الوسواس القهري: تعريفه، وأعراضه، وأسبابه، وطرق علاجه

تسيطر عليه أفكار معينة سيطرة كلية؛ ورغم علمه بمدى سخافتها وبعدها عن المنطقية، إلَّا أنَّه لا يملك القوة لإيقافها؛ ورغم أنَّها تسبِّب الألم له وللمحيطين به، وتعيق أداءه وإنتاجيته، وتجعل منه شخصاً ضعيفاً وهشاً وفاقد السيطرة على حياته؛ إلَّا أنَّ مريض الوسواس القهري لا يستطيع إخراج نفسه من شراكها على الإطلاق.



عندما تجتاح أفكار سلبية عقولنا، ونفقد القدرة على تسخيفها وجعلها بسيطة أو ضعيفة، ونعظِّمها ونسلِّمها قيادة مشاعرنا وسلوكاتنا؛ تتحوَّل حياتنا إلى جحيم حقيقي؛ وما بين الرضوخ السلبي والمقاومة غير المجدية، يبقى الغوص في دواخلنا والاسترخاء العميق ومحاولة التعامل مع الأفكار السلبية بطرائق مختلفة أفضل الحلول.

عندما تتحول علاقتنا مع اللَّه إلى عبء حقيقي، ونظافتنا الشخصية إلى همٍّ كبير، وتغلب على حياتنا أفكار معيبة دون قدرتنا على التحكم بها؛ نحتاج إلى إعادة النظر في كل مفاصل حياتنا.

عندما نجعل من الكمالية هاجساً في حياتنا، تطغى على يومنا حالة وسواسية لا تُطاق بهدف تحقيق صورة مثالية غير موجودة إلَّا في الأحلام؛ وعندما نسمح لمخاوفنا أن تحتل الصدارة وننسى نقاط قوتنا ونقلِّل من شأن قدراتنا وإمكانياتنا، نغدو فريسة سهلة للأفكار الوسواسية المؤذية.

حياتنا ملكنا، وأفكارنا أساس كل شيء، والسبب الكامن وراء كل شيء؛ وفي اللحظة التي نتجاهل فيها قوانين الحياة هذه، نؤكِّد للكون أنَّنا تابعون ولسنا قادة حياتنا، وأنَّنا أضعف بكثير من أن نبني حياتنا ومصيرنا بأنفسنا، وسنتحوَّل إلى مصدر يجذب كل شيء سلبي إلى الواقع.

إقرأ أيضاً: إقرأ أيضاً: 6 علامات تدل على ضرورة استشارة الطبيب النفسي

ما هو اضطراب الوسواس القهري؟

هو عبارة عن شلالات متدفقة من الأفكار المُلحة والمسيطرة والمتكررة التي تغزو ذهن المريض وتعيقه عن أداء مهماته بصورة صحيحة، ويعقبها أفعال تؤدي إلى التقليل من إحساس التوتر والقلق.

يعدُّ اضطراب الوسواس القهري من أكثر الاضطرابات النفسية انتشاراً بعد اضطرابي القلق والاكتئاب، ويكثر في البيئات المنغلقة أكثر من البيئات المنفتحة؛ ذلك لأنَّ كبت المشاعر وعدم امتلاك حرية التعبير عن الأفكار الغريبة والمستهجنة التي من الممكن أن تصيب أي إنسان يؤدي إلى وجود خلل في الشخصية، وخوف وضغوطات نفسية تُهيِّئ البيئة للإصابة بالوسواس القهري.

ما الفارق بين اضطراب الوسواس القهري والشخصية الوسواسية؟

الشخصية الوسواسية نمط من أنماط الشخصية، وتنجح في المناصب الإدراية؛ فهي شخصية دقيقة ومنظمة وملتزمة في عملها، وتعشق المسؤولية والجدية في العمل.

تتحوَّل الشخصية الوسواسية إلى حالة مَرضية في حال تسبِّبها بالضرر والأذى النفسي للمحيطين بها، فهي تُلحِق الضغط النفسي بالآخر عندما تبالغ في التنظيم والدقة والمثالية، وقد تتقدم الحالة المَرضية لديها وتتحوَّل إلى اضطراب الوسواس القهري.

إقرأ أيضاً: أنماط الشخصية الأربعة وطرق التعامل معها

ما هي أعراض اضطراب الوسواس القهري؟

يصاب المريض خلاله بأفكار سلبية متكررة لا يستطيع السيطرة عليها، مع علمه بمدى سذاجة الأفكار وهشاشتها، كأن يكرر وضوءه عشرات المرات لأنَّه يشعر أنَّه لم يصل إلى الوضوء الصحيح بعد، أو أن يغسل يديه عشرات المرات في الساعة الواحدة.

من جهة أخرى، يوجد نوع من الأفكار التي قد تنتاب مريض الوسواس كالأفكار الاجترارية، ويدور الشخص هنا في متاهة من الأسئلة التي لا تنتهي، والتي تثير قلقه وخوفه.

ما هي أسباب اضطراب الوسواس القهري؟

1. العوامل الوراثية:

تزداد نسبة الاستعداد للإصابة باضطراب الوسواس القهري لدى الطفل في حال كان أحد الأبوين أو أحد الأقرباء مصاباً باضطراب الوسواس القهري، ولكنَّ ما يُورَّث هو الاستعداد وليس الاضطراب.

2. العوامل البيئية:

عندما ينشأ الطفل ضمن جو عائلي يغلب عليه الأفكار الوسواسية، سيعاني من اضطراب الوسواس القهري لا إرادياً؛ فمثلاً: قد تكون الأم دائمة التدقيق على حركات الطفل أمام الناس والمجتمع، فتخلق لديه حالة سلبية قد تؤدي إلى الإصابة بالوسواس القهري.

يمكن أن تعزِّز البيئة من سيطرة العوامل الوراثية للوسواس القهري لدى الطفل في حال وجود عوامل وراثية مؤهبة في العائلة، أو تلغيها.

إقرأ أيضاً: أغرب الاضطرابات النفسيّة التي تصيب الإنسان

3. الدافعية:

قد يعاني الطفل من عوامل وراثية لاضطراب الوسواس القهري، ومن بيئة سلبية غير مشجعة، إلَّا أنَّه لا يُصاب بهذا الاضطراب؛ ويعود ذلك إلى الحافز الشخصي له، ومدى رفضه لهذه السلوكات، وإلى وجود نموذج إيجابي يدعمه خارج المنزل ويشكِّل نظرته إلى الحياة.

4. الكمالية:

يعاني الأشخاص الكماليون من رغبة عارمة في جعل كل شيء من حولهم مثالياً، الأمر الذي يتعبهم ويتعب مَن حولهم، ويجعلهم عرضة إلى الإصابة باضطراب الوسواس القهري. 

5. الخوف من اللَّه:

تؤدي علاقة الشخص المضطربة مع اللَّه إلى تشويش الرؤية لديه في كل مفاصل الحياة، فعلى سبيل المثال: يتحوَّل الشخص إلى مريض وسواس قهري بفعل خوفه الشديد من اللَّه وعقابه وتصوره السلبي له على أنَّه إله قاسٍ ولا يغفر الأخطاء أبداً.

6. التشوهات المعرفية:

تعدُّ الأفكار المنشأ الأساسي لكل اضطراب نفسي، ويكون مَن لديه تشوهات معرفية تخص الحياة والوجود واللَّه عرضة إلى الإصابة باضطراب الوسواس القهري.

إقرأ أيضاً: الخوف الزائد: أسبابه وطرق التغلب عليه

ما علاج اضطراب الوسواس القهري؟

ألم تسأل نفسك عن سر قوة الأفكار وقدرتها على السيطرة على حياة مريض الوسواس القهري؟ هل تكمن القوة في الفكرة بحد ذاتها، أم أنَّ مريض الوسواس القهري هو الضعيف باستجابته المتكررة والمستسلمة لها؟ وماذا لو أنَّ الموضوع بحاجة إلى إعادة النظر في أفكارنا وأسلوب حياتنا وطريقة تعاطينا مع أمور الحياة؟

يبدأ علاج اضطراب الوسواس القهري من الاعتراف بأهمية الأفكار في حياتنا، وتأتي من هنا أهمية أن يكون المعالج النفسي إنساناً متمكِّناً ومثقفاً ولديه معلومات غنية قادر من خلالها على تعديل أفكار مريض الوسواس القهري.

يعتمد العلاج المعرفي السلوكي (CBT) على تعديل أفكار المريض وسلوكاته، حيث يتكوَّن الوسواس القهري من فكرة متكررة وملحة وسلوك قسري سلبي؛ ولكنَّ هذه المدرسة أغفلت الجانب الانفعالي لدى المريض، إذ قد تتعدل الأفكار ويُكبَح جماح السلوك السلبي، ولكنَّ المشاعر والانفعالات تبقى كامنة، وتتراكم يوماً بعد يوم متحوِّلة إلى قنبلة موقوتة تنفجر في أي لحظة.

أتت من هنا فكرة العلاج المعرفي الانفعالي الذي يعتمد على تعديل أفكار الشخص والعمل على تهدئة انفعالاته، بحيث نصل إلى السلوك السليم دون كبت المشاعر السلبية وتراكمها.

يعمل المعالج النفسي بداية على وضع خطة علاجية محكمة ومحددة المدة والبرنامج، بحيث يستطيع بعدد جلسات محدود أن يُحدِث تغييراً إيجابياً كبيراً لدى المريض؛ وذلك على عكس العلاج الدوائي الذي يعمل على تهدئة الأفكار، ولكن بمجرد التوقف عنه، تستأنف الأفكار الوسواسية هجومها وتعاود تحكمها بحياة الشخص.

قد يقع مريض الوسواس القهري أسير فكرة معينة تعيقه عن الحياة المتوازنة لفترة كبيرة من الزمن قد تصل إلى سنوات عديدة؛ كأن تسيطر على رجل ما فكرة مفادها أنَّه قد انفصل عن زوجته، وأنَّها بمثابة طليقته، رغم أنَّهما ما يزالان يعيشان في المنزل ذاته.

يحلل المعالج النفسي في العلاج المعرفي الانفعالي الخلفية النفسية للمريض، ويناقشه مطوَّلاً مستخدماً الشواهد الدينية والعلمية والعملية لكي يستطيع إقناع المريض وإعادة برمجة عقله على مفاهيم مختلفة وصحية.

يسعى المعالج النفسي في الشق الانفعالي إلى اعتماد تقنيات مثل التأمل والاسترخاء، حيث يؤدي الاسترخاء إلى سحب الطاقة السلبية الناتجة عن الفكرة الوسواسية، ويعمل على فك الارتباط بين الفكرة والحالة الشعورية المصاحبة لها؛ فقد اعتاد مريض الوسواس القهري على اختبار حالة شعورية مزعجة في أثناء تعرُّضه إلى أفكار وسواسية؛ لذلك تطرح المدرسة المعرفية الانفعالية حلاً رائعاً من خلال إنشاء رابط جديد إيجابي في لاوعي الشخص بين الفكرة الوسواسية والحالة المصاحبة لها.

شاهد بالفديو: أسباب الوسواس القهري وأعراضه وعلاجه

على سبيل المثال: يعاني مريض ما في الوسواس القهري من سيطرة فكرة وسواسية متعلقة بالنظافة على عقله، كأن يشعر أنَّ عليه تنظيف المنزل يومياً وأكثر من مرة؛ ففي هذه الحالة، عليه ألَّا يستجيب للفكرة الوسواسية في حال ورودها بالطريقة المعتادة والمشاعر السلبية المزعجة والسلوكات القسرية المعتادة، بل أن يعمل على الاسترخاء على سريره وسماع موسيقى هادئة والاندماج معها.

يساعد تكرار هذا السلوك على إنشاء رابط جديد بين الفكرة والحالة الشعورية، فقد ارتبطت هنا مع الموسيقى الهادئة والاسترخاء، وتحرر الإنسان من الانفعال السلبي المصاحب لها. 

على مريض الوسواس القهري ألَّا يستخدم آلية "مقاومة الأفكار الوسواسية"؛ ذلك لأنَّه عندما يقاومها، يُعطِي إيحاء لعقله مفاده أنَّه الطرف الضعيف، وأنَّ الأفكار هي الطرف القوي والمتحكم به وعليه أن يقاومها؛ لكن بدلاً من ذلك، عليه تقبُّل الأفكار والعمل على تسخيفها والتقليل من قيمتها والاستهزاء بها؛ ففي اللحظة التي يستجيب فيها الإنسان للأفكار الوسواسية أو يقاومها، يعني هذا أنَّه أضعف منها، وفاقد للسيطرة على زمام حياته.

الخلاصة:

تستحق الحياة منَّا تقديم أفضل ما لدينا؛ لذا علينا السعي إلى أن نكون مؤمنين بصدق وإيجابيين ومرنين نفسياً وأقوياء داخلياً، بحيث لا تستطيع الأفكار الوسواسية أن تجد طريقها إلى حياتنا.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة