التطور ودوره في نجاح العلاج النفسي في معالجة الاكتئاب

لقد كان هناك إجماع في السنوات الأخيرة على أنَّ مستوى تأثير العلاجات النفسية - لا سيَّما العلاج المعرفي السلوكي (CBT) - يمكِن أن يرتقي إلى مستوى تأثير أدوية علاج الاكتئاب، وقد يخفِّف أحد الخيارين أو كلاهما من اضطراب المزاج في بعض الأحيان.



وعند النظر بعمق في كلا العلاجين، قد يكون للعلاج المعرفي السلوكي -الذي يتعمق في أنماط التفكير المُختلَّة- فائدة تجعله الخيار الأفضل للمريض.

قد يعود السبب إلى ماضينا التطوري العميق؛ إذ يشير العلماء إلى أنَّ البشر يصابون بالاكتئاب ليساعدهم على تركيز الانتباه على مشكلة قد تتسبب في عدم انسجام شخص ما مع العائلة أو الأصدقاء أو القبيلة أو المجتمع، وهي حالة منبوذة قد تعني مصيراً مأسوياً حتمياً، لا سيَّما في العصر الحجري القديم. ومن خلال هذا، ظهر الاكتئاب كحالة مزاجية تجعلنا نفكر طويلاً وجديَّاً في السلوكات التي ربما تسبِّب الأسى والحزن؛ إذ تُعَدُّ بعض المشكلات في حياتنا مشكلةً اجتماعية.

يوضِّح مقال حديث نُشِر في مجلة "أميريكان سيكولوجيست" (American Psychologist) ما قد تعنيه الأصول التطورية المحتمَلة للاكتئاب بالنسبةِ إلى الجدالات حول مزايا العلاج النفسي مقابل مزايا مضادات الاكتئاب. وفي هذه المقالة، يستكشف "ستيفن دي هولون" (Steven D. Hollon)، أستاذ علم النفس في "جامعة فاندربيلت" (Vanderbilt University)، الآثار المترتبة على مساعدة المريض على فهم الأسباب الكامنة وراء الاكتئاب، وهو هدف العلاج المعرفي السلوكي، ويتماشى أيضاً مع التفسير التطوري، وعلى النقيض من ذلك، قد تؤدي التأثيرات المهدئة لمضادات الاكتئاب إلى عدم تفاعل المريض مع العملية التأملية التي تطوَّر من أجلها الاكتئاب، وهذا هو السبب في أنَّ تأثير العلاج النفسي أكثر ديمومةً من مضادات الاكتئاب، ولقد تحدَّثَت مجلة "سينتيفيك أمريكان" (Scientific American) مع "هولون" عن أفكاره حول هذا الموضوع، وكانت كالآتي:

لقد وصفتَ في مقالتك الأخيرة فكرة أنَّ البشر قد طوروا نزعةً نحو الاكتئاب كوسيلة لاستعادة التوازن العاطفي والنفسي؛ إذ يسمح ذلك للناس بالاندماج جيداً في أوساطهم الاجتماعية؛ لذا، هل يمكِنك أن تفسِّر لنا كيف قد يكون الاكتئاب نتاج تطوُّرٍ يمكِنه في الواقع أن يحمينا؟

في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قرأتُ ورقةً بحثية نشرها عالم الأحياء التطوري "بول أندروز" (Paul Andrews)، لقد كانت مُتقنَةً ومدروسةً للغاية. ومع ذلك، أنا أختلف معه تماماً؛ إذ كان الافتراض الرئيس هو أنَّ الاكتئاب - كونه أحد أشكال التكيف الناجمة عن التطور - يسمح للناس بالاجترار.

شاهد بالفديو: كيف تعيش بعيداً عن الاكتئاب؟

لماذا تختلف معه؟

بالنسبةِ إلى الأطباء، نفكر في الاجترار بِعَدِّه شيئاً سيئاً، ونراه، في أحسن الأحوال، عرَضاً من أعراض الاكتئاب، ويؤدي في أسوأ الأحوال إلى شيء يعزِّز الاكتئاب، ولطالما فكرنا في الأمر على أنَّه شيء غير مفيد حقاً، لكنَّ عمل "أندروز" وزميله "ج. أندرو (آندي) طومسون" ( Andrew (Andy) Thomson) ذَكَر أنَّه في ماضينا التطوري، كان هناك نوعٌ من المشكلات الرئيسة - ربما مشكلة اجتماعية - هي التي قد تجعلك بعيداً عن الناس؛ ممَّا يسبِّب لك الاكتئاب والمزيد من التفكير في الأمر.

