الانتباه الضيِّق: السبب الخفي للتوتر والمعاناة

· هل تتزاحم الأفكار في رأسك؟ · هل تحاور نفسك حواراً سلبياً عادةً؟ · هل تراودك مشاعر مزعجة تجد صعوبةً في التخلص منها؟ إنَّ لهذه العمليات الداخلية التي تُعكر سكينةَ الغالبية العظمى من الناس جذوراً خفيةً شائعة، وتنتج عن خلل وظيفي فيما يُعدُّ واحدةً من أهم وظائف العقل، وهي الانتباه.



ما هو الانتباه؟

إنَّ الانتباه وفقاً لعالمِ النفس والفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس (William James) هو: "سيطرة هدف واحد أو فكرة واحدة من بين عدة أهداف أو أفكار على عقلك سيطرة مطلقة؛ أي الانشغال عن عدة أشياء للتركيز على شيء واحد بدقة".

تُذكرنا الطريقة التي يعمل بها الانتباه بمصباح يدوي؛ تخيل أنَّك في غرفة مظلمة وبحوزتك مصباح يدوي، حدِّد المكان الذي توجه إليه الضوء داخل الغرفة، سترى أنَّ انتباهك سيذهب في كلِّ لحظة إلى البقعة المضاءةِ بشعاعِ المصباح تحديداً، بينما يكون كلُّ شيء آخر مظلماً.

إذاً فالانتباهُ هو شعاع الضوء الخاضع لسيطرة وعيك، والذي تراقب به نفسك والعالم من حولك، وغياب هذه القدرة سيجعل الحياة شبه مستحيلة؛ فتحدد الطريقة التي تستخدم بها انتباهك نظرتك إلى نفسك وإلى الآخرين وإلى محيطك.

ستتعرف في هذا المقال إلى:

  • السبب الجذري للأفكار السلبية والمخاوف المتكررة.
  • سبب صعوبة التخلص من المشاعر المزعجة.
  • كيفية توظيف الانتباه لإضفاء الهدوء والانسجام في حياتك.

خصائص الانتباه:

يُنظر للانتباه على أنَّه عملية مستمرة، ويمكن وصف أحد أشكاله بأنَّه ضيق النطاق ومركز في نقطة واحدة من ناحية، ولكنَّه واسع النطاق من ناحية أخرى، وعندما يكون مجال انتباهك ضيقاً، يكون تركيزك على جزء محدود من تجربتك؛ إذ يستحوذ مصدر انتباهك على كلِّ وعيك أو على أجزاء منه على نحو غير متناسب.

أمَّا عندما يكون نطاق انتباهك واسعاً، يتوزع وعيك بطريقة متوازنة على كلِّ جزء من أجزاء التجربة.

لنأخذ بعض الأمثلة العملية البسيطة:

أنت تقرأ الآن الكلمات السوداء على الشاشة البيضاء مركزاً انتباهك على ما هو مكتوب، ومع ذلك يمكنك توسيع نطاق تركيزك والانتباه للشاشة التي تقرأ منها، ولمحيطكَ في الوقت نفسه.

إذا كنت تريد مثالاً آخر، انتبه للقمر في صورة لمنظر طبيعي، الآن وجه تركيزك إلى الأرض، ثمَّ وسِّع نطاق انتباهك ليشمل القمر والأرض والفضاء المحيط، ولاحظ الفرق في الإدراك الحسي.

توجد انعكاسات هائلة لكلِّ ما تشعر به وتفكر فيه وتفعله ذات صلة بهذا التمرين الإدراكي البسيط، وفي حقيقة الأمر، يمكن أن تُحدث الطريقة التي تستخدم بها انتباهك فرقاً بين السعادة أو الاستياء بين المعاناة أو السلامة والعافية، بين الانسجام أو الفوضى الذهنية، وهذا ما سنعرف سببه في السطور القادمة.

الانتباه الضيِّق: السبب الخفي للتوتر والمعاناة

يجب في الحالة المُثلى استخدام الانتباه بطريقة واعية وتضييق أو توسيع نطاقهِ وفقاً للأنشطة التي تقوم بها، وتوجد حالات يكون فيها أحد أنواع الانتباه أكثر فاعليةً من الأنواع الأخرى في تنفيذ مهام معينة.

لكن لسوء الحظ، ولأسباب تطورية وثقافية، يميل الناس إلى استخدام الانتباه الضيِّق بإفراط، وهو أسلوب مرتبط بحالات الطوارئ والخطر، ففي حال وجود خطر مفترض، يتقلص الانتباه في الواقع، ويتركز على التهديد المحتمل.

تخيل أنَّك تسير في شارع مظلم، وفجأة سمعت ضوضاء، سيركِّز انتباهك تلقائياً على مصدر الضوضاء، وسيدخل جسمك في حالة توتر، ويستعد للكر أو الفر، لكن سيعود انتباهك تدريجياً إلى حالةٍ أكثر اعتدالاً واسترخاءً بعد التأكد من عدم وجود خطر، وهذه الآلية فاعلة للغاية إذا نُشطت عند وجود خطر حقيقي.

لكن لسوء الحظ، يميل العقل فطرياً بسبب الانحياز للسلبية إلى التركيز على الأسوأ، واستشعار الخطر في كلِّ مكان، وتنشطُ حالة التنبه هذه عندما لا تكون المخاطر حقيقيةً في معظم الأوقات.

شاهد بالفيديو: 6 طرق يستخدمها الشخص الناجح للتخلّص من التوتر

متى تظهر المشكلات؟

تقضي معظم حياتك في وضع الانتباه الضيق؛ فضغط الدم، ومعدل ضربات القلب، والتنفس، والقيم الفيزيولوجية الأخرى تعمل فوق طاقتها، وحالة الانتباه هذه التي من المفترض أن تستمر لفترات قصيرة فقط، تصبح مزمنة.

يتطلب الحفاظ على حالة الانتباه الضيق صرف كثير من الطاقة؛ وذلك لأنَّها تصبح حالةً مزمنة، وغالباً ما يؤدي هذا إلى تراكم الضغوطات النفسية، وقد يكون لحالة الإجهاد الطويلة عواقب سلبية عديدة على صحتك.

لقد أظهرت دراسات عديدة أنَّ الضغط النفسي يسبِّب تغيرات طويلة الأمد في البنية الفيزيائية للدماغ، ممَّا يعرض الناس لمشكلات خطيرة.

ماذا يعني أن تبقى محصوراً في وضع الانتباه الضيق؟

لتعرف إذا ما كان لديك خلل وظيفي في استخدام الانتباه الضيق؛ فالأمر سهل؛ فغالباً ما يكون العقل في هذه الحالة مشغولاً بالهموم والمشكلات ومشاعر القلق.

هل تعلم متى تكون مستغرقاً تماماً في أفكارك السلبية؟ متى تستمر بالتفكير ملياً في الأمور نفسها؟ عندما يُجمَّد الانتباه في هذا الوضع، ومن الشائع الشعور بالتوتر والقلق والعصبية، أمَّا من الناحية العاطفية، فقد تتملكك مشاعر المقاومة والتهرب.

لماذا يصعب التخلص من هذه الأنماط الذهنية المختلة وظيفياً؟

كما ذُكر سابقاً، إذا كنت تعاني من خلل الانتباه هذا، فقد تجد نفسك عالقاً في مخاوف وأفكار وحالات مزاجية سلبية؛ لذا عليك لمواجهة هذا النشاط العقلي المزعج تشتيت انتباهك بالتفكير في أمر آخر، أو ربما استبدال فكرة سلبية بأُخرى إيجابية في أحسن الأحوال.

لسوء الحظ، هذا النهج غير فعال لسبب بسيط، وهو أنَّه يعمل ضمن التكوين العقلي نفسه الذي يولِّد المشكلة؛ فهو يتدخل على مستوى المحتوى لا البنية حيث تنشأ المشكلات.

لقد عبَّر عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) عن ذلك تعبيراً جيداً، فقال: "لا يمكن حلُّ المشكلات بالمستوى نفسه من التفكير الذي أدَّى إلى ظهورها".

لحسن الحظ، يمكن تصحيح حالة الخلل الوظيفي هذه بتدريب الانتباه، وهو إجراء يعالج السبب الحقيقي للمشكلة.

تعزيز وظيفة الدماغ ليعمل بانسجام:

دُرست تأثيرات الانتباه في صحة الأفراد في السبعينيات دراسة دقيقة بفضل استخدام تقنية الارتجاع العصبي، وهو جهاز يصور النشاط الكهربائي للدماغ على شاشة الكمبيوتر مباشرةً.

يحتوي الدماغ على 100 مليار خلية عصبية، تتواصل مع بعضها بعضاً بإشارات كهربائية تسمى بالموجات الدماغية، ولهذه الموجات فئات عدة، وترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالأفكار التي تفكر فيها والأحاسيس التي تشعر بها.

اكتُشف عن طريق التحكّم بالانتباه بطريقة معينة أنَّه من الممكن إنشاء نمط محدد للموجات الدماغية؛ إذ تقوم مناطق مختلفة من الدماغ بإنتاج موجات ألفا بانسجام تام، ويُصاحب هذا التكوين "الكهربائي" الخاص تأثيرات مفيدة للغاية في الأفراد.

فعندما تكون في هذه الحالة:

  1. يعالج الدماغ المعلومات بكفاءة أعلى، مما يسرع من عملية التعلم.
  2. تتخلص بطبيعة الحال من التوتر والمشاعر المزعجة.
  3. تشعر بحالة من السلامة والعافية وبأنَّك أكثر راحةً وعفويةً وحرية.
  4. تتلاشى الآلام الجسدية.
  5. تستفيد من إمكانات النصف الأيمن للدماغ.

يدخل تدريب الانتباه في صلب أيِّ نوعٍ من ممارسات التأمل

كما ذُكر آنفاً، فإنَّ تدريب الانتباه يعزز حالة استثنائية من الانسجام والكفاءة العقلية، ولهذا السبب لم تعد فوائد التأمل مفاجئةً عند النظر إليها في ضوء ذلك، فعندما تقوم بفحص جسدك، فإنَّك تعتمد على الانتباه في الحقيقة كما تعتمد عليه في التأمل التنفسي، وهو في صلب أيِّ شكل من أشكال التأمل كذلك.

الهدف من ممارسة الحضور الذهني هو تركيز الانتباه على اللحظة الحالية، وقد حدَّد تدريب الانتباه الوظيفة الذهنية الرئيسة للتأمل، واستكشفها بعمق ودقة لم تحققها أيٌّ من ممارسات التأمل الأخرى.

استثمار ممارسات التأمل الحديثة

بخلاف ممارسات التأمل التقليدية - التي ولدت منذ آلاف السنين، عندما كنت تفتقد لما تعرفه اليوم عن الدماغ، والتقنيات الحالية لأسباب بديهية - وُلد تدريب الانتباه وتطور بمراقبة تأثير الانتباه في الأفراد بواسطة الارتجاع العصبي، وقد أتاح ذلك تحسين ممارسته بطريقة فعالة للغاية منذ البداية للحصول على أكبر فائدة في أقصر وقت ممكن.

