التأثيرات السلبية القلق الاجتماعي على حياتنا

البشر كائنات اجتماعية بطبعها، ولكن نحن بحاجة إلى لحظات من العزلة؛ إذ يمنحنا التواصل مع الآخرين إحساساً بالمعنى والهدف، ويساعدنا على شق طريقنا في العالم؛ وهذا هو السبب في أنَّ القلق الاجتماعي يمكن أن يكون مدمراً للغاية؛ فهو يضر بقدرتنا على التواصل.



وتُعرَف أيضاً باسم "الرهاب الاجتماعي"، ويمكن أن تحول هذه المشكلة أي تفاعل اجتماعي عادي إلى تجربة مذلة؛ إذ تبدأ بالشعور بالقلق وعدم معرفة ما يجب قوله، ثم يتطور الأمر إلى حالة من الذعر، ومع مرور الوقت، يتطور إلى شعور عميق بالدونية.

عانت الكاتبة والمحررة جازمين سيبولسكي (Jazmin Cybulski) من القلق الاجتماعي طيلة حياتها؛ إذ تصف شعورها بعدم القدرة على التواصل في المواقف الاجتماعية لأسباب خارجة عن إرادتها، وخلال نوبات القلق الاجتماعي، تفقد قدرتها المعتادة على الكلام.

يمكن أن يعتريها هذا الشعور عندما تكون جالسة لوحدها مع شخص يعجبها، أو في أوقات أخرى عندما تكون في غرفة مليئة بالناس، وقالت سيبولسكي: "يبدو الأمر كما لو كان هناك انفصال بين قدرة عقلي على التعامل مع أي موقف يحدث، ورغبتي في المشاركة بشكل كامل في الموقف، فأنا أريد أن أكون حاضرة؛ لكنَّ عقلي لن يسمح لي أن أكون حاضرة بشكل كامل".

عانى شون وولكر (Shaun Walker)، المدير الإبداعي والمؤسس المشارك لوكالة تسويق وعلاقات عامة، من القلق الاجتماعي منذ أن كان مراهقاً، ويقول وولكر - وهو فرد انطوائي من عائلة أفرادها اجتماعيون للغاية - إنَّه يشعر أنَّ هناك خطباً ما فيه؛ لكنَّه غير متأكد من كيفية علاجه.

قال: "لقد رأيت طبيباً نفسياً من أجل هذا الأمر وأتناول الآن بعض الأدوية التي تساعد على التخلص من القلق؛ لكنَّني ما زلت أشعر أحياناً بخيبة أمل من نفسي في الأحداث الاجتماعية. أريد أن أتحدث أكثر؛ ولكنَّني لا أستطيع، فأنا لا أعرف ماذا أقول أو أتراجع عن الكلام بسبب تجارب سابقة".

وهذه موضوعات شائعة وفقاً لـ جوناثان بيرنت (Jonathan Berent)، اختصاصي اجتماعي سريري ومعالج من منطقة جريت نيك (Great Neck)، في ولاية نيويورك (New York)، والذي كرس السنوات الأربعين الماضية من حياته لفهم ومعالجة القلق الاجتماعي.

كتب بيرنت ثلاثة كتب حول هذا الموضوع، وحقق نجاحاً سريرياً ثابتاً في مساعدة مرضاه على التعامل مع القلق الاجتماعي، وقال: "إنَّه لمن المجزي للغاية أن تتمكن من مساعدة أشخاص يمرون بمثل هذه الحالات لأنَّ هناك نتائج إيجابية للغاية يمكن أن تحدث".

مشكلة تجنب التواصل مع الناس:

التواصل مع الآخرين

تدني احترام الذات والشعور بالضياع يمكن أن يحدث لأولئك الذين يعانون من القلق الاجتماعي؛ لكنَّ تحرير الذات من هذه العقلية قد يبدو وكأنَّه مهمة مستحيلة؛ إذ يتم تعزيز الدافع لتجنب المواقف الاجتماعية - من خلال الشعور بأنَّ هناك مشكلة فيك - الناتجة عن سلوك غريب أو خجول لا يمكن السيطرة عليه في وجود الآخرين؛ وهذا يغذي حلقة مفرغة.

وللتغلب على ألم الوجود حول الناس، غالباً ما يطور الذين يعانون من القلق الاجتماعي موهبة لتخدير أنفسهم في أثناء وجودهم في العالم الخارجي؛ ولهذا يسميه بيرنت "مرض المقاومة" (the disease of resistance).

يقول بيرنت: "كآلية دفاعية، يتعلم الأشخاص الذين يعانون من هذا المرض مع المواقف بأن ينفصلوا عن الأفكار والمشاعر المرتبطة بالقلق؛ وهذا الانفصال يؤدي إلى تجنب وكبت هذه المشاعر، والتي تتكرر بشكل سلبي".

ويُقدر أنَّ القلق الاجتماعي يؤثر فيما يصل إلى 7% من التعداد السكاني؛ لكنَّ العدد الفعلي قد يكون أكبر من ذلك بكثير؛ إذ يعتقد الخبراء أنَّ العديد من الحالات لا تُشَخَّص لأنَّ المصابين بها محرجون للغاية من طلب المساعدة.

أحد أشكال القلق الاجتماعي الذي يمكن أن يرتبط به معظم الناس هو الخوف من التحدث أمام الجمهور؛ فنصبح أكثر وعياً بأنفسنا عندما يركز الحشد على كلامنا ومظهرنا.

والآن تخيل لو شعرت دائماً أنَّ الجميع يركز عليك، كل كلمة وكل فعل منك يخضع لتدقيق عام مكثف، وغالباً ما يُخلَط بين القلق الاجتماعي والخجل، فلا يتعلق القلق الاجتماعي بالتصرف الهادئ أو الخجول؛ بل يتعلق بالخوف الدائم من السخرية والرفض.

فالمصاب به يفكر كثيراً فيما سيقوله لتجنب الظهور بمظهر أحمق؛ والذي يؤدي إلى ظهوره بمظهر أسوأ خلال هذه العملية. وبالنسبة إلى بعض الناس، تزداد الأعراض التقليدية للإحراج؛ مثل الاحمرار والتلعثم والتعرق. ويبدو أنَّ التصرفات الغريبة والأخطاء تزداد في وجود الناس؛ إذ يصيبهم الشرود الذهني وتختفي كل أفكارهم، وكذلك احترام الذات.

ولا توجد بيانات متاحة لإظهار زيادة في القلق الاجتماعي؛ لكنَّ المعالجين أفادوا بأنَّهم رؤوا المزيد من الأشخاص الذين يعانون منه في السنوات الأخيرة. وتعتقد سيبولسكي أنَّ الضغط الثقافي لتحقيق الكمال يؤدي دوراً كبيراً في هذه الزيادة.

قالت: "طُلِب منا جميعاً أن نكون الأفضل في كل شيء، لكن لا يوجد أحد مثالي، وهذا التوقع يضر الكثير من الناس؛ وهذا يمتد إلى المواقف الاجتماعية، فلا نريد أن يُنظَر إلينا على أنَّنا أخفقنا في أن نكون مثاليين في التواصل الاجتماعي؛ لكنَّ هذا الخوف من الإخفاق يجعلنا نخفق على أي حال".

إقرأ أيضاً: مهارات الاتصال والتواصل

الآثار الجانبية للتكنولوجيا:

في مجتمع يركز على المنافسة وزيادة الإنتاجية والأداء المثالي، تكون النتيجة إرساء القلق الاجتماعي. تعزز التكنولوجيا القلق الاجتماعي من خلال إتاحة طرائق للتواصل عن بُعد، فكل شخص لديه احتياجات اجتماعية، وينجذب الأشخاص الذين يعانون من القلق الاجتماعي بشكل طبيعي نحو وسائل التواصل الاجتماعي لتلبية تلك الاحتياجات.

يتيح هذا الوضع للأفراد القلقين الوقت الكافي لصياغة ما يريدون قوله بالضبط دون الشعور بالتوتر أو الصمت المحرج أو السلوكات المحرجة التي قد تنشأ في أثناء التحدث مع شخص حقيقي في الوقت الفعلي.

وفي مقال يكشف تزايد القلق الاجتماعي ولماذا يحجم الناس عن طلب المساعدة، قالت عالمة النفس الدكتورة لورا تشاكيس (Laura Chackes) إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي هي أحياناً الطريقة الوحيدة التي يتفاعل بها الأشخاص الذين يعانون من القلق الاجتماعي مع الآخرين؛ وهذا قد يؤدي إلى نتائج عكسية تصيب الأفراد الحساسين للغاية بأبشع سمات ثقافة الإنترنت.

وقالت تشاكيس: "إنَّهم أكثر عرضة لخطر الآثار السلبية المتعلقة بالمقارنات بالآخرين والاستبعاد والتنمر عبر الإنترنت". وقد يؤدي الاعتماد المفرط على التكنولوجيا أيضاً إلى تآكل مهارات الأشخاص؛ إذ عانت الكاتبة لورين جليف (Lauren Juliff) من القلق الاجتماعي معظم حياتها. فإنَّ عملها عبر الإنترنت يسهل عليها تجنب الأشخاص الآخرين؛ ولكنَّ قلقها الاجتماعي ازداد سوءاً في أثناء عملها على مشروع قبل بضع سنوات.

في عام 2015، حصلت جليف على صفقة لكتابة كتاب في غضون بضعة أشهر فقط، ووافقت على الموعد النهائي الضيق؛ إذ كانت تعمل 18 ساعة في اليوم ونادراً ما تغادر المنزل. وعندما خرجت أخيراً؛ لم تر جليف أصدقاءها أو حتى شعرت بأشعة الشمس على بشرتها لمدة أربعة أشهر. ومجرد وجودها في الخارج جعلها متوترة وعصبية، وشعرت أنَّ التحدث إلى الناس غير مريح.

قالت جليف: "لقد بالغتُ في تحليل كل شيء قلتُه في محادثة لأشهر بعد ذلك، وأعاتب نفسي إذا لم يضحك الناس على مزحة قلتُها أو إذا لم أجد أي شيء أقوله عندما أواجه صمتاً محرجاً". وكانت هناك أعراض جسدية أيضاً، فقد يؤدي التحدث إلى الأصدقاء إلى الدوار وخفقان القلب، وقد يؤدي مجرد المشي إلى منزل أحد الأصدقاء إلى تقلصات شديدة في المعدة. وكان على جليف أن تعود إلى المنزل، وتبلغ من خلال الرسائل النصية أنَّها كانت مريضة جداً ولا يمكنها لقاء أصدقائها.

قالت: "في المناسبات النادرة التي تمكنتُ فيها من التغلب على الألم، كنت أصل وأنا أشعر بالتوتر الشديد، وعندما كنت أشعر أنَّني سأقول شيئاً غريباً، كنت أختار عدم قول أي شيء على الإطلاق، وألتزم الصمت؛ فلقد أصبحت سيئة للغاية في المواقف الاجتماعية".

لقد كانت حالة جليف متطرفة، ولكن في عالم حلت فيه الرسائل النصية محل الكلام بِعَدِّه الشكل السائد للتواصل غير الشخصي للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً، فقد يكون ذلك علامة على اتجاه متزايد. ويعتقد "بيرنت" أنَّه مع اعتمادنا المتزايد على التكنولوجيا، بدأت المسارات العصبية المطلوبة للمهارات الاجتماعية الأساسية، مثل التواصل الشفوي، بالضمور، وقال: "لقد أصبح هذا شائعاً جداً".

إقرأ أيضاً: 12 نصيحة بسيطة للحفاظ على الصحة النفسية

مواجهة المخاوف الاجتماعية:

لا يختفي القلق الاجتماعي من تلقاء نفسه؛ إذ يتفق المعالجون والمرضى على أنَّ تحدي المخاوف الاجتماعية أمر ضروري للتعافي. وبالنسبة إلى جليف، كان هذا يعني تعلُّم التخلي عما يعتقده الآخرون، وإجبار نفسها على القيام بأشياء جعلَتها غير مرتاحة، مثل طرح سؤال على شخص غريب أو قبول الدعوات أو دعوة الأصدقاء إلى منزلها.

وللحفاظ على الهدوء، لجأت جليف إلى التأمل، وقالت: "وجدت أنَّني إذا مارست التأمل قبل الخروج، فسوف أغادر المنزل وأنا أشعر بالراحة؛ وهذا ساعدني بعد ذلك على الشعور بأنَّني مستعدة لتقبل التحدث إلى الأصدقاء، وأدركت أنَّني توقفت عن التحليل المفرط لكل كلمة تخرج من فمي أيضاً".

والاستراتيجية التقليدية لمعالجة القلق الاجتماعي هي العلاج السلوكي المعرفي مع خيار العلاج إذا ثبت أنَّ هناك صعوبة في السيطرة على مشاعر القلق؛ ولكنَّ بيرنت لا يعتقد أنَّ هذه الاستراتيجيات وحدها تصل إلى جوهر المشكلة، وقال: "الإدراك هام جداً؛ فكل شيء يبدأ بفكرة، والسلوك واضح؛ ولكنَّ هذا لا يحل المشكلة الأساسية؛ وهي الغضب وكيفية ارتباطه بعلم وظائف الأعضاء".

هذه النظرية مستوحاة من عمل الدكتور الراحل جون سارنو (John Sarno)، أستاذ طب إعادة التأهيل في كلية الطب في جامعة نيويورك (New York University School of Medicine) المعروف بفكرته الفعالة بشكل مدهش؛ ولكنَّها مثيرة للجدل.

شاهد بالفديو: 6 نصائح بسيطة تساعدك على التخلص من مخاوفك

اكتشف سارنو أنَّ معظم آلام الظهر المزمنة يمكن أن يكون سببها الغضب المكبوت. ويرى بيرنت النمط نفسه في القلق الاجتماعي؛ إذ قال بيرنت: "هذا هو المرض الجوهري للمقاومة لأنَّ الناس لا يريدون الشعور بهذه المشاعر. وبمجرد أن يبدؤوا بمعالجة الغضب، فإنَّ الهدف هو تحويل ذلك إلى طاقة منتجة".

هؤلاء الناس لديهم الكثير ليغضبوا منه. فالعيش في خوف دائم مما يعتقده الآخرون هو عبء ثقيل يجب تحمُّله ويجعل الحياة محدودة للغاية، كما أنَّه يمنعهم من تجربة الكثير من التجارب الجيدة التي يمكن أن يمروا بها من خلال قضاء الوقت مع الآخرين، مثل بناء علاقات صحية.

وغالباً ما يعتقد الأشخاص الذين لا يعانون من القلق الاجتماعي أنَّه يمكنك بسهولة التخلص منه من خلال قوة الإرادة؛ ولكنَّ بعضهم يقول إنَّ التعافي هو أصعب شيء فعلوه على الإطلاق.

هناك مكافأة كبيرة للتعافي؛ فلم يعلِّم بيرنت مرضاه أن يتعلموا كيفية تسخير اندفاعات الأدرينالين التي أعاقتهم ذات مرة، واستعمالها كوسيلة للتركيز، والبقاء حاضرين في اللحظة، والتركيز على ما يريدون حقاً توصيله؛ والنتيجة هي تفاعل نشط وصادق وأكثر جدوى.

يتطلب الوصول إلى هذا المكان التأمل الباطني؛ فقد يعتقد الشخص الذي يقضي معظم وقته بمفرده أنَّه يتفوق بالفعل في هذه المهارة؛ ولكنَّ بيرنت يصر على أنَّ سماع أفكارك يختلف عن فهمها بشكل عميق، وقال: "قد يكون الأشخاص أكثر قلقاً وأكثر اجتراراً للأفكار؛ ولكنَّ التأمل الباطني عملية مختلفة؛ إذ إنَّه يبحث في ماهية المشكلة ويتعرف إليها. ومن ثم، إنَّها المرونة العاطفية التي تحدد خصوصية المشاعر وشدتها، وكذلك كيف يجمعهما التفكير معاً".

وبسبب العمل والشجاعة اللازمين للتعافي، فإنَّ الميزة الرئيسة لمتابعة هذه العملية هي المبادرة. فبالنسبة إلى بعض الناس، الدافع هو السر لفرص علاج أفضل، أما بالنسبة إلى جليف، كان إدراكها أنَّ جميع أصدقائها المقربين قد تركوها لأنَّها لم تكن قادرة على الحفاظ على علاقتها بهم.

قالت: "كنت أعلم أنَّه يجب عليَّ إجراء تغيير وإلا سأنتهي بائسة وحيدة لبقية حياتي". بالنسبة إلى أولئك الذين يفتقرون إلى المبادرة، قد لا يتمكنون أبداً من التحرر؛ فعندما يتصل الآباء بـ بيرنت للحصول على المساعدة لأنَّ ابنهم البالغ أو العاطل عن العمل أو الابن أو الابنة يقضون حياتهم في لعب ألعاب الفيديو، فغالباً ما يتفاجؤون عندما يريد التحدث إليهم أولاً.

قد لا يدرك الآباء أنَّهم يقفون في طريق مبادرة أطفالهم، وقال بيرنت: "هذا إدمان يجب تجنبه؛ لذا، إذا لم يعلم الأهل ما يجب القيام به، فستستمر هذه المشكلة".

المصدر




مقالات مرتبطة