الحياة في عصر الغضب

كانت الشوارع مليئة ببهجة الاحتفالات المعتادة في شتاء عام 2015، والمتاجر مضاءة ومزيَّنة وتسمع منها أنغام عيد الميلاد المألوفة التي تُشعر بعض المارَّة بالفرح وبعضهم الآخر بالملل، ومع ذلك لم يعرف سوى القليل عن الكارثة التي كانت على وشك الوقوع.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب مارك مانسون (Mark Manson) والذي يحدثنا فيه عن استغلال رأس المال والتكنولوجيا للشعوب.

في صباح أحد الأيام، مرَّ جوشوا فويرشتاين (Joshua Feuerstein) بمتجر ستاربكس (Starbucks) لشراء القهوة، وبعد أن ألقى التحية على النادل طلب قهوته المعتادة والابتسامة على وجهه، ولكن عندما استلم قهوته، لاحظ أنَّ شيئاً ما لم يكن على طبيعته.

لقد اعتادوا كتابة "عيد ميلاد مجيد" على فناجين القهوة في مثل هذه الأيام، والآن استبدلوها بعبارة عادية: "عطلة سعيدة". لم يكن فويرشتاين لين العريكة؛ بل كان ذلك الرجل الشجاع المستعد للدفاع عن معتقداته؛ لذا عاد إلى المنزل وأعَدَّ مقطع فيديو على يوتيوب (YouTube)؛ تحدث فيه بغضب حول انضمام ستاربكس إلى "الحرب على عيد الميلاد" وعن الحاجة إلى الاتحاد لمحاربة الإلحاد الذي تروج له الشركة.

 وكانت خطة معركته كالتالي: الجميع: اذهب إلى ستاربكس واطلب قهوتك كالمعتاد، ولكن عندما يسألونك عن اسمك، بدلاً من إعطائهم اسمك الحقيقي، قل لهم: "عيد ميلاد مجيد"؛ بهذه الطريقة، سيتعين عليهم كتابة "عيد ميلاد مجيد" على أكوابهم، بدلاً من "عطلة سعيدة".

لقد كان مسروراً بقدرته على الدفاع عن كل ما هو جيد وورع ومقدس، رفعَ فويرشتاين الفيديو على يوتيوب، حيث شوهد أكثر من 12 مليون مرة، ثم غطت الخبر كبرى الصحف المحلية.

قبل بضعة عقود فقط، عندما كان جدي في أوائل العشرينات من عمره، وكان يركب قارباً لنشر القوات في أوروبا، حيث شاهد معظم الرجال الذين تعرَّف إليهم عن قُرب في العام السابق يُقتلون في غضون دقيقتين؛ وقبل ذلك بنحو 10 سنوات، تطوَّع عمي الأكبر الذي لم يتجاوز العشرين عاماً للعمل وإعالة اثنين من أشقائه الصغار، لأنَّ والديه كانا يكافحان لتربية ستة أطفال في منتصف فترة الكساد الكبير.

 لا تختلف كفاحات اليوم بالطبع؛ فاليوم يكافح الشباب الذين يبلغون من العمر 20 عاماً للعثور على "أماكن آمنة" في الحرم الجامعي حيث لا يضطرون للاستماع إلى شخص ما لديه وجهة نظر مختلفة، أو لأنَّ أحد زملائهم في الصف فاجأهم وخالفهم في الرأي.

الغضب منتشر في كل مكان اليوم، بين الأحزاب اليسارية واليمينية، وكبار السن والشباب، والناس من جميع الأعراق والخلفيات الاقتصادية؛ وربما نعيش في الفترة الأولى من تاريخ البشرية حيث تشعر كل شريحة من السكان أنَّها ضحية وحقوقها منتهكة بطريقة ما، ابتداءً بالمليارديرات الأثرياء الذين أقنعوا أنفسهم بطريقة ما أنَّ عبئهم الضريبي بنسبة 15٪ هو ببساطة إجراء قمعي، انتهاءً بطلاب الكلية الذين يختطفون المنابر ويصرخون ويهددون الناس لأنَّ آراءهم السياسية تختلف عن آرائهم.

يعتقد معظم الناس أنَّ الناس أصبحوا مستَقطَبين أكثر، ولكن وفقاً للبيانات، هذا ليس صحيحاً في الواقع، فلا تختلف المعتقدات السياسية للناس عمَّا كانت عليه قبل بضعة عقود؛ حيث تشير البيانات إلى أنَّ ما يتغير هو كيفية تعاملنا مع وجهات النظر التي تجعلنا غير مرتاحين؛ فلم تتغير معتقداتنا، وما تغير هو الطريقة التي نشعر بها تجاه الأشخاص الذين نختلف معهم.

