الشعور بالذنب أقوى سلاح تدميري في تاريخ البشرية

لا يوجد إنسان في هذا الكوكب إلَّا وقد مرَّ في مرحلة ما من مراحل حياته بالشعور بالذنب تجاه قضية معيَّنة أو موقف حدث معه في حياته؛ فالحياة فيها الحلو والمر، ولا بدَّ لهذا الأمر أن يترك آثاره في مستقبلنا وتهاجمنا من حين إلى آخر سواء بوجود سبب أم بغيابه.



سنقدِّم لكم في هذا المقال نظرة سايكولوجية حول الشعور بالذنب، وسنوضِّح الأفكار بطريقة مبسَّطة من خلال استحضار مثال عيادي، وطريقة معالجته في العيادة النفسية، وسنعرِّفكم في نهاية المقال إلى أقوى سلاح تدميري في تاريخ البشرية من وجهة نظر علماء النفس.

ما هي مشاعر الذنب؟

يخبرنا علماء النفس بأنَّ مشاعر الذنب هي عبارة عن مزيج من المشاعر المختلطة، والتي تجمع بينها صفة السلبية؛ فهي مزيج من الغضب والحزن والخزي والعجز والقلق، تنتابنا عندما تطرُق بعض الذكريات باب مخيلتنا دون سبب واضح، وتأخذ هذه الذكريات شكل موقف أو علاقة مع صديق نحاكم فيها أنفسنا على أنَّنا مخطئون وأنَّ موقفنا هو موقف ناقص أو غير سوي.

ويقول بعض خبراء علم النفس إنَّ مشاعر الذنب تكون في غالب الحالات على أمور غير منطقية؛ فنحن في أغلب الحالات نشعر بالذنب تجاه مواقف لم نكن نملك أيَّة قدرة على تغييرها أصلاً، أما الحالات التي كنَّا فعلاً قادرين على تغييرها فهي حالات قليلة أو ربما شبه معدومة، ولكنَّ الآليات النفسية الحساسة عند بعض الأشخاص تدفعهم إلى تضخيم هذه الأمور إلى حدِّ الشعور بالذنب.

إقرأ أيضاً: كيف توفر على نفسك رحلة ذنب أخرى لا طائل منها؟

كيف نتصرَّف نحن في العادة عند مواجهة مشاعر الذنب؟

عندما تنتابنا مشاعر الذنب، فإنَّنا نواجهها من خلال معايشتها مع تجنُّب مواجهة الأفكار الأساسية التي تحتويها فيما يتعلق بقدرتنا أو أدائنا؛ والتي قد تسبب استمرار معاناتنا مع هذه المشاعر.

فيما قد يلجأ بعض الناس إلى طريقة أخرى في التعامل مع إحساسهم بالذنب؛ وذلك عبر تجنُّب معايشة هذه الأفكار والمشاعر بشكل كامل، والابتعاد عن أي شيء له علاقة بها بأي شكل من الأشكال؛ وهذا ما يعزز اعتقادنا بنقص قدراتنا ومهاراتنا ويجعلنا نشعر بحالة من انعدام الكفاءة وقلة الثقة بالنفس.

تمثِّل هاتان الطريقتان أسلوباً فاشلاً في التعامل مع مشاعر الذنب؛ إذ نعتقد أنَّنا بذلك نتخلَّص من المشكلة، ولكنَّنا في نفس الوقت نغرق بها بشكل أعمق.

