العنصرية وآثارها المجتمعية وكيفية مواجهتها

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات 13]، ليبين لنا أنَّه خلق الشعوب جميعها من نفسٍ واحدة دون تمييز، فلا يفخر أحدنا بنسبه أو بماله أو منصبه لأنَّها متاع الدنيا الزائلة، وما ينفعنا هو الأعمال الصالحة والحسنة التي تجسد خوفنا من معصية الله وإيماننا بعظمته.



ومع ذلك فإنَّ العنصرية تتجدد كل حين وتظهر بأشكال مختلفة وبأماكن مختلفة ويتضرر منها ملايين البشر في مختلف جوانب الحياة، وتتسبب بتراجع المجتمعات نتيجة انشغالها بحل النزاعات التي تتسبب بها العنصرية بين أفرادها بدلاً من انشغالها بالتطور والتقدم والاستفادة مما وصل إليه الآخرون من إبداعات واختراعات بمختلف المجالات بصرف النظر عن الاختلافات بينهم، فما هي العنصرية؟ وما هي نتائجها على المجتمع؟ وهل يمكن مواجهتها؟ وكيف يمكن القضاء عليها؟

ما هو مفهوم العنصرية؟

هو الاعتقاد بوجود فروق بين البشر، فترفع من شأن أفراد لمجرد انتمائهم لدين أو جنس أو عرق معين وتقلل من شأن الآخرين لنفس الأسباب، فالشخص العنصري هو كل شخص يشعر بالتفوق نتيجة التمتع بلون معين أو انتماء قومي أو عرقي معين، وكثيراً ما يصل الأمر إلى إعطاء الحق لفئة معينة بالتحكم بالفئات الأخرى، فتقوم بتهميشهم وسلب حقوقهم وتحرمهم حرياتهم وتتحكم بمصائرهم؛ لذلك تُعَدُّ العنصرية أشد الأمراض فتكاً بالمجتمع وإحدى أسباب اشتعال الحروب.

لم يخلُ عصر من العصور منها، لكن اختلفت الأسس التي ارتكزت عليها العنصرية من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر أيضاً، فقد استندت إلى لون البشرة عند بعض الناس أو إلى القومية أو اللغة أو الثقافات أو العادات أو المعتقدات أو الآراء السياسية أو الدين أو النسب، أما العنصرية المستندة إلى الطبقات الاجتماعية فهي الأكثر انتشاراً؛ إذ نرى معظم الناس يحترمون الآخرين بناءً على مكانتهم الاجتماعية ونرى الغني منهم يحقِّر الفقير ويتحكم به أيضاً.

العنصرية

أسباب العنصرية:

الإنسان لا يُخلَق عنصرياً؛ إنَّما تتولد هذه الصفة نتيجة التأثر بالمحيط، والعنصرية الموجودة لدى المجتمع تحتاج إلى أسباب كي تُثار، ومن محفزات العنصرية لدى النفس البشرية ما يأتي:

1. التفاخر بالنسب:

وهو من خصال الجاهلية المذمومة التي جاء الإسلام ونهى المسلمين عنها، فمثلاً يتفاخر الإنسان بنسبه لمجرد أنَّ والده يمتلك منصباً رفيعاً.

2. الاختلاف المادي:

وهو ما يجعل المجتمع مقسماً لطبقات بناءً على امتلاك الإنسان المال، فيكون الغني ذا نفوذ واسع في المجتمع والفقير مهمشاً.

3. اللغة:

فتكون مكانة الفرد الذي يتكلم اللغة العربية فرضاً مختلفة عمن يتكلم الفرنسية.

4. مشكلات نفسية:

مثل التكبر الذي يجعل الإنسان يرى نفسه دائماً أفضل من الآخرين ويدفعه إلى احتقارهم في بعض الأحيان.

5. العقيدة:

الفهم الخاطئ للعقيدة يؤدي إلى جعل الإنسان ينبذ كل من ينتمي لعقيدة مختلفة عن عقيدته، وهذا ما تسبب بالكثير من النزاعات حول العالم.

6. العادات الموروثة:

وغير المبنية على أسباب واضحة، فيتشبع الفرد بأفكار بيئته ويكبر كارهاً لفئات معينة دون معرفة الأسباب.

شاهد بالفيديو: 15 قول عن التسامح والغفران

ما هي الآثار المجتمعية للعنصرية؟

تجريح الناس وإهمالهم وإهانتهم والتحكم بحياتهم يؤدي إلى الكثير من الآثار السلبية في الفرد والمجتمع، لكن بدايةً من الضروري أن نعرف آثار العنصرية في الفرد؛ وذلك لأنَّ الفرد هو حجر أساس المجتمع فإن صلح حاله صلح المجتمع وخلاف ذلك صحيح أيضاً، ومن سلبيات العنصرية على الفرد نذكر ما يأتي:

1. الكره:

مشاعر الكره والبغضاء والحقد تتولد عند الإنسان الذي يتعرض للعنصرية تجاه الأشخاص العنصريين ممن يمارسون عليه السلوكات العنصرية، أو تجاه المجتمع بأكمله نتيجة شعور الفرد بالقلق والتوتر الدائم كأنَّه يعيش في غابة بين وحوش يتربصون به مستغلين مختلف الفرص لأذيته.