شاهد بالفيديو: كيف نتخلص من التوتر في ظل الأجواء الصعبة التي نعيشها؟

لهذه الممارسة في الواقع فوائد لا حصر لها في حياة الشخص، وإليك أهمها:

1. تعلِّمك عيش اللحظة الحالية وتُضفي السكينة على حياتك:

العقبة الأولى أمام اليقظة الذهنية هي الأفكار، وهذه الأفكار في الواقع عندما تبرز إلى السطح تسحبك معها للقلق بشأن أمرٍ محتمل الحدوث في المستقبل، أو للتفكير في شيء حصل في الماضي؛ فالأفكار تحرض الانتباه الضيق، وهو بدوره يحفزها.

عندما يكون نطاق انتباهك واسعاً، يهدأ العقل تلقائياً، وتنحصر الأفكار التي يولدها؛ ومن ثَمَّ يكون من السهل التركيز على اللحظة الحالية.

لقد عثر إيكهارت تول (Eckhart Tolle) - وهو أحد أهم المؤلفين الذين نشروا عن فوائد اليقظة الذهنية بلا شك - على معلومات مفيدة بعد مدة من الاكتئاب المستمر واليأس عندما أدرك بعمق أنَّ ذلك الصوت في رأسه لا يمثله، وأنَّه ما من تشابه بينه وبين ذلك الصوت، وشعر في تلك اللحظة بالسلامة والعافية، وبدا العالم له مكاناً مفعماً بالحيوية بشكلٍ لم يعرفه من قبل.

ما حدث لـ إيكهارت كان في الأساس الانتقال من حالة الانتباه الضيِّق المزمن إلى حالة الانتباه واسع النطاق، والذي من الشائع معه الشعور بالانسجام والتآلف مع المحيط.

هذا "التحرر" حدث له تلقائياً، لكنَّ الأمر لا يحصل على هذا النحو بالنسبة إلى الأشخاص العاديين لسوء الحظ، ويجب تصحيح حالة الخلل في الانتباه بتدريب خاص.

إقرأ أيضاً: 5 أسباب كي تعيش اللحظة الحالية وتتوقف عن المبالغة في التخطيط

2. تجعلك أعظم وأقوى من مشكلاتك:

عندما تجد نفسك في حالة الانتباه الضيق المزمن، فمن السهل على عقلك أن ينساق وراء مخاوفه وينفعل، فيستحوذ الصوت الناقد داخلك على كلِّ انتباهك لدرجة أنَّه كما حدث لـ إيكهارت ولملايين الأشخاص حول العالم، يمكنك أن ترتبط به ارتباطاً وثيقاً.

بخلاف ذلك، عندما يكون نطاق انتباهك واسعاً، يصبح الصوت الخافت في رأسك أو أيِّ ألم آخر أو تجربة مزعجة، جزءاً صغيراً من تجربتك متعددة الحواس التي لا حدود لها، ونظراً لأنَّ هذه التجارب تشغل مساحة صغيرة من وعيك الكلي، فإنَّ تأثيرها السلبي يقل، هذا إن لم يختفِ كلياً.

إذا تخلص عقلك من هذا الاجترار الذهني السلبي، فالعيشُ في الحاضر هو النتيجة الطبيعية، وكلُّ هذا دون الاضطرار إلى محاربة الأفكار السلبية، أو التفكير بإيجابية.

إقرأ أيضاً: 8 استراتيجيات مؤكدة للنجاح في حل المشكلات

في الختام:

إنَّ الطريقة التي تنتبه بها تُشكل عالمك والتصورات التي تبنيها حوله، وعندما تكون عالقاً في وضع الانتباه الضيق، فأنت لا تدرك سوى جزء صغير من الواقع، وغالباً ما يكون مظلماً ومشبعاً بالسلبية، في حين يسمح لك توسيع نطاق الانتباه بالخروج من هذا السجن الإدراكي، والانتقال من مساحة ذهنية صغيرة تتسع غالباً للمشكلات والمخاوف فقط إلى مجال واسع من الوعي يسوده الانسجام؛ إذ من السهل التصرف بعفوية لتحقيق ما تريد.

المصدر




مقالات مرتبطة