التنافر المعرفي والعوامل المؤثرة فيه

لماذا عندما يفكر الإنسان بموضوع ما يتذكَّر كل الأدلة التي تؤيِّد رأيه وينسى كل ما يمكن أن يناقضه؟ ولماذا يتمسك الإنسان برأيه أو معتقده على الرغم من ظهور كافة الأدلة التي تدحض هذه المعتقدات وتثبت عدم مصداقيتها؟



يقول الدكتور "علي الوردي" في كتابه "شخصية الفرد العراقي" الذي صدر في عام 1951: "يجوز لنا أن نصف الشعب العراقي بأنَّه شعب حائر، فقد انفتح أمامه طريقان متعاكسان، وهو مضطر إلى السير فيهما معاً في آنٍ واحد".

يقول في موضع آخر: "إنَّ الشاب فيه ازدواجية؛ إذ تلتصق فيه ثقافتان؛ ثقافة الشارع وثقافة علمية، ولا تنفصل ثقافة الشارع عندما يتعلم ويتثقف كما في غالبية الشعوب؛ لذا تجد الوعَّاظ ورجال الدين وغيرهم من المثقفين لا يتحمل أحد منهم الرأي الآخر، وسرعان ما يثور فتنفصم عنه الشخصية العلمية والثقافية ويأخذ بشخصيته الثانية التي تكونت معه في ثقافة الشارع فيشتم شتائم بذيئة ويقذف من يخالفه الرأي بأحط عبارات الشارع".

في الواقع يعيش الشباب منذ فجر التاريخ حالات من الصراع والتناقض بين ما يقومون بإخفائه وبين ما يظهرونه، وبين إرادة المجتمع ومتطلباته وبين ما يرغبون به ويريدونه، هذا التناقض المحسوس والواضح يولد ظاهرة الازدواج غير الواعي في الشخصية عند الكثيرين من الناس، وهذه الازدواجية تسمى بالتنافر المعرفي الذي يعبِّر عن انشغال الفرد بموضوعين أو فكرتين متناقضتين تماماً ولكنَّهما يحتلان نفس الأهمية بالنسبة إليه.

مفهوم التنافر المعرفي:

التنافر المعرفي من الظواهر الاجتماعية التي نالت الاهتمام الكبير خلال السنوات الأخيرة، وقد نشرت مجلة "نيويورك تايمز" في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 1949 أنَّ أفضل إنجازات المجتمع للنصف الأول من القرن العشرين هو معرفة التنافر، وهذا التنافر يثير حالة من الانزعاج لدى الإنسان.

التنافر المعرفي هو حالة من عدم الراحة أو التوتر أو الإجهاد العقلي الذي يحدث نتيجة وجود اثنتين من القيم أو الأفكار أو المعتقدات المتناقضة، أو يحدث بسبب قيام الفرد بسلوك يتعارض مع قيمه أو أفكاره أو معتقداته، كما يحدث نتيجة حدوث اصطدام بمعلومات جديدة تعارض معارفه السابقة، وهذا الانزعاج يتطور في كثير من الأحيان ليصبح إجهاداً، وقد يتطور في حالات معينة ليصبح مرضاً.

يواجه الإنسان الذي يعاني من التنافر المعرفي حالة من عدم الارتياح واختلال التوازن الداخلي، فعندما يقع الإنسان تحت تأثير أفكار متعارضة أو متنافرة يتولد لديه نوع من التوتر الذي يتولد عنه محاولات لإزالة التنافر والعودة إلى حالة التوازن الداخلي.

يقول الباحث "ليون فستنجر" صاحب نظرية "التنافر المعرفي: النظرية النفسية لفهم وتفسير والتنبؤ والتحكم بالتناقض الداخلي لدى الإنسان": "إنَّ وجود التنافر المعرفي يثير لدى الإنسان نوعاً من الانزعاج النفسي، وهذا يدفع الفرد لأن يسعى إلى تقليل التنافر، وهذا بدوره يقود إلى تفادي المعلومات التي قد تؤدي إلى رفع مستوى التنافر المعرفي لدى الشخص، وكلما ازدادت حدة التنافر ازدادت الحاجة إلى خفض مستوى التنافر".