2. الفشل:

نتيجة ما يتعرض له الإنسان في مجتمعه من رفض في مختلف اللقاءات والاجتماعات ومقابلات العمل، فيتسبب ذلك في فشله بتأسيس حياة جيدة حتى إن كانت الإمكانات اللازمة لنجاحه متوفرة.

3. الانعزال:

نبذ المجتمع للفرد يؤدي به إلى الوحدة والانعزال عن الآخرين، وقد يتسبب بتركه لمجتمعه بشكل نهائي والانتقال إلى حياة أخرى على الرغم من عدم رغبته بالمجتمع الجديد؛ إنَّما بهدف الراحة من التعرض للعنصرية فقط.

4. كراهية الذات:

انتقاد المجتمع وتنمره وكرهه يتسبب بكره الفرد لذاته ولوم نفسه لاعتقاده بأنَّه لا يجيد شيئاً، فيشعر بالعار وهذه الأفكار تتسبب بالرغبة في إيذاء الآخرين أو إيذاء النفس.

الآثار المجتمعية للعنصرية:

1. تفكك المجتمع:

غياب المحبة بين أفراد المجتمع وسيادة التمييز يؤدي إلى جو من الكراهية والخوف بين أفراده وغياب الثقة، فلا تكاد تجد أحداً يثق بالآخر، فتنتشر بالنتيجة الكثير من الأمراض الاجتماعية الخطيرة كالتنافس والحسد غير المحمود الذي يدفع الأفراد إلى الصراع لتحقيق غايات فردية.

كل ما سبق ينتج عنه مجتمع غير مستقر ومفكك لا تجمع بين أفراده روابط ثابتة، وهش أيضاً معرَّض للاختراق من قِبل أيَّة جهة خارجية للعبث بمقدراته والتعدي على موارده؛ إذ يصبح المجتمع لقمة سائغة أمام أيَّة جهة معادية ترغب باحتلاله.

2. الحروب:

الكراهية الاجتماعية تفتح كل أبواب الشر على المجتمع وتتسبب بخلق نزاعات بين الأفراد تتطور لتصبح حروباً أهلية في كثير من الأحيان، فالحرب أولها الكلام، وخاصة عندما تكون النزاعات حول الدين، فالكثير من الحروب في التاريخ حدثت نتيجة اختلاف ديني أو طائفي وتعصُّب كل فرد لطائفته ونبذه لمن يختلف عنه.

مثلاً فرنسا دفعت ثمناً باهظاً للحروب الطائفية التي نشبت فيها بين عامي 1562م و1650م؛ إذ نتج عن ذلك تخريب للبلاد ومذابح مروِّعة، فهذا النوع من الصراعات ينتهي بتراجع المجتمع وتدميره حتماً.

شاهد بالفيديو: أهمية التسامح للفرد والمجتمع

كيفية مواجهة العنصرية:

بعد معرفة الآثار السلبية الوخيمة للعنصرية في الأفراد والمجتمع بأكمله، لا بد من الوقوف بوجه هذه السلوكات، والحدِّ من انتشارها إن كنا نرغب في بناء مجتمع متماسك ومتحابٍ؛ وذلك سعياً إلى التطور والتقدم بعيداً عن النزاعات والحروب، والكثير من الجهات لها دور في مواجهة العنصرية بالشكل الآتي:

أولاً: دور الفرد في مواجهة العنصرية

1. تقبُّل الاختلاف:

فالحياة تفرض على الإنسان التعامل مع أنماط مختلفة من البشر، والتصرف الصحيح هو إعطاء فرصة للتعرُّف إلى الإنسان قبل إطلاق الحكم عليه لمجرد انتماءاته السياسية أو الدينية المخالفة أو لاختلافه بالشكل أو اللون مثلاً.

2. رفض التعصب الموروث:

يجب على الإنسان التحري والتفكير بأسباب كره مجتمعه لفئة معينة مثلاً وليس الانجرار وراءه؛ لأنَّ ذلك يساعد على كسر الصور النمطية للشعوب والثقافات الأخرى حتى إن كان السبب دينياً، فمن المفترض أن يفهم أنَّ الأديان وُجدت لتحل المشكلات بين الشعوب وتجمعهم وليس لتفرقهم؛ لذلك تقوية الوازع الديني في نفس الفرد تؤدي دوراً جيداً في نبذ العنصرية.

3. تربية الأبناء تربية صحيحة:

من خلال زرع القيم الصحيحة والأخلاق الحميدة في نفوس الأطفال؛ لأنَّ تعليم الإنسان في مرحلة مبكرة كيفية تقبُّل الآخرين والتعايش معهم بصرف النظر عن الاختلافات هو الطريقة الصحيحة لبناء مجتمع متحاب يقوم على التسامح، وهذه مسؤولية الأهل بالمرتبة الأولى، فالأسرة هي النواة الأولى في أي مجتمع.