باختصار، أصبح الناس أقل تسامحاً مع الآراء المعارضة، وأصبحت ردود أفعالهم تجاه هذه الآراء شنيعة.

مفارقة الاتصال عبر الإنترنت:

في التسعينيات من القرن الماضي، كان هناك تفاؤل كبير بشأن الإنترنت؛ حيث منحتنا فكرة قدرتنا على جمع جميع المعلومات وجميع وجهات النظر معاً في شبكة واحدة الأمل في أن يصبح الناس أكثر تسامحاً وقبولاً وتقديراً لبعضهم بعضاً.

لكن في كثير من الحالات، كان العكس هو الصحيح، في الواقع يبدو أنَّه كلما تواصلنا مع أشخاص مختلفين وأظهرنا لهم وجهات نظر مختلفة، زاد غضبهم من وجود وجهات النظر المختلفة هذه في المقام الأول؛ ونتيجةً لذلك ازدادت حدة الانقسامات بين الناس، والتكنولوجيا نفسها التي صُممت لتوحيد الناس، من نواحٍ عديدة، أصبحت تُفرقهم أكثر من قبل.

يفعل الإنترنت ذلك بثلاث طرائق مختلفة:

  1. أصبح من السهل البحث والعثور على المعلومات التي تؤكد بالفعل معتقداتك أو مشاعرك الموجودة مسبقاً؛ لذا إذا شعرت أنَّه ليس من العدل أن يخسر بيرني ساندرز (Bernie Sanders) الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، فهناك دائماً قصص "إخبارية" يمكن أن تؤكد هذا الشعور بنقرة واحدة، أو إذا شعرت أنَّ وسائل الإعلام تجعل دونالد ترامب (Donald Trump) يبدو وكأنَّه مهرج، فهناك دائماً معلومات تدعم ذلك تحصل عليها بنقرة واحدة، أو إذا كنت تشعر أنَّ تغير المناخ لا يمكن أن يحدث، فهناك معلومات تدعم ذلك وهي متاحة فوراً وبسهولة. كل ذلك متاح لك مباشرةً، مما يعزز معتقداتك وافتراضاتك الموجودة مسبقاً ويجعل من الصعب التشكيك فيها؛ ودون القدرة على التشكيك بمعلوماتك وافتراضاتك، يصبح من الصعب تحقيق أشياء مثل النمو، والتسامح، والتفاهم.
  2. تُشجع الوسائل الإعلامية الموجودة على الإنترنت العثورَ على المعلومات الأكثر إثارة وشناعة؛ ذلك لأنَّ هذه المعلومات هي التي تجلب الانتباه وتنتقل إلى أبعد مسافة ضمن ما يُعرَف بـ "اقتصاد الانتباه" (Attention Economy)، وتكون المعلومات موجزة ليس من أجل تحري الصحة أو الأهمية أو الدقة ولكن لتحقيق استجابة عاطفية. يحدث جزء من هذا عن وعي من قبل المنشورات والمؤسسات، وبعضها مجرد نتيجة للنظام نفسه.
  3. أصبح الناس الآن أكثر بعداً عن أولئك الذين يختلفون معهم أو يرون العالم بشكل مختلف عنهم، ففي الماضي عندما كانت الطريقة الوحيدة للتواصل هي وجهاً لوجه، وإذا صادفت شخصاً يختلف معك، كنت قادراً على رؤية التعبيرات الدقيقة والنبرة ولغة الجسد وراء هذا الخلاف، ومن المحتمل أنَّك كنت قادراً على رؤية أنَّ الخلاف كان حَسَنَ النية، وأنَّ الشخص الذي يختلف معك لم يكن فرداً منحرفاً بشكل فظيع، بل مجرد شخص يرى العالم بشكل مختلف قليلاً.

لكنَّ الناس اليوم مجرد شخصيات على الشاشة، وبسبب بعدهم عنك، تضيع الفوارق الدقيقة في معتقداتهم وتعبيراتهم عند انتقالها من شاشة إلى أخرى؛ ونتيجة لذلك نميل إلى افتراض الأسوأ عن بعضنا، ونحوِّل الأشخاص الذين يختلفون معنا إلى رسوم كاريكاتورية أو قوالب نمطية تثير غضبنا أكثر. 