في الواقع يزداد هذا التنافر الذي يعاني منه الإنسان عندما توجد القدرة على الاختيار بين التنافر وعدم التنافر، كما يزداد عندما يكون للتنافر آثار سلبية.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لتزيد آفاق المعرفة لديك

أسباب حدوث حالة التنافر "التناشز" المعرفي:

وجود تعارض أو عدم اتفاق منطقي بين العناصر المعرفية سواء بين المعلومات الجديدة والقديمة أم حين تعتمد معلومة على معلومة أخرى:

مثلاً بالنسبة إلى موضوع التدخين عند الإنسان المدخن فهو يعرف ويقول إنَّ التدخين مضر بالصحة، ولكنَّه في نفس الوقت يقول: "أنا إنسان مدخن" فيقع التنافر بين إلغاء واحدة من الفكرتين، فتكون لديه مجموعة من الاحتمالات فيقول:

  • أنا لا أدخن بشراهة، أنا فقط أدخن اثنتين أو ثلاثاً من السجائر.
  • التدخين ليس سيئاً بالدرجة التي يوصف بها.
  • لا علاقة للتدخين بالموت، فهناك أناس كثر كانوا مدخنين ولكنَّهم عاشوا مدة طويلة.
  • ترك التدخين متعب أكثر من التدخين بحد ذاته.

يكون أمامه خياران لتعديل سلوكه؛ فإما ترك التدخين أو إقناع الآخرين بالتدخين، ومن ثم يعود ليقيم حالته الصحية فيرى أنَّه يتبع نظاماً غذائياً آخر صحياً، وبذلك فإنَّ استمراره بالتدخين لن يؤثر فيه، وهكذا يبقى عاجزاً عن الوصول إلى حل لهذا التنافر.

أنماط ثقافية شعبية سائدة يأخذ بها جميع أفراد الجماعة دون نقاش بوصفها من الثوابت وتعارضها مع ما يراه الفرد منطقياً وسليماً:

مثلاً في مجتمعنا العربي يوقر الطالب معلمه ويتربى على ذلك، فيرى أنَّه من الواجب عليه إبداء الاحترام للمعلم في كل وقت، لكن عندما يتعاطى الطالب مع معلم غير مخلص لمهنته ولا يهتم لطلبته ومستقبلهم، هنا يقع الطالب في حيرة بين واجب الاحترام الذي فرضه عليه المجتمع وبين إنسان لا يخلص لمهنته ويخل بأخلاقياتها.

التعارض بين السلوك والرأي:

في موضوع الانتخابات مثلاً يؤمن الفرد بأهمية الديمقراطية في التعبير عن الرأي وبأهمية مشاركته وإبداء صوته، ولكنَّه في نفس الوقت لا يرغب في المشاركة.

الخبرات والتجارب السابقة:

عندما نضع يدنا على النار سوف نشعر بالألم، وهذا سيولد تنافراً عندما نتذكر خبراتنا وتجاربنا السابقة التي تؤيد أنَّ النار مؤلمة.

شاهد بالفديو: 10 نصائح حياتية لتنشيط العقل وتقوية الذاكرة

العوامل التي تؤثر في التنافر المعرفي:

حجم المعلومات المتنافرة "المتناشزة":

كلما زاد حجم المعلومات احتاجت إلى حجم أكبر من المعارف لفهم الحالة لتصبح مفهومة.

مستوى تعليم الفرد ومدى ثقافته:

فكلما زاد مستوى الفرد التعليمي والثقافي ازدادت حالات التنافر المعرفي؛ وذلك لأنَّ لديه مخزوناً كبيراً من المعارف، وهذا ما يجعله أمام مواقف عديدة للقبول أو الرفض أو المهادنة.

المعتقدات الدينية والأحزاب السياسية:

فالعقيدة التي يعتنقها الفرد ويطورها مع الزمن أو أفكار الحزب الذي ينتمي إليه تجعلانه يحدد المسافة معهما، ومن ثمَّ كمية العمل الوظيفي الذي عليه أن يبذلها لكي يصل إلى حالة التأقلم.