4. رفض العنصرية:

يجب على الفرد رفض كافة أشكال العنصرية التي تُطبق على الآخرين أمامه، فمثلاً يجب أن يدافع عن شخص يتعرض للتنمر بسبب شكله أو لون بشرته وليس الوقوف جانباً والصمت؛ لأنَّ الصمت في هذه المواقف تجنباً للوقوع بالمشكلات يدل على الرضى بالعنصرية.

ثانياً: دور المجتمع في مواجهة العنصرية

  1. تنظيم اجتماعات وندوات تدعو إلى تقبُّل الاختلافات والتعايش معها ومحاربة مختلف أشكال العنصرية والتمييز في المجتمع؛ إذ توجد في كل مجتمع شخصيات فعالة غير حكومية ودينية أحياناً تؤثر في الأفراد وتقودهم في الكثير من الأحيان، ومن ثمَّ هم وسيلة لنشر الأفكار التي تنبذ العنصرية وللتخلص من الأفكار البالية المتوارثة عبر الأجيال.
  2. رصد السلوكات العنصرية والنزاعات بين الأفراد وعرضها على السلطات المتخصصة منعاً لانتشارها.
  3. دعم الأشخاص ممن يتعرضون للأفعال العنصرية أو التنمر كي يستطيعوا الرجوع إلى حياتهم الطبيعية دون التنازل عن حقوقهم.
إقرأ أيضاً: العنصرية وآثارها السلبية على المجتمع

ثالثاً: دور الحكومات في مواجهة العنصرية

لأنَّ الحكومة مسؤولة بالدرجة الأولى عن سيادة الأمن والأمان في المجتمع، لذلك عليها القيام بما يأتي:

  1. دراسة سياساتها وبرامجها بشكل دقيق كي تضمن خلوها من أي تمييز لفئات أو أشخاص معينين وتتأكد من تطبيقها للعدل والمساواة بين مختلف أفراد المجتمع.
  2. حل الخلافات بين الفئات المختلفة في المجتمع منعاً لتفكك المجتمع.
  3. محاسبة كل من يقوم بأفعال عنصرية في المجتمع الواحد وفرض أشد العقوبات على من يتعمد إثارة الفتن.
  4. التنسيق مع الإعلام لنشر الوعي ضد العنصرية والتمييز في المجتمع؛ وذلك لأنَّ الإعلام قادر على أداء دور إيجابي وهام جداً في نبذ العنصرية والتخلص منها.

رابعاً: دور المؤسسات التعليمية في مواجهة العنصرية

  1. التأكد من خلو المناهج التعليمية من كل الأفكار التي تدعو للعنصرية ومحاولة طرح مواد جديدة تساعد على فهم الطالب الصحيح للثقافات الأخرى المختلفة، وتوضح أهمية الاختلاف، وتساعد على فهم حقوق الإنسان في الحياة ليستطيع تقبُّل اختلاف الآخرين.
  2. تدريب المدرسين على احترام الاختلافات في المؤسسة التعليمية، فهم قدوة التلاميذ وعدم ممارستهم لأفعال عنصرية يمنع التلاميذ من ممارستها بين بعضهم بعضاً، فمثلاً وجود طالب قادم من مجتمع آخر ذي لون بشرة أسود بين طلاب من ذوي بشرة بيضاء يجعله عرضة للتنمر، فإن أهمله المدرسون لعدم تقبلهم له حينها تزداد المشكلة سوءاً، فالتصرف الصحيح هو الاهتمام به كباقي زملائه.
إقرأ أيضاً: التسامح: حاجة إنسانية وضرورة ثقافية

خامساً: دور المنظمات الإنسانية في مواجهة العنصرية

  1. عقد الدورات التثقيفية لنشر أفكار العدل والمساواة بين أفراد المجتمع ونبذ العنصرية بمختلف أشكالها.
  2. مساعدة ضحايا العنصرية والاهتمام بهم لتخطي الأزمات النفسية التي تعرضوا لها ليستطيعوا عيش حياة طبيعية.

في الختام:

عانت الكثير من الشعوب من العنصرية على مر الزمان وما زال بعض منها يعاني حتى الآن، وتنوعت أسباب العنصرية بين الناس فمنها كان لأسباب جسدية كاللون ومنها لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية، ولكنَّ العنصرية باختلاف أسبابها تؤدي إلى تدمير الحالة النفسية للفرد وانعزاله عن مجتمعه وفشله في عيش حياة طبيعية؛ ليؤدي ذلك إلى انتشار الكراهية والبغضاء في المجتمع، فنحصل على مجتمع مفكَّك ومعرَّض لاشتعال الحروب في أيَّة لحظة سواء كانت أهلية أم خارجية.

إنَّ مواجهة السلوكات العنصرية تبدأ من بناء إنسان يتميز بالأخلاق الحميدة ليحب الآخرين دون تمييز، والمسؤول عن ذلك هو الأسرة بالدرجة الأولى، ومن ثم المجتمع الذي يعيش فيه والمؤسسات التعليمية، وأيضاً الحكومة مسؤولة عن هذا المجتمع، فإن قام الجميع بعمله بشكل صحيح حصلنا على مجتمع متحابٍّ بعيدٍ عن العنصرية بمختلف أشكالها.




مقالات مرتبطة