إقرأ أيضاً: هل التواصل عن بعد أفضل من التواصل المباشر؟

إدمان الغضب:

لا يبدو أنَّ الغضب يتنامى في جميع قطاعات المجتمع فحسب، ولكن كما لاحظت على الأرجح يبدو أنَّ هذا الغضب يتفاقم باستمرار؛ فالناس الذين اشتكوا قبل 10 سنوات من عدم وجود أشجار عيد الميلاد في المركز التجاري، يزعمون الآن أنَّ هناك "حرباً على عيد الميلاد" ومؤامرة علمانية / ملحدة واسعة لاقتلاع المسيحية من المجتمع الأمريكي؛ والناس الذين اعتقدوا أنَّ اللحوم الحمراء ربما تسببت في بعض المشاكل الصحية قبل بضعة عقود، يزعمون الآن أنَّ الأطباء يحجبون علاجات السرطان حتى يتمكنوا من نهب الناس مقابل المزيد من المال؛ والأشخاص الذين اعتادوا الشكوى من زيادات الرئيس ريغان (Reagan) الضريبية، يرون الآن أي زيادات في معدل الضريبة كعلامة على الشيوعية والفاشية وحُب هتلر معاً.

جزء من المشكلة هنا هو أنَّ الغضب يسبب الإدمان.

نحن نتمتع بالشعور بتفوق أخلاقي معين على الآخرين، ونستمتع بالشعور كما لو أنَّنا على الجانب الصحيح من التاريخ ولدينا بعض الحروب الأخلاقية ذات المعنى لنخوضها؛ وبهذا المعنى هناك متعة غريبة ورضا من الغضب، وحتى عندما تزعجنا هذه المعارك الأخلاقية، فإنَّها تغذي إحساسنا المتزايد بالأحقية: الشعور بأنَّنا نستحق عالماً أفضل لا نحصل عليه، وأنَّنا بطريقة ما أفضل من الحياة التي أُعطيت لنا.

وعندما يشعر جميع الأطراف بأنَّهم على حق وأنَّهم ضحية، إضافةً إلى حصولهم على إمدادات لا نهائية من المعلومات التي تعزز معتقداتهم الخاصة بنقرة واحدة على الماوس؛ تصبح الأمور فوضوية.

إقرأ أيضاً: ماهي المشاكل التي يسببها الغضب؟ وماهي طرق التخلص منه؟

الإنترنت:

حتى الآن في تاريخ البشرية، كانت التكنولوجيا هي المنقذ لجنسنا البشري، وبفضلها حققنا قفزات نوعية في الإنتاجية والبنية التحتية والطب، ونوعية الحياة؛ ولم يعد معظم الناس يكدحون كفلاحين في أراضي الإقطاعيين، كما أصبح عدد الأشخاص المستعبَدين أقل من أي وقت مضى، وتوفر المزيد من التعليم والمعاملة المتساوية للنساء والأقليات والفقراء أكثر من أي مرحلة أخرى من تاريخ البشرية، وقد يُعزى الكثير من هذا إلى الفوائض والفوائد التي يوفرها الابتكار التكنولوجي.

يعتقد الكثير من الناس أنَّ التكنولوجيا ستستمر في تحريرنا وإنقاذنا من مشاكل العالم؛ حيث يتحدث أشخاص مثل مارك زوكربيرج (Mark Zuckerberg) صراحةً عن فكرة "ربط العالم" وكأنَّ فوائد هذه الفكرة لا تحتاج إلى شرح.

ولكن ماذا لو تقدمت التكنولوجيا إلى ما هو أبعد من قدرتنا البشرية على الاستفادة منها؟ وماذا لو كان إغراق البشرية بمعلومات لا نهائية، بدلاً من تنويرها، يبرز أسوأ غرائزها؟ وماذا لو لم تكن لدينا القدرة النفسية على التعامل مع الآفاق الجديدة التي نخرقها؟

الزمن كفيل بكشف كل ذلك، حيث جلبت جميع القفزات التكنولوجية مجموعة فرعية جديدة من المشاكل معها، ولكن بينما منحتنا الصحافة المطبوعة والتلفزيون والراديو عقوداً من الزمان للتكيف معها، لدينا الآن سنوات فقط، إن لم يكن شهوراً، لتكييف أنفسنا مع مسيرة التكنولوجيا المتسارعة باستمرار.

 

المصدر




مقالات مرتبطة