستويات التوتر.

وعلى الرغم من أنَّ مشاركينا المتفائلين لم يُبلِّغوا عن شعورهم بالسوء في الأسابيع التي تلت فشل توقعاتهم، فذلك لا يعني بالضرورة عدم شعورهم بخيبة الأمل مباشرةً بعد اكتشاف ذلك.

تطوير التفاؤل

تعزيز تفاؤلك:

إن قمت بتعزيز تفاؤلك، فمن الممكن حتماً أن تشعر بخيبة أمل كبرى عند فشل توقعاتك الإيجابية. ومع ذلك، لحسن الحظ، هناك طريقة سهلة لتخفيف هذه العاقبة؛ إذ أظهرت الدراسات التي أجراها الطبيب النفسي "جيمس شيبرد" (James Shepperd) وزملاؤه أنَّه يمكن التخفيف من حدة خيبة الأمل الأولية من خلال الاستعداد للأسوأ مباشرةً قبل معرفة نجاحك من عدمه؛ إذ إنَّك إن نجحت، فستكون متفاجئاً بسرور، وإن فشلت، فلن تكون خائباً لتلك الدرجة.

ولكن هكذا تكون الحال فقط مباشرةً قبل وبعد الحدث، وليس هناك دليل على وجود فوائد للتوقعات التشاؤمية خارج هذا الإطار الزمني الضيق جداً. وكجميع أساليب التفكير، فإنَّ التوقُّع التفاؤلي بخصوص الأهداف والتحديات القادمة عادةٌ يمكنك السعي إلى تطويرها بتأنٍّ في حياتك الخاصة.

والخبر السار في نتائجنا هو أنَّه، بجمع التوقعات التفاؤلية مع بذل المجهود الإضافي، يمكنك الشعور بنجاحٍ أكثر وسعادة أعظم.

المصدر.




مقالات مرتبطة