قد يفكر معظمنا في القلق على أنَّه أمر مفيد؛ لأنَّه يبعدنا عن الخطر، فهو رد الفعل الذي يدفعك إلى دهس ثعبان سام بسرعة عندما تكون في الغابة، أمَّا الاكتئاب فلا يعتقد معظم الناس أنَّ له أي وظيفة؛ بل ينظرون إليه بِعَدِّه مجرد شيء غير سار؛ وبالتالي، صارت الفكرة معرفة الغرض من الاكتئاب، وعندما نظر "أندروز" و"طومسون" إلى ما يحدث عندما تصاب بالاكتئاب، وجدوا أنَّ الكثير من الطاقة تذهب إلى الدماغ من أجل مساعدتنا على التفكير بعناية أكبر في الأشياء التي تحدث بشكل خاطئ، وفهم سببها أولاً، وهذا ما يجيب عن السؤالين: "لماذا أنا مستاءٌ إلى هذا الحد؟" و"كيف يمكِنني أن أقوم بعمل جيد للتوصُّل إلى حل مشكلةٍ ما؟".

في الواقع، ليس من الضروري أن تتوصَّل بسرعة إلى حلٍّ في حالة الاكتئاب، فلقد حدث الشيء السيئ بالفعل؛ لذا ليس عليك الابتعاد عن طريق الأفعى السامة أو النمر، ولكن ما عليك فعله، هو حل المشكلات الاجتماعية المعقدة، والاجترار هو ما يوصلك إلى هذا؛ لذا على عكس كون الاجترار نتيجةً ثانويةً غير سارة للاكتئاب، فهو في الواقع سبب تطوُّره، والذي يساعدك على حل المشكلات الاجتماعية المعقدة.

يبدو أنَّك الآن تعطي بعض المصداقية لأفكار "أندروز" و"طومسون"، ولكن كيف يسير هذا النوع من التفكير في حياة الناس؟ وفي أيَّة مرحلة يبدأ الاكتئاب والمشكلات الاجتماعية التي يجب اجترارها؟

تتصاعد هذه المشكلات الاجتماعية المعقدة عادةً في سن المراهقة، عندما يبدأ الشباب في التساؤل: "هل سأجد أصدقاء يتقبلونني؟"، "كيف أجعل الناس تحبني؟"، "هل سأكون جيداً في المدرسة؟"، "هل والداي سعداء بي؟"، "هل سأذهب إلى الكلية؟"، "هل سأتمكن من العثور على وظيفة؟".

إقرأ أيضاً: 6 طرق تساعدك في التغلب ذاتياً على الاكتئاب

كيف تتماشى خبرتك في العلاج النفسي -وخاصة العلاج المعرفي السلوكي- مع النظرية التطورية للاكتئاب؟

يصبح العلاج المعرفي في هذا السياق طبيعياً نوعاً ما؛ لأنَّه يعلِّم الناس كيفية اجترار الأفكار بصورة أكثر فاعلية، كما تقول النظرية المعرفية أنَّ الناس يُصابون بالاكتئاب لأنَّهم يحملون معتقدات غير دقيقة عن أنفسهم، وقد يقترن هذا مع الفكرة الإضافية التي مفادها أنَّ الناس يَقصُرون تفكيرهم على أفكار معيَّنة، على سبيل المثال: إذا حدث شيء سيئ، فتبدأ التفكيرَ في أنَّك فاشل وخاسر. وبالنسبةِ إلى معظم الناس، يحفزهم الاكتئاب على التفكير بتأنٍ أكبر في أسباب مشكلاتهم والحلول التي يمكِنهم تطبيقها، وكان هذا في ماضي أجدادنا جيداً بما فيه الكفاية؛ إذ كان يُعالَج الاكتئاب تلقائياً حتى في حالة عدم وجود علاج، بينما يسرِّع العلاج المعرفي عملية التعافي، ويساعد الأفراد الذين يفكِّرون في أنفسهم بطريقة سلبية - سواء حول الكفاءة الشخصية أم محبة الناس إليهم، أم غير ذلك - على التخلُّص من هذه الأفكار.

يكمن الحل الأساسي في تعليم المرضى الطريقة العلمية التي تحرِّرهم من أَسر الأفكار؛ فنطلب من المريض أن يسأل نفسه: "ما هو برأيك سبب المشكلة؟"، "وما التفسيرات الأخرى التي قد تكون مطروحة؟"، "وما هو الدليل الذي يدعم هذا أو ذاك؟"، ونشجع المرضى الذين يعانون ممَّا يُسمى بـ "نظريات السمات المستقرة"(مثل مَن يعتقد على الدوام أنَّه غير كفء، أو غير محبوب) على مزيدٍ من التفسير السلوكي.

أحد المجالات التي عملتَ عليها هو ما إذا كان تأثير العلاج المعرفي السلوكي أكثر ديمومةً من العقاقير، وأنت تهتم بكيفية تقديم ذلك كدليل على الأساس التطوري للاكتئاب.

نمتلك أساساً أدلَّةً سريرية جيدة على أنَّ العلاج المعرفي فعَّال على الأقل مثل الأدوية على الأمد القصير، وأكثر ديمومةً على الأمد الطويل؛ إذ يدفع العلاج المعرفي السلوكي الناس إلى التفكير ملياً في مشكلاتهم بطريقة تسهل التوصل إلى حل، بينما تهدِّئ الأدوية التوتر الذي يكمن وراء الاكتئاب.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح سحريّة لتهدئة الأعصاب

هل ستختبر هذه الفكرة بطريقة ما؟

ثمَّة زملاء لي في "فيتنام" مهتمون جداً بدراسة نريد إجراءها ونقارن فيها الأشخاص الذين عولجوا بالعلاج المعرفي السلوكي والأشخاص الذين عولجوا بالأدوية، بالإضافة إلى مقارنة الأشخاص الذين عولجوا من خلال طب الأعشاب الصيني، والتي يعتقد الكثير من الناس أنَّه فعَّال، وإذا اكتشفنا حقاً أنَّ الأدوية المضادة للاكتئاب تكبح الأعراض بطريقة تؤدي إلى تفاقم المسار الأساسي للاكتئاب، فيجب أن يكون هؤلاء المرضى أكثر عُرضةً للإصابة بالاكتئاب مرَّة أخرى عندما ينتهون من تناول الأدوية أكثر ممَّا يحدث عند الانتهاء من تناول الأدوية العشبية الصينية.

وإذا اكتشفنا أنَّ تأثير العلاج المعرفي السلوكي يحمي من الاكتئاب على الأمد الطويل، فيجب أن يكون المرضى الذين عولجوا من خلاله أقل ميلاً لتكرار الإصابة أكثر من المرضى الذين يتعافون من الأدوية العشبية الصينية، حيث يعمل طب الأعشاب الصيني في جوهره كعنصر تحكُّم مثالي غير محدَّد؛ لأنَّه لا يوفر مهارات التأقلم التي تُدرَّس في العلاج المعرفي، ولا المكون النشط دوائياً المرتبط بالسيروتونين الذي توفره الأدوية المضادة للاكتئاب. وسوف تجيب التجربة عن السؤال، ولكنَّها لم تُجرَ بَعد.

ألا توجد بالفعل بعض الأدلة على هذا الأمر؟

ثمَّة الكثير من الدراسات التي تشير إلى أنَّ المرضى الذين عولجوا بالعلاج المعرفي يكونون أقل عُرضةً للانتكاس بعد انتهاء العلاج من المرضى الذين عولجوا باستخدام الأدوية المضادة للاكتئاب، كما أشارت بعض الدراسات إلى أنَّ هذا التأثير الدائم قد يمتد إلى الوقاية من تكرار الانتكاس. وما لا نعرفه، هو أين يتناسب كل هذا في السياق التطوري المقترَح، وما إذا كان للعلاج المعرفي تأثير دائم، أم أنَّ الأدوية المضادة للاكتئاب قد تكون ضارةً على الأمد البعيد كما تقترح النظرية التطورية، فما نحتاجه هو تحكُّم غير محدد ليس له آثار دائمة أو آثار تخدير يسببها الدواء؛ لذا لا يزال يتعين تحديد ما إذا كان العلاج المعرفي له تأثير دائم حقاً، أو أنَّ الأدوية المضادة للاكتئاب لها تأثير ضار. ويجب أن تسمح لنا المقارنة بين كل عنصر تحكُّم غير محدَّد مثل طب الأعشاب الصيني بتحديد أيهما أصح بصورة مطلقة.

لقد تحدَّثتَ عن الصعوبات في محاولة قياس ما إذا كان هناك حقاً آثار دائمة في هذا النوع من التجارب.

قد تكون التأثيرات المستمرة التي لوحِظَت على العلاج المعرفي (بالنسبة إلى الأدوية المضادة للاكتئاب) لها علاقة بالتغيرات التي تحدث في أثناء التجربة السريرية، على الرغم من أنَّنا نختار المرضى عشوائياً إمَّا من أجل العلاج المعرفي أو الأدوية المضادة للاكتئاب في بداية التجربة، فإنَّنا نفقد عادةً حوالي 15% من العينة بسبب الاستنفاد، و25% أخرى بسبب عدم الاستجابة لأي من التدخلين؛ ويعني هذا أنَّ حوالي 60% فقط من العينة العشوائية في البداية هي التي تدخل في المقارنة بين معدلات الانتكاس اللاحقة، وإذا تحوَّلَت أنواع مختلفة من المرضى إلى العلاج المعرفي أكثر من الأدوية المضادة للاكتئاب، فقد يؤدي ذلك إلى انحياز أي مقارنات لاحقة.

هل تعتقد أنَّ هذه الأفكار حول العلاج المعرفي السلوكي قد يكون لها تأثير في الاكتئاب الحاد؟

في الواقع، لا أعرف، ولن أفترض بالضرورة أنَّ هذا سيحدث. وبالنسبة للاكتئاب الذهاني، يجب أن يكون هناك علاج بالصدمات الكهربائية أولاً، ولكنَّني لستُ متأكداً من أنَّ فرضية الاجترار التحليلي سوف تنطبق على الاكتئاب الذهاني. يشكل كلٌّ منهما حالات تكيُّف ناجمة عن التطور، وهناك حالات تطوَّرَت فيها الآلية، ويمكِن عَدُّ الحالة مرضاً أو اضطراباً حقيقياً.

 

المصدر




مقالات مرتبطة