القيلولة وأثرها في تحقيق النجاح

يفخر بعض الأشخاص بشدة بعدم حصولهم على قسط كافٍ من النوم، وعلى العموم، نحن جميعاً عندما نسعى إلى المزيد من الإنتاجية، فإنَّنا قد نضحي بكل شيء.



دراسات حول تأثير القيلولة في تحقيق النجاح:

تشير الأبحاث إلى أنَّ بقاء الشخص مستيقظاً لإنجاز المزيد من العمل هو استثمار خاطئ للقدرات، فقد يبدو النوم مضيعة للوقت عندما يكون لديك أشياء يجب القيام بها؛ لكنَّ العلم يقول عكس ذلك؛ فالأشخاص الذين يحصلون على كفايتهم من النوم يحققون المستوى المطلوب من الإنتاجية أيضاً.

تشير نتائج دراسة أُجرِيَت عام 2019 ونُشِرَت في مجلة "ناشيونال سليب فاونديشن" (National Sleep Foundation) إلى أنَّ التقليل من ساعات النوم ولو بشكل طفيف خلال أسبوع العمل يتعارض مع أدائك الوظيفي.

شارك في الدراسة باحثون من "جامعة جنوب فلوريدا" (University of South Florida) و"جامعة ولاية بنسلفانيا" (Pennsylvania State University) و"كلية الطب بجامعة هارفارد" (Harvard) بالإضافة إلى باحثين آخرين.

ووجدت الدراسة أنَّ الأشخاص الذين يستغنون عن 16 دقيقة على الأقل من عدد ساعات النوم المطلوبة هم أكثر عرضة لتشتت الانتباه ويقومون بتقييمات خاطئة خلال يوم العمل.

أخذت بعض الشركات أبحاث النوم على محمل الجد، فلدى كل من شركة "بين آند جيريز" (Ben and Jerry’s) و"كيسكو" (Cisco) سياسات عمل تشجع على أخذ قيلولة في أثناء العمل.

وتوفر بعض الشركات غرفاً خاصة لأخذ القيلولة، وتوفر الشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا للموظفين المرهقين حجرات لأخذ القيلولة، وبعضها يحتوي أسرَّة معلقة توفر وضع انعدام الجاذبية، وموسيقى هادئة وأضواء خافتة تُحفِّز على النوم.

لم تكن القيلولة خياراً يؤخَذ في الحسبان عندما كنا نتبع أسلوب العمل الاعتيادي؛ إذ كنا نصل إلى مكاتبنا أو موقع العمل، ومن ثم نستبعد خيار أخذ قيلولة في منتصف يوم العمل، لكن مع انتشار ثقافة العمل من المنزل، فقد تكون هذه فرصة مثالية لتجربة قيلولة بعد الظهر.

شاهد بالفيديو: 6 معلومات قد لاتعرفها عن النوم

آراء كبير الباحثين:

ووفقاً لـ "جيمي غرومان" (Jemmy Growman) كبير الباحثين في "جامعة جيلف" (Guelph) في "أونتاريو" (Ontario)، فإنَّ أخذ قيلولة في فترة ما بعد الظهر يؤدي إلى تحسُّن كبير في الفترة التي تلي القيلولة، وهذا التحسن يمكن ملاحظته.

يخصص "غرومان" في كتابه "التعزيز: العلم وراء إعادة شحن طاقتك في عصر متطلبات العمل التي لا تنتهي" (Boost: The Science of Recharging Yourself in an Age of Unrelenting Demands) فصلاً كاملاً يتحدث فيه عن تأثير النوم في تجديد الطاقة.

وفي أثناء تأليف الكتاب صادف "غرومان" أبحاث عدة تُظهِر أنَّ القيلولة يمكن أن تُحسِّن الانتباه ومهارات الرياضيات والتفكير المنطقي، ويمكن أن تُحسِّن القيلولة من التركيز والاستجابة التي تظهر من خلال ردة الفعل.

يقول "غرومان": "فوائد القيلولة ليست مجرد فرضية؛ بل يوجد دليل عليها وبالأخص عندما يتعلق الأمر بالأداء الوظيفي".

يحرص "غرومان" على عدم تشجيع الناس بشكل مباشر لأخذ قيلولة في العمل، فقد ينتهي بهم الأمر بالطرد من وظائفهم، خاصةً أنَّ الشركات لم تستوعب بعد قيمة القيلولة وآثارها الإيجابية في أداء الموظفين، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ الكثيرين يفعلون ذلك خفيةً، لكن يكون من السهل أخذ قيلولة عندما يعمل الشخص من المنزل.

عندما يقدِّم "غرومان" إحدى محاضراته، فإنَّه يطلب من الأشخاص الذين يأخذون قيلولة في مكان العمل أن يرفعوا أيديهم، ويكون عدد الأشخاص الذين يعترفون بذلك قليلاً على الغالب، ولكنَّ الكثيرين ممن يخفون ممارستهم لهذه العادة يعترفون في وقت لاحق على انفراد.

يقول "غرومان": "يثق الناس بي؛ لذلك يصارحونني بأنَّهم ينامون في مكان العمل؛ ولكنَّهم يخشون أن يعرف أحد بذلك، وهذا أمر طبيعي وشائع؛ فمعظم الناس يشعرون بالإرهاق في حوالي الساعة الثانية ظهراً، ويحتاجون إلى أخذ قيلولة، وعندما يفعلون ذلك يشعرون بتحسن في أدائهم لأعمالهم".

إقرأ أيضاً: ما هي فوائد القيلولة؟

أخذ القيلولة أمر طبيعي:

من المؤكد لدى الجميع ومن دون جدال أنَّنا نحتاج إلى النوم ليلاً، لكن بالنسبة إلى الكثيرين، فإنَّ النوم لفترة قصيرة في أثناء النهار يرتبط بالشعور بالخجل؛ فالكثيرون يَعُدُّون هذا النشاط دليلاً على الكسل والتخاذل في أداء العمل، وهو أمر مخصص للأطفال والمرضى وكبار السن.

لكنَّ هذه الثقافة موجودة فقط في العالم الغربي الحديث، ويكفي أن تلقي نظرة على العديد من الثقافات الأكثر قدماً لتكتشف أنَّ القيلولة كانت أمراً شائعاً؛ بل هي إحدى النشاطات التي تتماشى مع إيقاع الحياة.

يقول الدكتور "ألون أفيدان" (Alon Avidan)، وهو أستاذ علم الأعصاب في "جامعة كاليفورنيا" في "لوس أنجلوس" (UCLA)، إنَّ القيلولة هي استجابة طبيعية للخمول الذي يصيب الجسد عادةً بعد ساعات قليلة من الغداء.

ويضيف "أفيدان": "في الثقافات الأخرى، القيلولة ظاهرة مقبولة اجتماعياً؛ إذ تُعَدُّ وسيلة للتخلص من الإحساس المؤقت بالنعاس والإرهاق، وهذا الأمر شائع جداً في كثير من البلدان، لكن حتماً ليس في الولايات المتحدة الأمريكية (USA)؛ حيث نرفض القيلولة ونحتسي كوب قهوة لنتمكن من الاستمرار بالعمل".

حتى في "اليابان" (Japan)، وهي دولة معروفة بتقديس ثقافة العمل، إلا أنَّ القيلولة تحظى بتقدير كبير ومقبولة اجتماعياً.

وهذا ما أفادت به "أليكسندرا كيني" (Alexandra Kenny) العاملة في موقع "توريست جابان" (Tourist Japan) الإلكتروني؛ إذ قالت إنَّ القيلولة عادة شائعة وجزء من الحياة اليومية في اليابان، وتضيف "كيني" أنَّه من الشائع أن ترى الناس في اليابان ينامون قليلاً في المقاهي والقطارات والمتاجر وحتى في مكاتب العمل.

القليلولة في العمل

عادات الناس في أخذ القيلولة:

وتُعرَف هذه العادة لديهم باسم "إينيموري" (inemuri) والتي تعني النوم في أثناء العمل، ويُشَجَّع على أخذ القيلولة في بعض أماكن العمل في اليابان لأنَّها تساعد العمال على استعادة تركيزهم في أثناء متابعة العمل.

وتقول "كيني": "في الواقع، تُعَدُّ القيلولة نوعاً من المكافأة التي يستحقها العامل النشيط، وهي تعني الكثير على صعيد التوازن بين العمل والحياة في اليابان، وعلى صعيد القوى العاملة، فإنَّها تعود عليهم بفوائد مثل زيادة الإنتاجية والكفاءة في الأداء والسعادة".

ووفقاً لـ "ريكي توبينبلات" (Riki Taubenblat) استشاري نوم الأطفال، فإنَّ أجسامنا تطلب القيلولة في فترة بعد الظهر بسبب حاجتنا البيولوجية إليها، لكنَّ القضية هي أنَّ ثقافتنا تشجع على تناول المنبهات والاستمرار بالعمل بدلاً من النوم.