قوة التنافر وحدته:

فكلما كانت حالة التنافر قوية بذل الفرد جهداً في تحليل العناصر ومناقشة نفسه لفترة طويلة ليستطيع استبعاد بعضها وإبقاء أخرى.

نمط المعالجة الذهنية التي يعتمدها الفرد:

فلكل فرد طريقة وأسلوب في التعاطي مع القضايا التي تواجهه.

دافع الفرد:

فالدافع إلى البناء يولد لديه أفكاراً إبداعية، أما إذا كان هدفه هو التخريب والتدمير فسوف يصل إلى العناد والرفض والعدوان.

حالات التنافر التي يقع فيها الفرد:

اتخاذ القرار:

يضطر الإنسان عند الاختيار بين شيئين إلى اختيار واحد وترك الآخر، وبعد قرار اختياره قد يجد في الاختيار المتروك بعض الفوائد، وهنا يحاول الفرد القضاء على التعارض الذي حصل من خلال إقناع نفسه بعدم جدوى الاختيار المتروك بالنسبة إليه، ويعمل على تأييد القرار المتخذ من خلال إضفاء الفوائد عليه حتى المبالغة في ذلك.

تأثيرات الكذب:

يظهر التعارض هنا عندما يُقدِم الفرد على فعل يخالف ما يؤمن به، ويقل التنافر في هذه الحالة كلما وجد الفرد المبررات لهذا الفعل على الرغم من تعارضه مع معتقداته الداخلية.

إقرأ أيضاً: 4 تمارين مهمة لتنمية المهارات العقلية عند الإنسان

تأثيرات الإغراء:

هنا يشعر الفرد بالرغبة والميل للقيام بعمل ما يخالف ما يعتقد به، وتتعدد أسباب النفور هنا كأن يكون ما يرغب به الفرد صعب المنال أو بعيداً أو يخالف معتقداته وما يؤمن به بشكل واضح وصريح أو قد يدفعه للوقوع في مشكلات كثيرة لا تنتهي.

في الختام:

إنَّ وجود هذا التناقض الكبير في القيم والمبادئ في المجتمع الذي نعيش فيه اليوم كفيل بأن يولِّد حالة من عدم التوازن الداخلي وظاهرة الازدواجية غير الواعية في شخصيات أفراده، وإن كانت جميع فئات المجتمع عرضة للوقوع في هذا التنافر، إلا أنَّ الشباب يبقى أكثر عرضة من غيرهم.

إنَّ دراسة ظاهرة التنافر المعرفي التي يقع فيها الفرد باتت ضرورة لا بد منها لمعرفة دوافع الفرد، فالفرد يبقى مدفوعاً في سلوكه ليعبِّر عن اتجاهاته تجاه الأشياء، والدافعية هنا تُبقي الفرد مشغولاً ذهنياً ولا يهدأ أو يرتاح حتى يحقق لنفسه الخلاص من هذه الحالة.

يريد الإنسان أن يحقق التطابق بين سلوكه وبين عملياته الذهنية حتى يصل إلى حالة مستقرة مهما كانت هذه الحالة سواء أكانت حباً أم كرهاً أم رفضاً أم تفضيلاً أم تجنباً أم مهادنة أم غير ذلك، وهذه الحالة من التنافر ليست حكراً على فرد بعينه أو مهنة بذاتها؛ بل هي حالة سوف يواجهها الفرد سواء أكان معلماً أم مديراً أم موظفاً أم عالماً أم غير ذلك، كما أنَّها ليست حكراً على فئة عمرية دون أخرى أو جنس دون آخر، إذاً هي حالة عامة يمكن أن يقع فيها أي فرد.

لا بد من الإشارة إلى أنَّ التنافر المعرفي يُستخدم في عمليات تحليل الاتجاهات النفسية وبنائها وتعديلها وتغييرها وكذلك في تحليل البنية المعرفية للأفراد، كون جميع الأفراد يكافحون للوصول إلى الاتساق المعرفي بحيث يستطيعون إيجاد نوع من التماسك بين ما يعرفونه وما يعتقدونه وبين ما يقومون به من أفعال وسلوكات.




مقالات مرتبطة