ما هي الطريقة الصحيحة التي نستطيع من خلالها تجاوز مشاعر الذنب؟

  1. قد يبدو ساذجاً أن نقول إنَّ الطريقة الأفضل أو الوحيدة التي قد نتمكَّن من خلالها إعطاء أنفسنا فرصة أكبر في تجاوز أو تخطِّي مشاعر الذنب هي عدم تجنُّبها، لكن هذه هي الحقيقة التي تجتمع عليها مدارس علم النفس جميعاً.
  2. وقد يكون هذا الكلام غريباً عند بعض الناس كونَ مشاعر الذنب التي قد تأتينا نتيجة أمور حدثت في الماضي، وهي أصلاً عبارة عن مشاعر ملحَّة بشدة قد لا نستطيع تجنُّبها أو تجاهلها.
  3. لا بدَّ لنا أن نصل إلى قناعة مفادها أنَّ السبيل الوحيد للشفاء من هذه المشاعر ليس الهروب منها أو إزاحتها إلى مكان آخر؛ بل هو المواجهة الفعالة؛ وذلك عبر تقبُّل الأمر في البداية من أجل أن نستطيع فهم ما جرى في ذلك الموقف أو تلك العلاقة أو تلك المرحلة بشكل منطقي وعقلاني، ونسأل أنفسنا بشكل صريح: "هل كنَّا نتحمَّل مسؤولية ما جرى بشكل كامل؟"، و"هل كان في الإمكان أفضل مما كان؟"، و"ما هي الفائدة المُنتَظرة جراء معايشتنا لهذه المشاعر القاسية؟".
  4. عندما نفكِّر في هذه الأسئلة بشكل عقلاني بحت مع إزاحة كل ما له علاقة بالعواطف جانباً؛ سنصل حتماً إلى إجابات بسيطة وواضحة تبعث في أنفسنا الراحة والسكينة، وتحقق لنا حالة من التسامح مع الذات، والتي تنطوي على واقعية عقلانية، وبالنظر إلى محدودية ما كان يمكن أن نقوم به من أفعال؛ هذا التسامح وهذه الواقعية ستزيد فرصنا في تجاوز سريع لجميع مشاعر الذنب التي كنَّا نعاني منها فيما مضى.

شاهد بالفيديو: 20 أمراً يندم عليها المرء في حياته

مثال تطبيقي عن مشاعر الإحساس بالذنب:

بينما يمشي جون في الطريق الواصل بين قريته والقرية المجاورة؛ تأتي سيارة مسرعة وتصدم شاباً أمامه، ويركض جون مسرعاً لمساعدة الشاب لأنَّ السيارة هربت ولم تتوقف لإنقاذ الشاب، وعندما رأى جون وجه الشاب مضرجاً بالدماء وهو يصرخ ويسعل ويتخبَّط بحركات مخيفة، تجمَّد الدم في عروق جون، ولم يَعُد يقوى على الحراك، وأصبح يشعر بأنَّه مشلول بشكل كامل.

تأتي بعدها سيارة مارة بالصدفة لتسعف الشاب إلى أقرب مستشفى، ويعلم بعدها جون أنَّ الشاب قد فارق الحياة خلال عملية نقله.

خلال سنوات لم تَغِب صورة هذا الشاب عن مخيِّلة جون، وأصبحت تأتيه على شكل كوابيس مزعجة، وأصبح يقلق ويتعرَّق بشدة في كل مرة يمر فيها من مكان الحادث، وقد كان جون طوال الوقت يلوم نفسه على ما حدث، ويَظن بأنَّه كان سبباً في وفاة ذلك الشاب؛ فربما لو أنَّه قد اتَّصل بسيارة الإسعاف فوراً؛ لكان الآن على قيد الحياة، وربما كان عليه أن يطبِّق ما قرأه في أحد الكتب عن أساسيات الإنعاش القلبي الرئوي، وظلَّت هذه الأفكار تنمو وتكبر في مخيلة جون إلى حدٍّ أصبحت تعوق حياته وتقلل من إنتاجيته في العمل؛ مما دفع أحد الأصدقاء المقربين منه إلى أخذه إلى معالج نفسي.

مثال تطبيقي عن طريقة تعامل العلاج النفسي مع الإحساس بالذنب:

استكمالاً لقصة صديقنا جون الذي يدخل الآن إلى عيادة المعالج النفسي ويعرض مشكلته بتفاصيلها، ثم يُعطي المعالج النفسي بعض النصائح لجون؛ والتي ستساهم فيما بعد بشفائه من هذه المشاعر:

  1. أولاً يجب علينا أن نتقبَّل وجود أشياء في الحياة لا نستطيع تغييرها، وهي تحدث باستمرار وفي كل يوم، والموت هو أحد هذه الأشياء الحتمية التي لا حول لنا بها ولا قوة.
  2. لقد قسوتَ جداً على نفسك في أنَّك حملتها عبئاً لا تستطيع أنت حمله، لكن لا تحزن فهذا ينم عن جانب إنساني وأخلاقي عميق يسكن في داخلك، فأنا أهنِّئك على ذلك.
  3. ربما نسيتَ في خضِّم تحميل نفسك الذنب أنَّ من صدمَ هذا الشاب هو شخصٌ آخر ليس أنت، وربما السائق نفسه لا يحمل أي ذنب، فقد يكون الشاب غير منتبهٍ إلى السيارة القادمة، وأنا أقصد بهذا الكلام أنَّ لهذه الحادثة ملابسات كثيرة لا يمكن أن نبتَّ بها حتى على السائق، فكيف لنا أن نحكُم عليك بالذنب؟
  4. ثم نستطيع أن نضع احتمالاً بموت الشاب، حتى لو تصرَّفت بسرعة واتَّصلت بسيارة الإسعاف، فقد تكون إصابته بليغة وخطيرة بشكل لا يمكِّنه من الحياة.
  5. أما بخصوص لوم نفسك على عدم إنعاشه وعدم تطبيقك لما قرأته في كتاب، فأودُّ أن أقول لك إنَّ الإنعاش له جانب عملي، فعليك التدريب في المشافي والمراكز الصحية لكي تكون قادراً عليه، ولا تكفي قراءتك لبضع صفحات، وأيضاً لا يمكن أن يتم الإنعاش بشخصٍ واحد؛ بل إنَّه يحتاج إلى ثلاثة أشخاص على الأقل، ومعدات وأدوية بالتأكيد لن تكون في حوزتك.
  6. وفيما يخص إحساسك بالقلق عندما تمر من مكان الحادثة؛ فليس حلاً أن تتجنَّب المرور به؛ بل على العكس تماماً يجب عليك أن تمر به بشكل مكثَّف إن استطعت، واصطحب في المرات الأولى أصدقاءك بحجة ممارسة رياضة المشي أو غير ذلك؛ إذ إنَّ كثرة التعرُّض تمنع الاستجابة.
  7. أتمنى أن تتذكر هذه الأفكار دائماً وترددها في مخيلتك كلَّما داهمتك مشاعر الذنب، فقد تكون البداية صعبة، وقد لا تلاقي أي تحسُّن في الفترة الأولى، لكن لا تيأس فمع مرور الوقت ستتغلَّب على هذه المشاعر السيئة، ثق بذلك وراجعني بعد أسبوعين لكي نرى الفارق.

شاهد بالفيديو: 10 أسباب وراء شعورك بالندم

لماذا يكون الشعور بالذنب هو أقوى سلاح تدميري في تاريخ البشرية؟

  1. إنَّ أقوى سلاح من الممكن استخدامه ضد أحد الأشخاص هو إشعاره بالذنب تجاهك.
  2. وأقوى سلاح يمكن للشخص أن يدمر نفسه به هو أن يُشعِر ذاته بالذنب؛ سواء كان ذلك وفق مبررات منطقية أم لا.
  3. وأكثر سلاح يستخدمه الأهل في وجه أطفالهم الصغار هو إشعارهم بالذنب؛ إذ يستطيعون بذلك وضع الأطفال داخل سجون حصينة وقوية من الطاعة المطلقة والصوت المنخفض والعين المنكسرة؛ سواء كان بسبب أم دون سبب، أو سواء كان هذا السبب هو مجرد وجودهم في هذه الحياة.
  4. وكذلك الأمر فإنَّ أقوى سلاح يمكن أن يستخدمه الأولاد ضد والديهم هو إشعارهم بالذنب بسبب تقصيرهم المادي أو العاطفي تجاههم، أو حتى لمجرد إنجابهم لهم إلى هذه الحياة دون أن يفهموا حقيقة أنَّ الأهل قد قدموا لهم ما كانوا يعتقدون أنَّه أفضل ما يمكن.
  5. وأقوى سلاح يمكن أن يستخدمه بعض الأشخاص - باسمِ الدين - من أجل السيطرة على الناس هو إشعارهم بالذنب تجاه أيَّة عاطفة أو فكرة تخطر في بالهم، وسحقهم تحت هذا الشعور الذي يؤدي إلى صمِّ آذانهم وإعماء عيونهم عن الحياة والحقيقة والواقع.
إقرأ أيضاً: لماذا نشعر بالذنب عندما نأخذ استراحة؟

في الختام:

إنَّ أهم طريقة للتخلُّص من الإحساس بالذنب هي أن نقيَ أنفسنا منه؛ وذلك من خلال تأدية واجباتنا على أكمل وجه دون أي تقصير، وتحمُّل المسؤولية في الأعمال والوظائف التي نشغلها؛ وذلك لنكون قد فعلنا كل ما يمكن فعله من أجل تلافي أي خطأ، وهنا نكون قد رفعنا عن أنفسنا مسؤولية ما قد يحدث طالما أنَّه خارج عن نطاق إرادتنا وقدرتنا ومعارفنا.




مقالات مرتبطة