ويقول "توبينبلات": "من الأفضل السماح للعمال بأخذ قيلولة قصيرة، فهذا يُحسِّن تركيزهم وحالتهم العاطفية وصحتهم البدنية"، ومما لا شك فيه أنَّ النوم - عموماً - ضروري للصحة، ولكن فيما يخص القيلولة بالتحديد، فإنَّ هناك دلائل تشير إلى فوائدها العظيمة.

ويشير "توبينبلات" إلى دراسة أجرتها "جامعة هارفارد" (Harvard) على أكثر من 23000 رجل وامرأة يونانيين؛ وذلك في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث كانت أجزاء من اليونان قد بدأت بالتخلي عن عادة القيلولة للتماشي مع ثقافة العمل المستمر في العالم الحديث.

وعلى مدار ست سنوات من المتابعة خلال هذه الدراسة، فقد وجد العلماء أنَّ الأشخاص الذين امتنعوا عن أخذ قيلولة في النهار أظهروا معدلات أعلى لخطر الإصابة بأمراض القلب مقارنةً بالأشخاص الذين كانوا يأخذون قيلولة في فترة بعد الظهر بشكل مستمر.

يعتقد "توبينبلات" أنَّ السبب الرئيس الذي يجعل الأفراد يرفضون أخذ القيلولة هو أنَّ ثقافتهم لا تحترم النوم، ويشير إلى ذلك قائلاً: "نحن نعيش في مجتمع حيث يكون النوم لأربع ساعات فقط مدعاةً للتفاخر، بينما النوم لثماني أو تسع ساعات يُعَدُّ شيئاً يدعو للاستهجان".

ويعتقد "غرومان" أنَّ هذا الإحساس بالقوة من خلال الحرمان من النوم ينبع من فكرة أنَّ العامل المثالي هو الذي يستطيع مجاراة الآلة في عمله.

ويقول في هذا الشأن: "يمكن تحقيق أقصى استفادة من الآلات إذا قمتَ بتشغيلها على مدار أيام الأسبوع بشكل مستمر؛ والسبب في ذلك هو أنَّ تكاليف توقف الآلة عن العمل تقل وتحقق بذلك كفاءة أكبر، ومن هنا أتت هذه الفكرة بأنَّه يجب قيادة الناس مثل الآلات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع؛ لكنَّ هذه الطريقة في التفكير تتجاهل طبيعة البشر؛ لأنَّها لا تراعي حاجتهم الطبيعية في النوم والراحة".

إقرأ أيضاً: 6 فوائد صحيّة عظيمة للقيلولة خلال النّهار

كيف تحقق أقصى استفادة من القيلولة؟

تتمثل إحدى الطرائق للحفاظ على الطاقة بسهولة بتخصيص وقت للراحة، فيمكنك الذهاب في نزهة أو الاستماع لبعض الموسيقى أو مجرد قضاء بعض الوقت لتصفية ذهنك، كل هذه النشاطات يمكن أن تساعد على منح عقلك قسطاً من الراحة حتى يستعيد حيويته في المتبقي من ساعات العمل؛ لكنَّ "أفيدان" يقول إنَّ لا شيء يعزز صحة الجسم كالنوم.

يقول "أفيدان": "إنَّ آلية شحن أجسامنا بالطاقة تشبه شحن بطارية السيارة، فعندما تطفئ المحرك، فإنَّ السيارة لا تصرف أيَّة طاقة، لكن عند تشغيل كهرباء السيارة، فإنَّ بطارية السيارة تقوم بالشحن، وهذا ما يحدث معنا عندما نكون نائمين، فنحن نسمح للدماغ بالتزود بالطاقة واستعادة حيويته، ولا توجد طريقة فعالة لذلك مثل النوم".

لتحقيق أقصى استفادة من القيلولة يجب أن تستخدمها بشكل استراتيجي؛ وهذا يعني أنَّه لا يجب النوم لفترة طويلة جداً في النهار، كما لا يجب أخذ القيلولة في فترة متأخرة من النهار وإلا فإنَّك تتعرض لخطر الأرق وانخفاض عدد ساعات النوم في الليل.

ويشرح "أفيدان" ذلك: "إذا حصل الفرد على قيلولة في الساعة 5 أو 6 أو أكثر من ذلك في فترة المساء، فقد لا يشعر بالنعاس في الليل، حيث إنَّ القيلولة في وقت متأخر من النهار أدت لحصول الجسم على بعض النوم، ومن ثمَّ انخفض الشعور بالنعاس في الليل".

