المخاطرة ما بين الضرورة والتسرع

لطالما نجد أولئك الباحثين عن الأمان في كل مناحي حياتهم؛ فالأمان العاطفي، والعائلي، والمهني، والاجتماعي، ولطالما كان الأمان هو الاحتياج الأكثر طلباً بين جميع بني البشر، حيث يصاب أغلبهم بمشاعر من الاضطراب والتوتر لمجرد فقدان جزء من أمانهم ودائرة اعتيادهم، الأمر الذي يجعلهم بعيدين كل البعد عن قيمة المخاطرة في حياتهم، معتقدين أنَّها قيمةً تجلب الخسائر والويلات إلى حياتهم، ومؤمنين بأنَّ أي مساس بقيمة الأمان المقدسة سينتج عنه الكثير من الندم والقلق والحزن.



لذلك تجدهم يرزحون تحت وطأة الروتين والتقاليد، مُحجِّمين إمكانياتهم، وقامعين النزعة الفطرية إلى الحرية والتميز والإبداع القابعة في داخلهم، ومتحولين إلى أناس بلا إرادة أو قوة أو غاية. نعم، يفقدون المعنى الأساسي لحياتهم ووجودهم.

عندما يصبح الأمان غايةً في حد ذاته، وتصبح المخاطرة وحشاً شرساً وخطيراً، عندها لا تتوقع أيَّة إنجازات أو تطوُّرات أو ارتقاءات؛ بل توقَّع وجود أناس غريبة عن نفسها، وعن خصائصها، وعن هويتها.

هل المخاطرة ضرورة أم تسرُّع؛ هذا ما سنجيب عنه من خلال هذا المقال.

ما هي المخاطرة؟

سأطرح عليك سؤالاً ما: "ما هو معنى الحياة، وأين تكمن لذَّتها إن كنتَ تعلم تماماً كل ما ستقوم به في كل يوم؟"، "أين تكمن السعادة والمتعة إن استيقظتَ في كل يوم متوقعاً تماماً مجريات يومك وساعاته؟"، "هل الحياة روتينية أم أنَّها تحمل عنصر المفاجأة في طياتها؟"، و"هل خُلِقنا لكي نكون نُسَخاً مكرَّرة عن بعضنا الآخر، أم خُلِقنا لكي نكون متفردين ومميَّزين؟".

المخاطرة مصطلح نسبي التعريف؛ فما يَعُدُّه شخص ما على أنَّه مخاطرة قد يكون قمة الأمان لدى شخص آخر، وتُعدُّ المخاطرة إحدى أهم الأساسيات لتقوية ثقتك بنفسك، وزيادة وعيك لنفسك وللآخر وللحياة، فمَن يخاطر ويكسر روتين حياته، ويختبر أشياء جديدة لم يسبق له أن اختبرها أو فكَّرَ فيها، ومَن يخاطر ويتبنَّى أفكاراً جديدةً وغنيةً لم تكن ضمن مجال تفكيره السابق، ومَن يخاطر ويتخلَّى عن الوظيفة التي تعطيه دخلاً ثابتاً لكي يلهث وراء شغفه ورسالته في الحياة، ومَن يخاطر ويتمرد على التصنيفات الممجَّدة ضمن مجتمع القطيع ويسعى إلى عيش حقيقته ولا شيء إلَّا حقيقته بغضِّ النظر عن قيود المجتمع وعراقيله؛ فهو شخص يعلم تماماً المغزى الحقيقي لوجوده على كوكب الأرض.

ما الذي يُبعِد أغلب الناس عن المخاطرة؟

1. الأمان الوهمي:

يمضي أغلب الناس في حياتهم لاهثين وراء شعور الأمان، الأمر الذي يجعلهم يرضون بأقل بكثير ممَّا يستحقون على أمل حصولهم على جرعة من الأمان المنشود، فترضى تلك الأنثى بزواج فاشل، وبزوج متسلط وعنيف لمجرد سعيها وراء وهم الأمان، ويرضى ذلك الرجل بتلك الوظيفة المتواضعة، وذلك الدخل الشحيح لمجرد بحثه عن الأمان الوظيفي وعن الدخل الثابت، دون معرفته أنَّ ذلك الثبات يخلق قيداً على مهاراته وإبداعاته.

يبحث أغلب الناس عن الأمان في الخارج؛ فيتعلَّقون بوظيفة ثابتة، أو بزواج، أو بشهادة علمية، أو بعقار معيَّن، أو بمجوهرات معيَّنة، معتقدين أنَّها الطريقة الوحيدة من أجل الوصول إلى حالة السلام الداخلي المنشود، ومتجاهلين قوَّتهم الداخلية وقيمة وجودهم، وموجِّهين تركيزهم وطاقتهم إلى الخارج بدلاَ من الداخل، وباحثين عن الكنوز في الخارج علماً أنَّها مزروعةٌ فيهم وبداخلهم.

