تطوير الذات: كيف نفعّل مهارة توكيد الذات؟

لقد تربينا على الاحترام المبالغ به للآخر واعتدنا كتم صوتنا الدَّاخلي، واعتبرنا أنَّ المطالبة في الحقوق ووضع الحدود مع الآخرين ما هو إلَّا ضرب من ضروب الجرأة غير المحمودة وانتهاك للَّطافة الواجب صنعها في الحياة، إلى أن بلغنا مرحلة التخلِّي عن أولوياتنا واهتماماتنا في سبيل إرضاء الآخر، واستسلمنا أمام اختراق الآخر لحدودنا وشخصنا، ورضخنا لعبارات الاستهزاء والسخرية من قبل الآخرين عادِّينها سمة من سمات العلاقات المتحضِّرة والسلسة، وابتعدنا عن حقيقتنا النقيَّة فأصبحنا محترفين في التصنُّع؛ حيث لا نملك جرأة البوح بما نشعر ونفكِّر به، خشيةَ أن نخسر الآخر أو أن يقال عنَّا أنَّنا ناقصون.



نحن نلهث بكل ما أوتينا من قوة إلى تضخيم الأمور الثانوية في حياتنا، حتى تحوَّلنا إلى عبيد الشكل، والألقاب، والمناصب، والدَّرجات العلمية العالية، ومظاهر الرَّفاهية المفرطة، ونشأ لدينا اعتقاد راسخ بأنَّنا ما نملك؛ أي نحن عبارة عما نملك من سيارات، وعقارات، ومجوهرات، ودرجات علمية، ومناصب إدارية، ونسينا تماماً أنَّ الذات الحقيقية أعمق وأنضج وأرقى، وأنَّها مَن تَخلِق تلك القشور والمظاهر، وليس العكس. ويا لنا من ساذجين حينما عشنا حياتنا دون أن نُدرِك أنَّ التعلق المفرط بالممتلكات ما هو إلَّا صورة مباشرة لانخفاض تقديرنا لذواتنا.

نحن نقع في كثيرٍ من المشكلات مع الآخرين، ونخسر كثيراً من الفرص، ونقرِّر كثيراً من القرارات غير الصائبة، ونُدمِن مظاهر اللَّاتوازن في الحياة؛ فنسلك إمَّا أقصى اليمين أو أقصى اليسار؛ العدوان أو الرضوخ، الحرية المطلَقة أو الاستسلام والقيود، دون أن ندري أنَّ خلف كل هذا يقبع تقديرنا المنخفِض لذواتنا، وبدلاً من تركيز الطاقة والجهد للوصول إلى التقدير الذاتي العالي؛ نستسهل استخدام آليات التبرير والدفاع عن أنفسنا، معلِّقين اللوم على الآخر والظروف والمجتمع.

قوة الشخصية هي الخطوة الأولى في سبيل الوصول إلى حياةٍ سعيدةٍ وغنيةٍ ومحطة أساسيَّة لبلوغ أقرب نقطة من التوازن النفسي المنشود؛ وهذا ما سنناقشه من خلال هذا المقال.

مقياس توكيد الذات:

لقد تشوَّه مفهوم الشَّخصية القوية في مجتمعنا، فأصبحت نبرة الصوت العالية، والرغبة في التعالي على الآخرين وإحراجهم، والميل إلى استخدام عضلات الجسم والاعتداء على الآخر من علامات قوة شخصيَّة؛ وأصبح مقياس توكيد الذات أحد الضرورات، في حين أنَّ قوة الشخصية مزيج ما بين الثقة وتقدير وتوكيد وتقبُّل الذَّات، وهي القدرة على احترام الذَّات والآخر، والتعبير الصادق عن الرغبات والمشاعر، والدِّفاع عن الحقوق بطريقة راقية، ورسم الحدود مع الآخر بطريقة حاسمة، وتحقيق التوازن ما بين التطلُّعات والقدرات والاعتراف الصريح بنقاط الضَّعف والعمل على تجاوزها، والسعي إلى رفع سوية الطرف المقابل على جميع الأصعدة.