ووفقاً لـ "أفيدان"، فإنَّ الوقت المثالي للقيلولة هو الفترة التي تنخفض فيها الطاقة كثيراً بعد الغداء، وعموماً، تكون في قرابة الساعة الواحدة ظهراً حتى الساعة الثالثة ظهراً.

وعندما تقرر أخذ قيلولة فإنَّك تستطيع اتخاذ أحد الخيارين: الأول هو أخذ غفوة لمدة عشرين دقيقة لتخفيف النعاس، أما الخيار الثاني فهو أخذ قيلولة لمدة 45 دقيقة إلى ساعة واحدة كحد أقصى، وبذلك تستعيد القدرة على استعمال الوظائف الإدراكية بالكامل.

ويضيف "أفيدان" أنَّنا عندما نطيل وقت القيلولة أو نأخذ القيلولة في وقت متأخر، فإنَّه يحتمل أنَّ نستيقظ متعبين، وبذلك لا نحقق الاستفادة المرجوة من القيلولة.

وربما عندما يتم في المستقبل نشر أبحاث حول فوائد النوم، فإنَّنا قد نزيل هذا التحفظ الموجود في ثقافاتنا فيما يخص أخذ قيلولة؛ ولكنَّ "غرومان" يشدد على أنَّ نشر الأبحاث لن يكون كافياً؛ بل يتطلب الأمر خطوات عدة أخرى حتى نصل إلى المرحلة التي تتبنى فيها الشركات سياسة السماح للموظفين بأخذ قيلولة في أثناء العمل.

شاهد بالفيديو: 8 طرُق فعّالة لتنام بشكلٍ أفضل

نشر الأبحاث لن يكون كافياً:

وأضاف "غرومان": "الطريقة التي يُحَوَّل بها هذا النشاط إلى سياسة مطبقة في الشركات، هو أن يبدأ كبار المسؤولين في المؤسسة بجعل هذا السلوك نموذجاً يُطبَّق في شركاتهم، ويمكن أن يفعلوا ذلك من خلال إنشاء غرف للقيلولة، وتجهيز أماكن العمل بغرف ذات تجهيز جيد للقيلولة وتغيير سياسات الموارد البشرية بحيث يصبح أخذ القيلولة أمراً مقبولاً، وتُطَبَّق هذه السياسة بالكامل عندما يرى الموظفون أنَّ الفريق التنفيذي يأخذ قيلولة أيضاً في أثناء العمل".

اختلاف حاجة القيلولة من شخص إلى آخر:

بالطبع، تختلف الحاجة إلى النوم من شخص لآخر، فبعض الناس يؤدي عمله بطريقة أفضل عندما يحصل على قيلولة كل يوم، بينما يحتاج بعضهم الآخر إلى قيلولة واحدة بين فترة وأخرى، وبالنسبة إلى "غرومان"، فيقول إنَّه يأخذ قيلولة مرة أو مرتين في الشهر في المتوسط، ولكن في المرات التي يعاني فيها من إرهاق كبير في منتصف النهار، فإنَّ القيلولة تساعده على استعادة النشاط وتؤثر تأثيراً كبيراً في جودة عمله.

ويصف "غرومان" فوائد القيلولة على صعيد عمله: "بعد أخذ قيلولة لمدة 15 دقيقة أستعيد نشاطي وأصبح في أحسن حالاتي، وأستطيع التوصل إلى أفكار لم أكن لأتوصل لها في حالة الإرهاق وهذا التأثير مذهل حقاً".

لكنَّ "غرومان" محظوظ كونه يؤدي معظم أعماله من المنزل، وهو بذلك يتمتع برفاهية تنظيم جدوله الزمني ليلائم احتياجاته الخاصة؛ لكنَّه يؤكد أنَّه عندما تتبنى بيئات العمل الحديثة نمطاً أكثر انسجاماً مع حاجات جسم الإنسان فسيكون الجميع عندها أفضل حالاً.

يقول "غرومان": "الأمر يتعلق باحترام جسدك وعقلك، واستيعاب الإشارات التي يرسلها لك جسدك وعدم تجاهلها أو إنكارها، وعلى الرغم من أنَّنا نحاول في أوقات ما أن نبدو أقوياء، إلا أنَّ ذلك لا يجب أن يكون هدفاً نسعى إليه يومياً؛ وهذا يعني أنَّه يجب أن نتبنى الجانب الحدسي؛ وهو الجانب الأكثر انسجاماً مع دورة الجسم الطبيعية، وفي الواقع، سنجني ثمار كوننا أكثر فاعلية".

المصدر




مقالات مرتبطة