الإرهاق في العمل وطرق مواجهته

كثيراً ما نُسألُ السؤال الآتي: كيف تجري الأمور معكَ في العمل؟ تبدأ تعابير الوجه بالتغير عند الإجابة على هذا السؤال، وتختفي الابتسامة ويأتي عوضاً عنها تنهيدةٌ من القلب وصوتٌ يقول: لا بأس، في الحقيقة أنا مُتعَبٌ ومُرهَقٌ جداً.



هل تستطيع أن تَصدِقنا القول في الإجابة عن هذه الأسئلة:

  • كم عدد المرات التي تنظر فيها إلى ساعة يدك في انتظار انتهاء يوم العمل؟
  • كم عدد المرات التي تستيقظ فيها باكراً، دون أن يكون لديك رغبةٌ في الذهاب إلى العمل؟
  • كم عدد المرات التي شعرت فيها أنّ طاقتك منخفضة وأداءك ضعيف، وأنّك غير مُتحمّسٍ للقيام بالأعمال؟
  • كم من مرّةٍ شعرت فيها أنّك ترزحُ تحت ضغطٍ نفسي، غير راضٍ عن العمل الذي تقوم به؟

إنّ ملفّ العمل واحدٌ من أهمّ الملفات التي تستحقّ التحليل والمعالجة، إذ يهدف العمل إلى الوصول إلى اقتصادٍ قويٍّ وتنميةٍ متوازنةٍ وبيئةٍ مجتمعيّةٍ سليمة.

بيد أنَّ الأسئلة المطروحة هنا:

  • كيف حال ثقافة العمل في مجتمعاتنا؟
  • هل مازالت سليمةً أم أنّها تشوّهت؟
  • وكيف يُقاس ضغط العمل؟
  • وكيف نصل إلى المتعة في عملنا؟

علماً أنّ هنالك تفاوتٌ بين الأشخاص فيما يخصّ الإحساس بالإرهاق في أثناء العمل.

دعونا نتفق بدايةً على أنّ هنالك نوعين من الضغوطات؛ ضغوطاتٌ ماديّةٌ وأخرى نفسيّة؛ أمّا الضغوطات الماديّة فهي تطبيق شيءٍ مادّيٍّ على أجسادنا، في حين تُعد ضغوطات (العمل والعائلة) ضغوطاتٌ نفسيّة. والميزة هنا أنّ المسبّب للضغوطات النفسية عبارة عن أفكار، وفي حال القدرة على إدارتها بشكلٍ صحيح، سنكون عندئذٍ أشخاصاً هادئين متّزنين أيّاً كان الحدث الحاصل.

الفرق بين التعب والإرهاق في العمل:

يشعر معظمنا بالتعب أثناء العمل، وقد يكون النوم بشكلٍ كافٍ حلّاً جيداً له، إلّا أنّ الإرهاق معقّدٌ بعض الشّيء، وهو حالةٌ شبه ثابتة من التّعب تتطوّر مع مرور الوقت، مما يقلّل من الطاقة والحافز والتركيز، فهو يقترن مع الشعور بالسّخرية والانفصال عن العمل (عدم الانتماء للعمل) وضعف الإنجازات.

هل ثقافة العمل مشوّهة في مجتمعاتنا؟

لقد تحوّل العمل الى واجبٍ وروتين قاتل في مجتمعنا، حيث أصبحت أيام العطل هي أجمل أيام الشهر، وذلك بالمقارنة مع نظيرتها أيام العمل التي باتت تُعد الأيام الأكثر ضغطاً وإرهاقاً خلال الشهر.

العمل أمرٌ مفروضٌ وواجبٌ علينا:

تتطلّب أفكارنا عن "المفروض" الكثير من التّمعن حقيقةً، فالأمر المفروض في اللغة العربية هو "ما لا يتمّ الشّيء إلّا به"؛ فلا تتمّ السّعادة في الحياة إلّا بالعمل، ولا تتحقّق رسالة الإنسان في الحياة إلّا به، ولا تتحقّق القيمة إلّا به.

لذا دعونا نفرّق بين مفهومين "الاطمئنان والأمان": فالاطمئنان يأتي من الشيء المادي (عائلة، وظيفة، منزل)، أمّا الأمان فيأتي من الشيء الرّوحاني. لذا يكون مَن يربط أمانهُ بالماديات من أكثر الأشخاص تعاسةً على وجه الأرض.

وفي حال حدوث مشكلاتٍ في عملك أفقدتك وظيفتك، ستشعر أنّ قمّة الأمان لديك يتمثّل بإيجاد وظيفة أخرى في أقرب وقت. وبمجرّد حصول ذلك معك، يجب أن تَعِي أن هذه رسالةٌ هدفها أن تُلغِي تعلُّقك بالماديات.

وبدلاً من تعليق الأمان بوظيفة، أخبر عقلك أنّك ستكون في قمّة الأمان حتى في حال لم يكن لديك عمل، وأنّك قادرٌ على إيجاد الكثير من الفرص، وعلى تفجير الطاقة والشغف في داخلك؛ وستكون النتيجة أنّك ستجد بالفعل فرصاً كثيرةً أمامك لتختار فيما بينها.

إقرأ أيضاً: كيف تجد عملاً جديداً في سن الأربعين وتتخلّص من الشعور بالعجز

سياسة القيمة والتغيير من الداخل للوصول إلى المُتعة:

عندما نواجه ضغوطات في عملنا، فإنّنا نسعى إلى التغيير من الخارج، على سبيل المثال: شخصٌ مضغوطٌ في العمل بسبب كثرة ساعات العمل، فسيسعى إلى تغيير ساعات عمله لاعتقاده أنّه سيرتاح عندما يقلّل عددها، أو قد يسعى إلى الانتقال من قسمٍ إلى آخر لاعتقاده أنّ هذا سيَصُب في خانة راحته: وهو ما يُسمّى التغيير من الخارج.

تكمن خطورة هذا التغيير في أنّ من يعيش بهذه الطريقة، يسعى دوماً إلى الهروب من حالة الضغط، ليعود ويَقع في حالة ضغطٍ أخرى، ساعياً مُجدّداً إلى الهروب منها بتغيير العامل الخارجيّ؛ أي أنّه سيدور في دائرةٍ مغلقة.

يكمن الحلّ السحريّ والحاسم لهذا الوضع في أن يبدأ الشخص بالتغيير من الداخل، فيتفنّن ويستمتع بالحدث أيّاً كان نوعه. وعندما تستمتع بما أنت فيه، سيبدأ الخارج بالتَّغيُّرِ لصالحك، وسيجلب لك المزيد من المتعة.

لكن: كيف يتحقّق ذلك؟

لابدَّ من ربط المتعة بالقيمة، على سبيل المثال: يُعاني شخصٌ يعمل بمهنة "إدخال البيانات" من فقدان إحساسه بقيمة عمله، حيث يشعر أنّ ما يقوم به ليس بهذه الأهميّة، وأنَّ عمله روتينيٌّ ومملّ. من جهةٍ أخرى، في حال جرَّب هذا الشخص أن يُغيِّر نظرته تجاه عمله، كأن يُفكِّر أنّه بإدخاله للبيانات يُسهِّل عملية الوصول إلى الكثير من المعلومات الهامّة، الأمر الذي سيُسهِّل العديد من الإجراءات؛ إذاً فهو يُحقِّق اليسر لحياة الكثير من الناس، وبالتالي يكون قد أضفى قيمةً إلى عمله، وغيّر من نظرته إليه، محوِّلاً إياه إلى مُتعةٍ حقيقيةٍ. فتغيير الفكرة قد أدى إلى تغيير الحالة والوصول إلى المتعة، وعند الشعور بالمتعة سيجذِب المزيد منها إلى حياته.

كيف نواجه ضغوطات العمل؟

يحمل الكثير من الأشخاص ضغوطات العمل ومشكلاته إلى منازلهم، الأمر الذي يجعل من حياتهم الأسرية قنبلةً موقوتة؛ فيصبّ هؤلاء الأشخاص جام غضبهم وانفعالاتهم على أفراد أسرتهم. فكيف لهم أن يديروا انفعالاتهم وضغوطات العمل؟

إنَّه لمن الضروري أن يَعرِف الشخص سبب انفعاله من خلال الجلوس وحيداً بعد انتهاء نوبة الانفعال تلك، وسؤال نفسه عن مسبّباتها، وعن طريقة التعامل معها بأسلوبٍ مختلف؛ وذلك ليتدارك هذا الأمر في المرّات القادمة.

الانفعال عبارةٌ عن طاقة، والطّاقة لا بدَّ أن تخرج إمّا بشكل صوتٍ عالٍ (صراخ) أو بشكل طاقةٍ حركيّةٍ (رياضة، وهي الشكل الأمثل لخروجها)، وفي حال عدم خروجها بأحد هذين الشّكلين، فستتحوّل إلى أمراض خطيرة تُصِيب الأعضاء.

ومن جهةٍ أخرى، إنّ العقل اللّاواعي لا يُفرِّق بين الحقيقة والخيال، لذا تستطيع الجلوس وحيداً في غرفتك وتحويل رغباتك الشّريرة تجاه الشخص المُسبّب لانفعالك إلى صور في عقلك؛ كأن تتخيّل ضربك له أو صراخك في وجهه.

سيؤدي هذا التمرين إلى تفريغ طاقتك السلبيّة، فالغاية هي تفريغ الانفعال، والوصول إلى الهدوء والاطمئنان، لأنّ الإنسان عندما يكون في حالةٍ إيجابيّة، فإنَّه يجذب أموراً أكثر إيجابية إلى حياته.

ولضمان بقاء المشاعر إيجابية، يجب عليكَ التركيز على مشاعرك، فبمجرّد أن تشعر بالضّغط أو بمشاعر سلبيّة، انفرد مع ذاتك وابدأ بكتابة الموقف الذي سبّب لك الضغط بكلّ تفاصيله (وصف الأشخاص، المكان، تعابير الوجه)، ومن ثمّ انتقل إلى تفسير الموقف (أساء معاملتي، استهزأ بي) واكتب بعد ذلك احساسك بالموقف (كنتُ في حالة غضب) وهكذا.

بعد قيامك بكتابة هذه الأمور، اكتب بعدها الموقف والمشاعر التي تريدها أن تخرج منك، مثل: أنا أريد أن أكون هادئاً ومتّزناً بعد حدوث الموقف.

وتذكّر دوماً أنّ "الغضب هو عقاب نُعاقِب به أنفسنا، عندما يُخطِئ غيرنا".

إقرأ أيضاً: 5 نصائح لتحقيق التوازن بين عملك وحياتكَ الشخصيّة

من هو الرّازق؟

مَن يقتنع أنّ رب العالمين هو الرّازق، وليس ربّ العمل الذي يعمل عنده أو صاحب الشركة، سيرتقي تدريجيّاً في عمله. وفي حال لم يُقدِّر صاحب العمل عمله، فإنّه سيجد فرصة عملٍ أفضل بكثير، لأنّ ربّنا هو الرّازق، ولأنّ قانون الحياة يُؤكِّد على أنّكَ "بمقدارِ ما تُعطِي بمقدارِ ما تأخذ".

ما الذي يجعلنا مُتعبين جداً في أعمالنا؟

1- نضوب الموارد:

لكلٍّ منا خزّان طاقة، يُسمّى قوة الإرادة أو التّحكم في النفس. وعندما يفرغ هذا الخزّان فإنّنا نشعر بالتعب. تُدعى هذه الظاهرة باستنزاف الأنا، أي أنّ يستنزف الاعتماد على ضبط النفس طاقاتنا.

2- معارضة "منحنى الإنتاجية الطبيعي":

نمر جميعنا بسلسلة من الارتفاعات والانخفاضات في الطاقة خلال اليوم، هذا ما يُسمّى بإيقاع سيركادين "Circadian rhythm"، وهي أشبه بساعةٍ داخليّةٍ تدور في فترات اليقظة والتعب. والإخلال بهذه الدورة سيزيد من احتمالية تعرُّضنا للإرهاق خلال العمل.

تُؤثّر الكثير من الأشياء الداخليّة على إنتاجيتنا، وتكون خارجةً عن نطاق سيطرتنا، حيث تتبَع طاقتنا وتركيزنا وحوافزنا طريقها الخاص طوال اليوم، إنّه "منحنى الإنتاجيّة". غالباً ما نحارب منحنيات الإنتاجيّة الشخصيّة (عادةً مع المزيد من القهوة)، ونعمل دون المستوى الأمثل، ويؤدي استمرار هذا الأمر لفترةٍ طويلةٍ إلى الإرهاق.

لكن إذا تعلّمنا العمل مع القمم والوديان الطبيعيّة الخاصة بنا، فيمكنها مساعدتنا بدقّةٍ على تحديد موعد كلّ جزءٍ من يومنا. يتمُّ ذلك من خلال:

  • التركيز في المهام الهامة والصّعبة في ساعات الذروة الخاصة بنا.
  • عدم إجراء الاجتماعات والمكالمات حينما تكون مستويات الطاقة منخفضة لدينا.
  • تجنّب العمل تحت الضغط الكبير عندما نحتاج إلى زيادةٍ في الطاقة والتّحفيز.

تجعلنا هذه الآليّة نقوم بإنجاز المهام في الأوقات المناسبة لنا.

3- تغيير طبيعة العمل:

تتطلّب تغيير طبيعة العمل، إعادة تعريف جداولنا اليوميّة وتجعلها أكثر صعوبةً لإعادة التنشيط، مما يسبّب لنا بالكثير من الإرهاق.

4- النوم غير الكافي:

في الحقيقة إنّ الكثير من الموظفين لا يحصلون على قدرٍ كافٍ من النّوم، الأمر الذي يجعلهم مُرهقين جداً.

5- عدم مقاومة الإغراءات:

غالباً نقضي أوقات فراغنا والاستراحات خلال العمل، في التّحديق في شاشات هواتفنا المحمولة لساعاتٍ طويلةٍ، غير قادرين على مقاومة إغراء مواقع التواصل الاجتماعي، علماً أنّ الضوء المنبعث من أجهزتنا يُعدّ سبباً لتقليل جودة النوم وازدياد معدل الاكتئاب والقلق والإرهاق.

إقرأ أيضاً: 5 علامات تدل على الإصابة بالإنهاك الناجم عن العمل

5 تقنيات للتقليل من إرهاق العمل:

1- البحث والعمل خلال ساعات ذروة إنتاجيتك:

بمجرد تحديد إيقاع سيركادين "Circadian rhythm" الطبيعي لجسمك، فيمكنك تعلّم العمل خلال الساعات التي تكون فيها في حالة تأهّبٍ قصوى. هذا يعني ببساطة، جدولة أوقات عمل مناسبة والقيام بعمل مُركّز، وذلك عندما تكون مستويات الطاقة لديك أعلى من الطبيعي.

2- إدارة الدافع الخاص بكَ:

يؤثّر الحافز على مستويات الطاقة لديك، ويَخلق التعب (في حال غياب الحافز المادي أو المعنوي)، لكنّ الحافز شيءٌ مُتقلِّب، لذا يجب عليك أن تُعوِّد عقلك على التّحفيز الذاتيّ.

ابدأ من خلال تغيير مساحة العمل الخاصة بكَ، وذلك للتقليل من الفوضى فهي تقتل حماستنا للعمل.

3- أخذ استراحاتٍ أكثر خلال اليوم:

إن كنت مُتعَباً في العمل، فَلِمَ لا تأخذ استراحة؟

فلكي تزيد من أدائك وتركيزك، تستطيع اعتماد قيلولة القوّة التي تستغرق (15-20) دقيقة في النوم فقط.

إنّ الاستراحة خلال اليوم ليست مفيدةً لإنتاجيتك أو لمحاربة التعب فقط، إنّها غريزية، حيث أنّ جسم الإنسان يتبع دورة "نشاط - راحة" كلّ 90-120 دقيقة. لذا فإنّ جسمك يتوقُ إلى أخذِ قسطٍ من الراحة بعد 90 دقيقة من العمل. بمجرد ما إن تفهم هذا الإيقاع، يمكنك استخدامه لمصلحتك من خلال جدولة فترات الراحة الخاصة بك بصورةٍ مناسبة.

إقرأ أيضاً: 7 أسباب لعدم إهمال استراحة الغداء في العمل

4- وضع قيود على وقت العمل الخاص بكَ:

يساعدنا قضاء وقت الفراغ في الهوايات والمهام ذات المغزى على أن نصبح أكثر إبداعاً وتركيزاً وأكثر إنتاجيّة. فالتوازن بين العمل والحياة أمرٌ حاسمٌ لمحاربة الإرهاق. مما يتطلّب منّا وضع حدودٍ مناسبة لوقت العمل، وعدم السماح بتسرّب البريد الإلكتروني الخاص بالعمل أو الاتصالات الهاتفيّة إلى حياتنا الشخصّية.

5- تطوير روتين التأمّل:

أظهرت الدراسات أنّ أنشطةً مثل التأمّل واليوغا، يمكن أن تساعد في التقليل من مستويات التوتر والقلق، اللذان يؤديان إلى إرهاق العمل.

الخلاصة:

تقول المعادلة الرّائعة في الحياة: "كلّما ازدادت متعة الإنسان في العمل -عن طريق إضافة القيمة له- ازدادت الأفكار السّاعية إلى تحفيز إبداعه وتطويره وزيادة دخله وترقيته". "مُتعتنا أو شقاؤنا" قرارٌ بين أيدينا، ولنا حريّة الاختيار.




مقالات مرتبطة