يكمن الأمان الحقيقي في إنجازاتك، وفي نظرتك الجميلة عن ذاتك، وفي تطوُّرك اليومي وارتقائِك الدوري، وفي التفاصيل الصغيرة التي تُحقِّق فيها تقدُّماً، في محاولاتك الصادقة، وإرادتك الحديدية لتجسيد صورة الله على الأرض؛ فالله هو مصدر الأمان الحقيقي، ومن ثمَّ يأتي سعيك واجتهادك لتكون أفضل وفي كل جوانب حياتك، فالزواج على سبيل المثال: وسيلة لكي تعيش الأمان والاستقرار، وليس مصدر الأمان والاستقرار، وأنتَ مَن تخلق زواجاً سعيداً وآمناً، وليس الزواج مَن يخلق لك الأمان والسعادة.

2. النظرة إلى الحياة:

يعتقد أغلب البشر أنَّ الأصل في الحياة هو الروتين والتقليدية، الأمر الذي يجعلهم في حالة من الثبات والجمود وعدم الحركة والتدفق، في حين أنَّ الأصل في الحياة هو الحركة، والطاقة، والحيوية، والانطلاق، والتطور، والتجدد، فكل ما في الحياة قائم على التغيير، ولا يمكِنك أن تتغير إلَّا إذا تقبَّلتَ المخاطرة، فالطفل الصغير يتقبَّل مخاطرة السقوط والألم، لأنَّه يرغب في التطور وتعلُّم المشي، وكذلك في كل تفاصيل الحياة.

إقرأ أيضاً: 14 سبباً يدفعك إلى تجربة أشياء جديدة في الحياة - (الجزء الأول)

3. الخوف:

يعوق الخوف أغلب البشر عن اتخاذ خطوات قوية في حياتهم، مستشعرين الأمان مع العادات اليومية التي يقومون بها، ورافضين مغادرة دائرة راحتهم، وغير قادرين على مواجهة مشاعر الخوف والقلق الطبيعية المصاحبة لتجربة التغيير، فإنَّهم عشاق اللَّاتغيير.

يعتقد الناس أنَّ عواقب المخاطرة وخيمة، وبأنَّهم سيندمون على ما اتَّخدوه من قرارات جريئة تقلب ميزان حياتهم، في حين أنَّهم لا يعلمون أنَّ عواقب اللَّاحركة والثبات أكثر كارثيةً وخطورةً على صحة الإنسان النفسية والعقلية؛ حيث يقتل الروتين طاقة الإنسان ويذيب روحه وتجدُّده، في حين تمنح المخاطرة الإنسان إحساساً عالياً بالطاقة والإنجاز، والثقة بالنفس.

بماذا أخاطر؟

إنَّ المخاطرة خطوةٌ هامة جداً في الحياة للوصول إلى ما تريد وترغب، ولكنَّ السؤال هنا هو: "بماذا أخاطر؟"، "ما هي حدود المخاطرة؟".

للإجابة عن هذا السؤال الهام، علينا أن نتفق على مسألة في غاية الأهمية وتُحدِّد حدود المخاطرة ومجالها، وهي القيم؛ "ما هي قيمك العليا في الحياة التي لا يمكِن المخاطرة بها أو المساس بها؟"

إن كنتَ تمتلك قيمة الصدق على سبيل المثال كقيمة أساسية في حياتك، فعندها لا يمكِنك البتَّة المخاطرة بهذه القيمة للوصول إلى ما تريد في حياتك. إذاً، خاطِر ضمن الحدود التي لا تُخسرك ذاتك، وقيمك، وخاطِر بحيث تكون المخاطرة نقطةَ قوةٍ لك وداعماً لمسارك.

نعم، المخاطرة ضرورة في الحياة، ولكنَّها تتحوَّل إلى تسرُّع وتهوُّر في اللحظة التي تخسر فيها نفسك وتتحول إلى مجرد عبد للتغيير غير المدروس وغير العقلاني، على سبيل المثال: عندما تخاطر براحة بالك و بمنطقة أمانك، وتضع لنفسك أهدافاً تليق بك وبِتميُّزك وتتلاءم مع شغفك ووعيك، وتسعى إلى تغيير عاداتك كلها وروتينك للوصول إليها وبلوغ الألق الذي يصاحبها؛ فهذه تُعدُّ مخاطرةً حميدةً وضروريةً، ولكن إن كنتَ تخاطر بصحتك وجسدك وروحك في سبيل اختبار شعور المتعة الناتج عن تعاطي جرعة من المخدرات؛ فهذه مخاطرةٌ متسرِّعةٌ ومتهوِّرةٌ وتودي بك إلى التهلكة حكماً.

الخلاصة:

لا معنىً للحياة بلا مخاطرة؛ فهي التي تعطي ذلك الإحساس بمتعة الحياة وجمالها وحماسها، ولكي تأخذ الجانب الجميل من المخاطرة، عليك أن تُعمِل عقلك وتستفتي قيمك، وإلَّا ستتحوَّل المخاطرة إلى كابوس يُخيِّم على حياتك.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة