السعادة ومستوياتها

قد لا تبدو السعادة فكرةً سهلة بعد أن تدرك أنَّ لهذه الكلمة المفردة مفاهيم متنوعة، مثل القناعة التي تورث الطمأنينة، والفرحة التي تملأ المرء نشوةً.



يحدد مفهومنا للسعادة الطريقة التي نسعى بها إلى بلوغها، وليست كل أشكال السعادة متساوية؛ في الواقع، بعض أشكال السعادة ليست جيدة بالنسبة إلينا؛ إذ تقودنا بعض مسارات السعادة إلى الشعور بالرضى العميق، بينما تؤثر فينا طرائق أُخرى مؤقتاً، ويتبع ذلك الرغبة الشديدة في الحصول على المزيد من السعادة.

بالنسبة إلى أسلافنا، فإنَّ الدرب المؤدي إلى عيش حياة سعيدة كان بتوجيه من القصص والحكماء الذين علَّموهم الطريقة الصحيحة لعيش حياة سعيدة. أمَّا اليوم، فقد تعامل العلم الحديث تعاملاً مختلفاً مع السعادة؛ فإنَّ نقطة البداية لعيش حياة سعيدة تكمن في فهم كيفية تحديد إحساسنا بالسلامة.

اكتشاف السعادة:

إحدى الطرائق الشائعة جداً التي يعتقد علماء النفس أنَّنا نُقيِّم بها واقعنا، تكون من خلال ما يُسمَّى بقاعدة نهاية الذروة (peak-end rule)؛ إذ إنَّه وفقاً لهذه النظرية، فإنَّنا نحكم على أيَّة تجربة معيَّنة من خلال ما شعرنا به في ذروة التجربة وفي نهايتها؛ وذلك لأنَّنا لا نميل إلى الاهتمام بالمجموع الإجمالي لمشاعرنا في أثناء التجربة، أو كيف يمكن أن تكون في المتوسط.

بدلاً من ذلك، نركز على النقاط البارزة فحسب، مثل أفضل الأجزاء وأسوأ الأجزاء والأجزاء الأخيرة؛ فإنَّ اللحظات التي تركت انطباعاً قوياً خلال تجربتنا، تخبرنا ما إذا كانت التجربة جيدة أم سيئة، وبأيَّة طريقة كانت جيدة أو سيئة.

ساعد الدكتور دانيال كانيمان (Daniel Kahneman) الحائز على جائزة نوبل، وهو باحث وأستاذ علم النفس في جامعة برينستون (Princeton University)، في صياغة قاعدة نهاية الذروة في عام 1999؛ وذلك من خلال الدراسات التي أثبتت صحة هذه القاعدة؛ لكنَّ هذا مجرد جزء من القصة.

السعادة الخفية:

في دراسة لاحقة مبنية على الملاحظة أجراها كانيمان وفريقه، سُئلت مجموعة مكونة من 800 امرأة عن سبب شعورهن بالسعادة المرتبطة بالنشاطات اليومية التي يقمن بها، فضلاً عن جانب معيَّن من السعادة ألا وهو رضاهن عن الحياة.

لقد تم الحديث عن الوقت الذي يقضونه مع أطفالهن بوصفه من بين أقل النشاطات متعة، لكن كان هناك تناقض في ذلك؛ إذ إنَّه عندما حلل كانيمان البيانات، وجد أنَّه على الرغم من الشعور بالإحباط المرتبط بتربية الأطفال، أبلغت الأمهات عن مستوى أعلى من الرضى عن الحياة مقارنة بالنساء اللاتي ليس لديهن أطفال.

لماذا لم يكن لقاعدة نهاية الذروة تأثير يذكر؟ وفقاً للدكتورة تاليا ميرون شاتز (Talya Miron-Shatz)، عالمة النفس التي عملت جنباً إلى جنب مع كانيمان، هناك حدان لهذه القاعدة؛ الحد الأول، هو أنَّ النهاية لها تأثير في التجارب التي لها نهاية مميزة فحسب، أمَّا الحد الآخر، هو أنَّ القاعدة تنطبق على مستوى واحد فقط من السعادة.

قالت ميرون شاتز: "إنَّ الرضى عن الحياة هو مفهوم أعلى من السعادة التي نعيشها على المستوى اليومي؛ فعندما يتعلق الأمر بتقييم الرضى عن الحياة، فأنت تفكر في الصورة الكبيرة؛ أي في حياتك المهنية والمنزل والزواج والأسرة، وما إلى ذلك. إنَّها أكثر من مجرد قائمة اختيار".

الحياة قائمة على مستويين من السعادة:

عند تصنيف هذين المستويين من السعادة، يستلهم علماء النفس من أفكار اليونان القديمة؛ إذ يُطلَق على المستوى اليومي اسم سعادة المتعة (Hedonic Happiness)، ويُطلَق على مستوى الصورة الكبيرة اسم السعادة الجيدة (Eudaimonic Happiness).

تشير سعادة المتعة (المشتقة من الكلمة اليونانية "hedone" والتي تعني "المتعة") إلى المشاعر التي نحصل عليها من أسباب الراحة المادية؛ أي إنَّها الإثارة التي تأتي مع شراء أحذية جديدة أو تناول حلوى لذيذة، فالمتعة هي كل ما يجعل المرء يشعر بالرضى في الوقت الحالي.

من ناحية أخرى، فإنَّ السعادة الجيدة تلبِّي حاجتنا إلى المعنى والهدف، وكان أرسطو أول من وصف مساعي السعادة الجيدة الفاضلة، والتي تُترجَم حرفياً إلى التوافق مع الكائنات الإلهية الصالحة؛ إذ روَّج الفلاسفة اللاحقون لهذه الفكرة على أنَّها الهدف النهائي للحياة.

هناك طرائق عدة للوصول إلى السعادة الجيدة، ولا مانع أيضاً في الاستمتاع ببعض لحظات المتعة (بشرط ألَّا تكون غير أخلاقية أو مفرطة)؛ فيمكن أن يمنحنا كِلا المستويين الفرح؛ لكنَّ النقطة الأساسية هي أنَّه لا يمكننا أبداً استبدال مستوى بمستوى آخر.

إقرأ أيضاً: نصائح مهمة لتكون أكثر سعادة في الحياة

قالت ميرون شاتز: "إذا كنت أتطلع إلى تناول الشوكولاتة من أجل الشعور بالسعادة، فلن يمنحني ذلك الإشباع الذي أحتاج إليه على مستوى السعادة".

هذا لا يمنعنا من المحاولة؛ في الواقع، نحن نعيش في عالم نُشجَّع فيه باستمرار على مثل هذه الأمور عديمة الجدوى، والواقع هو أنَّ الإعلانات الترويجية للسلع تدفعنا إلى الشراء، ليس إلى شراء منتج ما فحسب، ولكن إلى شراء إحساس بالتسامي والتمكين الذاتي والذي لا يمكن لأيَّة سلعة أن تقدمه.

تكيُّف المتعة:

بالنظر إلى مقدار وشدة تجارب المتعة المتاحة لنا، لم تكن الحياة في يومٍ من الأيام أفضل ممَّا هي عليه الآن؛ إذ يمكننا الوصول بسهولة إلى مجموعة متنوعة من الملذات التي لم يكن من الممكن أن يحصل عليها حتى أعظم الملوك في الماضي. والسؤال هنا: لماذا لسنا أسعد ثقافة في التاريخ؟ إنَّ الشعور بالضيق والقلق والاكتئاب في العصر الحديث لا يرتبط بنقص السعادة الجيدة فحسب؛ بل بكوننا أضعفنا الملذات أيضاً.

يسمي علماء النفس هذا "التكيف مع المتعة"؛ حيث يصف هذا المصطلح المتعة التي تحصل عليها في البداية من شيء أو نشاط، والتي تتضاءل مع مرور الوقت. وفي النهاية، نتكيف بحيث يصبح المحفز السعيد الذي كنَّا نعتمد عليه لا يمنحنا التشويق، ويبدو الأمر كما لو كنت في حلقة مفرغة، فأنت تركض خلف شعور لن تصل إليه أبداً.

يطلق مدمنو العقاقير على هذه الديناميكية اسم مطاردة التنين، لكن سواء تعلق الأمر بالعقاقير أم الحلوى أم أيِّ شيء آخر يسبب الإدمان، ونعتمد عليه لمنحنا الإحساس بالرفاهية، فإنَّ المبدأ هو نفسه.

وهو أمرٌ لا ينطبق على الرذائل فحسب؛ لنفترض مثلاً حصولك على وظيفة براتب أفضل أو منزل أكبر أو سيارة فاخرة. قد تجعلك هذه الترقيات سعيداً لبعض الوقت، ولكن بعد ذلك، يصبح الأمر بمنزلة الوضع الطبيعي الجديد، ولا يعود لديك شعور بالرضى عن هذه الأمور؛ ذلك لأنَّ إدراكنا موجه نحو استيعاب التغييرات. تذكَّر أنَّنا نتذكر اللحظات القصوى؛ لذا فإنَّ الإيجابيات التي تتخلل حياتنا ستصبح في نهاية المطاف أموراً نَعُدُّها من المسلمات.

شاهد بالفديو: 8 نصائح لتبدأ نهارك وأنت في قمة السعادة

المطالب المتعالية:

ومع ذلك، هناك قمم يمكن أن نسعى إلى بلوغها، والتي تبيَّن أنَّه يمكن لنا أن نثق بالحصول على مُتَع دائمة منها. في دراسة صممتها ميرون شاتز، طلبت من مجموعة من النساء من ولاية أوهايو (Ohio) الإبلاغ عن أفضل النقاط الملحوظة في يومهن، وعندما حلل فريقها جميع القمم المشتركة بين الناس، ظهر النشاط الديني والصلاة والهوايات في مقدمة الأمور المشتركة؛ حيث قالت: "أعتقد أنَّ السبب في ذلك هو أنَّ هذه الأشياء ترتقي بك؛ إذ إنَّها تأخذك إلى ما وراء الحياة اليومية، ثم إنَّ الشيء الآخر المشترك بين هذه الأشياء هو أنَّها إرادية".

يحتل الشعور بالحرية مرتبة عالية في أبحاث السعادة، ربما هذا هو السبب في أنَّ شيئاً مقيداً للغاية، مثل التنقل، يحتل مرتبة منخفضة جداً؛ إذ في إحدى دراسات كانيمان، كان العمل اليومي ذهاباً وإياباً من النشاطات التي أفاد الناس أنَّهم يكرهونها أكثر من غيرها.

الإلحاح السلبي:

الشيء الآخر الذي توصَّل إليه الباحثون عند اكتشاف معادلة السعادة، هو أنَّ تأثير التجارب السلبية في تقييمنا لتجربتنا أكبر من تأثير التجارب الجيدة. وقد استُكشِف هذا النمط في مقال نُشِرَ عام 2001 بعنوان "الشر أقوى من الخير" Bad is Stronger than Good، في مجلة ريفيو جنرال سايكولوجي (Review of General Psychology)، كتبه أساتذة علم النفس من جامعة كيس ويسترن ريزيرف (Case Western Reserve University).

"هذا لا يعني أنَّ الإرادة السيئة تنتصر دائماً على الخير، وتسبب الهلاك والبؤس للجنس البشري؛ بدلاً من ذلك، قد يسود الخير على الشر من خلال قوة الأرقام، فالعديد من الأحداث الجيدة يمكن أن تتغلب على الآثار النفسية لحدث واحد سيئ. لكن عندما توجد مقاييس متساوية بين الخير والشر، فإنَّ التأثيرات النفسية للآثار السيئة تفوق تلك للآثار الجيدة".

يفسر بعض علماء النفس هذه الظاهرة كآلية للبقاء على قيد الحياة؛ إذ إنَّه من الجيد أن نشعر بالرضى؛ لكنَّ مشاعرنا تتأثر أكثر باللحظات السيئة، حتى نولي انتباهنا ونتجنب هذا الألم في المستقبل.

كما يمكن أيضاً ربط هذه الظاهرة بالميل نحو التفكير السلبي بدلاً من التفكير الإيجابي، وقد يكون هذا التصرف أقوى في أوقات القلق الشديد والاكتئاب والنزاع، ومع ذلك، ومهما كان السبب، هناك أمور يمكننا القيام بها لقلب معادلة السعادة لصالحنا.

إقرأ أيضاً: القواعد الخمس الأساسية للوصول إلى السعادة في حياتك

التحول نحو السعادة:

إنَّ الشيء الهام هو الشعور بالامتنان. تقول ميرون شاتز، التي تترأس الآن إدارة منصة بادي آند سول (Buddy & Soul)، وهي منصة على الإنترنت للتطوير الشخصي، إنَّ تعلُّم حساب النعم التي تنعم بها، يمكن أن يساعد فعلياً في رؤية يوم أكثر إشراقاً؛ لذلك حتى عندما تتعرض لشيء سيئ، فإنَّ رؤية كل الأشياء الجيدة في حياتك يمكن أن تهدئ من مرارة ما تشعر به.

لكن لا تلجأ إلى الامتنان عندما تكون في أوقات عصيبة فحسب؛ إذ إنَّه من خلال الممارسة، يمكننا أن نتعلم تقوية إدراكنا بشكل دائم. وقالت شاتز: "من خلال مذكرات الامتنان، فإنَّنا نُهيئ أنفسنا للبحث عن الأشياء التي نشعر بالامتنان لها، بدلاً من البحث عن الأشياء التي سوف نشتكي منها".

إنَّ الطريقة الأخرى التي أثبتت الأبحاث أنَّها تمكننا من تخفيف الأعباء التي تؤدي إلى التعاسة، هي الأمن المالي. قد يبدو هذا للوهلة الأولى وكأنَّه يتناقض مع القول المأثور القديم القائل: "إنَّ المال لا يمكن أن يشتري السعادة"، لكن ضع في حسبانك أنَّ هذا المجاز يتعلق في واقع الأمر بالطبيعة غير المُشبعة لمشتريات المتعة؛ فإنَّ القوة الحقيقية للثروة تكمن في أنَّها تساعدك على تجنب التوتر والأوقات الصعبة التي يمكن أن تؤثر في مزاجك.

من الجيد أن تشتري لنفسك شيئاً صغيراً عندما تشعر بالضعف، ولكن إذا كان لديك القليل من المال، فأنت بحاجة إلى الحد من الرفاهية والمشتريات النزوية غير الضرورية لصالح المزيد من المساعي العملية. تجعلك القدرة على دفع فواتيرك من دون الغرق في الديون أكثر سعادةً على الأمد الطويل، أو على الأقل أقل تعاسة.

الأداة الثالثة القوية لجعل الحياة أكثر سعادة هي تعلُّم كيفية تفسير الأحداث بشكل أفضل عند وقوعها؛ على سبيل المثال: إذا شعرت بأنَّ يومك قد أُفسد لمجرد أنَّ النادل في المطعم قد أخطأ في طلبك، فابحث عن الطريقة التي جعلتك تتوصل إلى هذا الاستنتاج. من المحتمل أنَّ ذلك الأمر كان خطأً غير متعمد، وليس هجوماً شخصياً كما قد تتخيله في البداية.

يمكن أن يساعد ذلك أيضاً في تفسير الأحداث السلبية في سياق أوسع؛ على سبيل المثال: قد يصبح الشيء الذي يبدو فظيعاً الآن، مثل مشروع صعب في العمل، مصدر فخر في المستقبل، أو قد تبدو حادثة محرجة الآن أمراً سخيفاً إذا أعدنا النظر في طريقة تفكيرنا بعد عام. لا تهدف هذه الأداة إلى تغيير الواقع؛ بل إنَّها مجرد إعادة صياغ له، والنظر في مشكلتك من زاوية أخرى.

قالت ميرون شاتز: "اسأل نفسك: هل يمكنني النظر إلى الأمر بطريقة مختلفة؟ سوف يساعدك هذا إن فعلته. أنت لست مضطراً إلى تلطيفها؛ لكنَّ الطريقة التي ترى بها الأحداث من حولك - وإذا كان بإمكانك التخلص منها - يمكن أن تُحدث فارقاً كبيراً".

أخيراً وقبل كل شيء، لا تهمل السعادة الجيدة؛ إنَّ سعينا وراء اكتساب المعنى والانتماء والقيام بالشيء الصحيح، قد لا يزودنا بالحل السريع والإثارة الرخيصة لمساعينا التي تشعرنا بالمتعة؛ وإنَّما تحقيق المستوى الأعلى هو الذي يجعل روحنا تسمو حقاً.

المصدر




مقالات مرتبطة