ما هي علامات ضعف الشخصية؟

مظاهر ضعف الشَّخصيَّة هي:

1. الاحترام المبالغ به للآخر:

نُربِّي أطفالنا على الاحترام المبالغ به للآخر، إلى أن نضرب لديهم إحساسهم بقيمة ذواتهم؛ فيميلون إلى تأليه الآخر ويسعون جاهدين إلى كسب رضاه، الأمر الَّذي ينعكس سلباً على شخصيتهم، فلا يستطيعون الدِّفاع عن أهدافهم أو أولوياتهم أو قناعاتهم، حيث يتأثرون بشكل مبالغ فيه في آراء الآخرين.

2. اختراق الحدود الشخصية:

نُربِّي أطفالنا على الخجل الشديد؛ حيث نقهر كل محاولة منهم للتعبير عن رأيهم ورغبتهم، ونُلزِمهم الصمت والسكوت، إلى أن يتحوَّلوا إلى أطفال مستَكينين، وضعفاء، غير قادرين على تحديد الأمور التي يكرهونها والأخرى التي يتقبلونها من الطرف الآخر، الأمر الذي يجعل الطرف الآخر يستغلهم ويقلل من قيمتهم.

3. العدوانية أو الاستكانة:

يخلق أسلوب القمع المتَّبَع من قبل الأهل؛ إمَّا طفل عدواني وعنيد أو طفل مستكين، وكلتا الحالتين سلبيتان؛ فالأجدر أن يُعطَى الطفل كمَّاً كبيراً من الحب والاهتمام والثقة، وأن يُستخدَم معه أسلوب الإقناع وليس الفرض، وأن نتنوَّع في المعاملة ما بين الحسم واللِّين، إلى أن ننتج شخصاً متوازناً نفسياً.

4. الكبت:

يعتمد كثيرٌ من الأشخاص على إخفاء غضبهم أو خنقهم لكي لا يخسروا الآخرين؛ أي أنَّهم يكبتون كل المشاعر السلبية، ممَّا يصيبهم بكثيرٍ من الأمراض النفسية والجسدية، ويُضعِف من تقديرهم لذواتهم، حيث تبرمجت عقولهم على أنَّ مشاعرهم غير هامة ولا تستحق الاعتراف بها.

5. الأقنعة:

يرتدي كثيرٌ من الأشخاص الأقنعة الكثيرة؛ لأنَّهم لا يجرؤون على أن يكونوا صريحين وصادقين، فهم تربُّوا على عقلية سوء الظَّن بالآخر والشك المبالغ فيه، ممَّا يحوِّلهم إلى منافقين ومتلاعبين.

6. التعلق:

يتعلق الأشخاص ضعفاء الشخصية بكل أمر خارجي بطريقة مرضيَّة؛ فهم يربطون قيمتهم بالممتلكات على سبيل المثال، أو بنظرة الآخرين عنهم، أو بالمناصب الإدارية التي تقلَّدوها.

7. المقارَنات:

يعشق ضعفاء الشخصية لغة المقارنات، فتجدهم دائمي المقارنة بينهم وبين الآخرين؛ لأنَّهم غير ممتلئين من الداخل، ولا يملكون ثقة بأنفسهم، فبدلاً من استثمار الوقت في تطوير ذواتهم وصقلها؛ يقضون وقتهم في مقارنات غير مفيدة ولا نافعة.

إقرأ أيضاً: معلومات هامة عن ضعف الشخصية عند الأطفال

8. التبرير:

يميل الأشخاص الضعفاء إلى تبرير تصرفاتهم السلبية؛ فلا يملكون جرأة تحمُّل مسؤولية حياتهم وقراراتهم، حيث يعلِّقون فشلهم إمَّا على الأهل أو على الظروف.

شاهد بالفيديو: صفات الشخصية القوية

ما هي مكونات الشخصية القوية؟

تنقسم في الحقيقة مكونات الشخصية القوية إلى:

1. الثقة بالنفس:

وتعني القدرة على الأداء وإنجاز المهام؛ حيث يسأل الإنسان نفسه: "هل أنا قادر على أداء تلك المهمة أم لا؟"، وتعدُّ إجابته على هذا السؤال بمثابة مؤشر لقياس مقدار ثقته بنفسه. إن امتلك مدرس على سبيل المثال القدرة على إنجاز مهامه على أكمل وجه، واستشعر هو بذاته هذه القدرة؛ فعندها نستطيع أن نقول: أنَّ هذا المدرس واثق من نفسه؛ أي أنَّ الثقة بالنفس مزيج بين القدرة الحقيقيَّة والشعور بها.

2. تقدير الذَّات:

 ويشتمل على رأي الإنسان في ذاته ورأي الآخرين به، ويسأل الإنسان ذاته: "ما هي قيمتي وكيف يَنظُر الآخرين لي؟"، وتعدُّ الإجابة على هذا السُّؤال بمثابة مؤشر لقياس مقدار تقدير الإنسان لذاته. على سبيل المثال: إن أُصِيب شخص ما بالتوتر المبالغ به في أثناء إلقائه لمحاضرة ما، على الرَّغم من تمكُّنه من المعلومات وتحضيره الجيد لها؛ فعندها نستطيع أن نقول: أنَّه يملك تقديراً منخفضاً لذاته؛ إذ أنَّه انشغل في نظرة الناس عنه، فتوتَّر واضطرب وتراجع أداؤه.

3. توكيد الذَّات:

وهو قدرة الإنسان على التعبير عن المشاعر والأفكار التي تنتابه بمنتهى الحرية والبساطة والوضوح، إذ نقول عن الإنسان الَّذي يلجأ إلى مجاملة الطرف الآخر، بالرغم من عدم ارتياحه الداخلي له؛ بأنَّ لديه توكيداً ذاتياً منخفضاً، وغير قادر على التعبير الصريح عن مشاعره.

4. تقبُّل الذَّات:

وهو الوصول إلى حالة من التصالح الإيجابي مع الذَّات؛ بحيث يرضى الإنسان عن كل ما يملك، حيث يتقبَّل واقعه، وظروفه، وشكله الخارجي. لا يعني التقبل الاستسلام للواقع؛ بل يعني الوصول إلى نقطة عميقة من مشاعر الرضا والتسليم بالواقع مع استمرار السعي إلى تحقيق الأهداف والرسالة في الحياة.

إقرأ أيضاً: 11 طريقة بسيطة لاكتساب تقدير الذات

أساليب وخطوات توكيد الذات:

1. المدرسة:

على المدرسة أن تدعم شخصية الطفل؛ حيث تبيِّن دراسة نفسية -أجريت على الأطفال- امتلاك الأطفال لمهارات غير عادية وذلك قبل بلوغهم السابعة من العمر، فهو قادر على تعلُّم خمس لغات بإتقان، ولكن أكَّدت الدراسة أنَّ للمدرسة دوراً سلبياً في تراجع مهارات وقدرات الطفل، وذلك من خلال التقييد الكبير لحرية الطفل، والقمع الكبير لأفكاره المختلفة وآراءه غير التقليدية، حيث تقتل المدرسة في الطفل مهارة التفكير التحليلي، وتُعلِّمه الحفظ والتبعية دون التفكير، وتقتل فيه مهارة التعلم من الأخطاء، حيث تصدِّر له فكرة أنَّ الخطأ ممنوع منعاً باتاً. ومن جهة أخرى، تشوِّه المدرسة مهارة التفكير الناقد لدى الطِّفل، وتحوِّله إلى روبوت يعمل على الأوامر والتعليمات.

يجب على المدرسة أن تتبنَّى منهجية تعليم مختلفة تماماً عن السائد حالياً، بحيث تنمِّي مهارات الطفل، وتدعم تميُّزه، وتعطيه مساحة كبيرة للتعبير والتطور.

2. الأبوان:

  • تُعدُّ التربية من أهم العوامل المساعِدة لتكوين شخصية الطفل، حيث يجب على الأبوين اعتماد أسلوب تربية قائم على الإقناع والحرية والثقة.
  • يستطيع الأهل توزيع المسؤوليات بينهم وبين الطفل، بحيث تُعطَى له حرية اختيار الأمور الخاصة به والتي لا تُعدُّ جوهرية، مثل: لون غرفته، وألعابه، وطريقة دراسته وطريقة تعامله مع أصدقاءه. وتُعطَى له نسبة منخفضة في حرية اختيار الأمور الجوهرية، مثل: أساسيات الدراسة، ونظامه الغذائي، وقناعاته، في حين تكون النسبة الأكبر في اتخاذ هذه القرارات للأبوين.
  • يجب على الأهل التمتع بحسن الاستماع، بحيث يحترفون فن الإصغاء إلى أفكار ومشاعر ومتطلبات أطفالهم، الأمر الذي يُشعرهم بالأمان والثقة مع أهلهم.
  • يجب على الأبوين تدريب الأطفال على المطالبة بحقوقهم وعدم التنازل عنها؛ حيث يميل معظم الآباء إلى كسب رضا الآخرين وإن كان ذلك على حساب نفسية أولادهم، الأمر الذي يجعل الأولاد في وضع صعب للغاية. على سبيل المثال، يجب على الأب أن يفاوض ابنته التي ترفض مشاركة ألعابها مع أولاد أصدقاءه بدلاً من الفرض عليها وقهرها لفعل أمر لا تريده؛ إذ يجب عليه الشعور باحتياجاتها ورغبتها التملُّكية الفطرية.
  • يجب على الأهل أن يكونوا مصدر الأمان لأطفالهم، بحيث يحافظون على ردة فعل هادئة مهما بلغ التصرف السلبي الذي قام به أطفالهم. على سبيل المثال، على الأب أن يتعاطف مع ابنه المخطئ ومن ثمَّ يستعلم عن تفاصيل الموقف، وبعد ذلك ينتقده، وفي النهاية ينصحه لكي لا يتكرر الموقف في المستقبل، ويجب على الأب أن يتبع الأسلوب الذكي للنقد؛ كأن يقول له: "أنا أحبك كثيراً، لكن تصرفك في هذا الموقف غير لائق، وأنا واثق من أنَّك لن تكرِّر هذا التصرف في المستقبل".
  • يجب على الأهل الابتعاد تماماً عن استخدام الكلام السلبي مع أطفالهم، لما له من أثر سلبي على ثقة الطفل بنفسه؛ فلا يجوز أن يقول الأب لابنه "غبي"، "لاتفهم".
  • يجب على الأهل أن يحقِّقوا احتياجات أطفالهم ورغباتهم، ولكن مع تصحيح السلوكات الخاطئة في ذات الوقت، الأمر الذي يخلق إنساناً متوازناً.
  • يجب أن يقدِّم الأبوان لطفلهما الحب بطريقة غير مشروطة، حيث تؤدي جمل مثل: "سأتوقف عن حبك في حال أنَّك لم تدرس جيداً" إلى شعور الطفل بالمشاعر السلبية، وبعدم الأمان، والتشويش، ممَّا يجعله دائم السعي إلى إرضاء أهله لكي يشعر بالثقة بالنفس، وتتعظم لديه الحالة وصولاً إلى إدمانه السعي إلى إرضاء الآخرين في سبيل تعزيز صورته الذاتية.

3. كلمة "لا":

كلمة "لا" من أقوى الكلمات على الإطلاق، فلا تتردَّد في قولها على أي أمر لا ترغب به، وإياك أن تأبه بما يقوله الآخر عنك. تستحق أهدافك وأولوياتك الدفاع عنها، والتجرُّؤ على قول "لا" حفاظاً عليها.

إقرأ أيضاً: 6 طرق تُمكنك من قول 'لا' لطلبات الآخرين

4. المقارَنات:

لا تقع في فخ المقارنات المميت مع الآخرين؛ بل قارن نفسك الآن مع ما تستطيع فعله على أرض الواقع وفقاً للأولويات الحالية. على سبيل المثال، قارن نفسك الآن وفقاً لما تلتزم به من التزامات مع ما تستطيع تقديمه بالفعل على أرض الواقع، فقد تكون مشغولاً بالفعل بكثيرٍ من الأعمال ولكنَّك قادر على الاتصال هاتفياً مع صديقك والاطمئنان عليه.

5. المبادرة:

كن مبادِراً، فمن شأن ذلك أن يزيد من توكيدك لذاتك، ويملأ وقتك بالأشياء المفيدة، ويخلق قيمة إيجابية في المجتمع.

6. المصارحة:

لا تعتمد على التلميحات في علاقاتك مع الآخرين؛ بل كن واضحاً وصادقاً، فالصدق قوة حقيقيَّة، والكذب ضعف ونقص في الشخصية.

إقرأ أيضاً: تنمية تقدير الذات لدى الطفل

الخلاصة:

أنتَ الأساس في كل شيء، فاعلم أنَّ الحل يبدأ بك وينتهي بك، لذلك اعمل جاهداً على تطوير ذاتك وإغنائها، فكلَّما امتلأ داخلك؛ امتلأت حياتك زخماً وحباً وثراءً.

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة