على الجانب الآخر، اختارت ندى أن تدير وقتها بذكاء بأسلوب بومودورو: 25 دقيقة تركيز، يتبعها 5 دقائق راحة. بعد أسبوعين فقط، تضاعف إنتاجها ثلاث مرات مقارنة بخالد، رغم أن ساعات عملهما متساوية. تكشف هذه القصة عن فجوة واضحة بين من يلهث خلف الانشغال كغاية في ذاته، ومن يفهم أن الإنجاز الحقيقي هو ثمرة التركيز والأولويات. والسؤال المحوري هنا هو: هل وقتك أداة إنجاز أم مجرد دوامة استنزاف؟
الاعتقاد السلبي: "إذا بقيتُ مشغولاً طول الوقت، فأنا أحقق إنجازاً"
يربط كثيرون بين الانشغال والإنجاز، فيتصورون أنّ امتلاء جدول اليوم بالمهام والاجتماعات علامة نجاح. لكنّ الحقيقة أنّ هذا الاعتقاد لا يعدو كونه سراباً؛ فالانشغال يمنح شعوراً زائفاً بالإنتاجية، بينما الواقع يكشف أنّ الطاقة تُهدر في أعمال مشتتة لا تُضيف قيمة حقيقية.
فالموظف الذي يقضي ساعات في الرد على رسائل البريد أو التنقل بين اجتماعات غير ضرورية، قد يبدو نشطاً أمام الآخرين، لكنّه عند تقييم النتائج، يجد نفسه متأخراً عن أهدافه الأساسية.
تثبت تجارب عالمية هذه المفارقة؛ إذ كشفت دراسة أجرتها (VersionOne) في عام 2024 أنّ الفِرق ذات الأدوار المُحددة جيداً، حققت معدلات إنجاز أعلى بنسبة 30% مُقارنةً بالفرق التي لا تحدد مسؤوليات واضحة. ولم يكن الفارق في عدد الساعات، بل في وضوح الهدف وتوجيه الجهد حيث يُحدث فرقاً.
ينتشر هذا الاعتقاد الخاطئ خاصّةً في بيئات العمل التي تكافئ "الانشغال" أكثر مما تكافئ "القيمة"، والنتيجة هي: موظفون مُرهقون، ومشاريع متأخرة، وإحساس دائم بالركض دون الوصول إلى خط النهاية.
كما قال الكاتب تيم فيريس: "الانشغال هو شكل من أشكال الكسل؛ كسل التفكير والتركيز على ما هو هامٌّ حقاً".
المعتقد البديل النموذجي: "الإنجاز يقاس بالنتائج، لا بعدد الساعات"
يبدأ التحول الحقيقي عندما نُغيّر معيارنا للإنجاز؛ من ساعات طويلة مرهقة إلى نتائج ملموسة تُحدث فرقاً، فالقيمة ليست في عدد الاجتماعات التي حضرتها أو الرسائل التي أرسلتها، بل في الأثر الذي تتركه أعمالك. فعندما تُركّز على أولوياتك، وتُخطط بدقة، ستكتشف أن ساعات أقل قد تنتج قيمة أكبر بكثير.
إليك مثالاً من اليابان؛ حيث اعتمدت بعض الشركات أسلوب "العمل المركّز" (Focus Work) بتقليص الاجتماعات إلى النصف، فزادت إنتاجية الموظفين بنسبة ملحوظة وتراجعت معدلات الإرهاق. يَظهَر هنا بوضوح أنّ الإنجاز ليس نتاج وقت أطول، بل انتباه أعمق.
في صيف عام 2019، نفّذت "مايكروسوفت اليابان" (Microsoft Japan) تجربة تحدي تحقيق التوازن بين العمل والحياة «Work-Life Choice Challenge»؛ إذ منحت موظفيها جميعهم — قُرابة 2,300 موظّف — يوم الجمعة عطلةً مدفوعةَ الأجر، ودون تخفيض في الراتب.
رافق هذه التجربة تقليص الاجتماعات؛ إذ حُدّدت مدتها بـ 30 دقيقة فقط، وقُلّص عدد الحضور إلى خمسة أشخاص كحدّ أقصى.
كانت النتائج ملفتة:
- زيادة الإنتاجية بما يُقارب 40% مقارنةً بالفترة نفسها في العام السابق.
- انخفاض في استخدام الموارد: 23% أقل في استهلاك الكهرباء، وخفض الطباعة بنسبة تقارب 59%.
- أعرب 92% من الموظفين عن رضاهم بالتجربة، وأكدوا أثرها إيجابي فيهم.
يُعيد هذا المعتقد البديل رسم المعادلة التالية:
التركيز + التخطيط الذكي = إنجاز فعلي
عندما تتبنى طريقة التفكير هذه، ستتوقف عن مطاردة المهام الثانوية فقط لتشعر أنّك مشغول، وستوجه طاقتك نحو ما يخلق أثراً حقيقياً في مسارك المهني والشخصي. كما لا تتطلب هذه المعادلة موارد إضافية ولا ساعات أطول، بل فقط شجاعة إعادة تعريف ما يعنيه الإنجاز بالنسبة لك.
وكما قال رجل الأعمال بيتر دراكر: "الكفاءة هي فعل الأشياء بصورة صحيحة؛ أما الفعالية، فهي فعل الأشياء الصحيحة".

الدليل الداعم
لا يكفي التحفيز وحده ما لم تدعمه حقائق وأرقام واضحة؛ إذ تثبت الأبحاث الحديثة أنّ إدارة الوقت بذكاء تعطي نتائج ملموسة.
على سبيل المثال، أظهرت دراسة من معهد "غالوب" (Gallup) في عام 2022 أنّ الموظفين الذين يحددون أولوياتهم يومياً ويطبقون تقنيات إدارة الوقت، مثل جلسات التركيز القصيرة أو تحديد أوقات ثابتة للبريد الإلكتروني، ارتفع معدل إنجازهم بنسبة 27%، كما انخفض شعورهم بالإرهاق بنسبة 23% مقارنةً بزملائهم الذين يعيشون في دوامّة الانشغال المستمر.
كشفت دراسة أخرى في جامعة "ستانفورد" أنّ العمل لساعات طويلة بعد حد معيّن، لا يزيد الإنتاجية، بل يخفضها تخفيضاً كبيراً. كما لم ينجز الموظفون الذين تجاوزوا 55 ساعة عمل أسبوعياً أكثر من أولئك الذين عملوا 40 ساعة فقط، ما يوضّح أنّ المعيار هو جودة الانتباه وليس طول الوقت.
تدحض هذه الأرقام الوهم القديم: "كلما انشغلت أكثر، أنجزت أكثر". فالواقع مختلف تماماً؛ فالإنجاز الحقيقي هو نتاج تركيز واعٍ، وأولويات محددة، وعادات عمل صحية.
كما قال المؤلف جيم رون: "إما أن تدير يومك، أو سيديرك يومك".
القرار في النهاية بين يديك، فإمّا أن تكون ضحيةً للانشغال، أو صانعاً لإنجازات حقيقية مدعومة بالعلم والتجربة.

دليل عملي (مع أمثلة عالمية)
لا يتحقق الانتقال من الانشغال المرهق إلى الإنجاز الفعلي من خلال النوايا وحدها، بل يحتاج إلى أدوات عملية يمكن تطبيقها يومياً. وفي ما يلي، "دليل عمل" مُبسّط، أثبت نجاحه في مؤسسات عالمية، ويمكن لأي شخص أن يتبناه ليرى الفرق في نتائجه:
1. قسّم وقتك بجلسات تركيز (Pomodoro)
ابدأ بجلسات عمل قصيرة من 25 دقيقة يرافقها 5 دقائق راحة، وكرر الدورة أربع مرات ثم خذ استراحة أطول. تساعد هذه التقنية دماغك على الحفاظ على الانتباه دون احتراق ذهني.
إليك مثالاً عالمياً: شجعت شركة "أتلاسيان" (Atlassian)، المطوّرة لـ "تريللو" (Trello)، فرقها على تطبيق قاعدة بومودورو (Pomodoro) ضمن إطار مرن، مما زاد إنتاجية فرق البرمجة والتسويق، وقلّص زمن تسليم المشاريع.
2. رتّب أولوياتك باستخدام مصفوفة الهامّ/العاجل
ضع مهامك اليومية في أربعة مربعات: هامّ/عاجل – هامّ/غير عاجل – عاجل/غير هامّ – غير عاجل/غير هامّ. ستميّز بهذه الطريقة ما يستحق طاقتك فعلاً، وتتجنب الوقوع في فخ المهام الثانوية.
إليك مثالاً عالمياً: اعتمدت "جوجل" (Google) إطار الأهداف والنتائج الرئيسية (OKRs)، وهو نظام يحدد الأهداف والنتائج الرئيسة بوضوح، وعُدَّ أحد أسرار نموها السريع منذ بداياتها.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح عن الإنتاجية ستساعدك في استثمار ساعات العمل خلال الأسبوع
3. أوقف التسويف الرقمي
قد تبدو الإشعارات المستمرة والبريد الإلكتروني مهاماً بسيطة، لكنّها في الواقع تسرق تركيزك. والحل هنا أن تحدد أوقاتاً ثابتة للبريد (مثلاً ثلاث مرات يومياً)، وتوقف إشعارات الهاتف أثناء جلسات العمل المركّز.
إليك مثالاً عالمياً: أوصت تقارير مايكروسوفت عن "مستقبل العمل" بتقليص التدخلات الرقمية؛ لأنّها السبب الأول لانخفاض الإنتاجية في البيئات المكتبية الحديثة.
4. قِس إنجازك يومياً (3 إنجازات فقط)
قبل النوم، دوّن أهم ثلاثة إنجازات حقيقية حققتها خلال يوم؛ إذ تمنحك هذه العادة شعوراً بالرضا، وتساعدك على مراكمة نجاحات صغيرة تبني ثقة كبيرة على الأمد الطويل.
إليك مثالاً عالمياً: أوصت المديرة التنفيذية السابقة في "ميتا" (Meta)، "شيريل ساندبيرغ" (Sheryl Sandberg)، فرقها بهذه العادة للحفاظ على دافعية عالية وسط بيئة عمل مليئة بالتحديات.
لا يُعد هذا الدليل مجرد تقنيات متفرقة، بل فلسفة جديدة في النظر إلى العمل تمثّلت بالتركيز على ما يصنع فرقاً، ورفض الاستسلام لفوضى الانشغال الوهمي. وبتطبيق هذه الأدوات، ستكتشف أنّك قادر على مضاعفة إنجازاتك دون زيادة ساعات العمل، بل بإعادة ضبط بوصلتك نحو ما يحقق قيمة حقيقية.
كما قال الرئيس التنفيذي لـ "مايكروسوفت" (Microsoft)، ساتيا ناديلا: "أعظم إنجاز لي لم يكن في إدارة وقتي، بل في إدارة انتباهي".
في النهاية، لم يكن الفرق بين خالد وندى في عدد الساعات، بل في طريقة إدارتها. خالد عاش يومه في دوامة مهام عشوائية انتهت بلا أثر، بينما أدركت ندى أنّ الوقت رأس مالها الحقيقي، فاستثمرته بذكاء بالتركيز على الأولويات.
وهذه الفجوة ليست مجرد قصةً فردية، بل مرآة لواقع كثيرين يلهثون وراء الانشغال ظناً أنّه إنجاز، بينما يتركون فرص النجاح الحقيقي تتسرب من بين أيديهم.
العالم يتغير بسرعة، والشركات العالمية التي نجحت لم تكن الأسرع حركةً، بل الأذكى في توجيه مواردها نحو ما يخلق قيمة. ينطبق هذا الدرس عليك شخصياً؛ إذ لست بحاجة إلى ساعات أطول ولا جهد مضاعف، بل إلى وضوح هدف وقدرة على قول "لا" لما يسرق تركيزك.
اسأل نفسك كل مساء: هل قضيت يومي في انشغال فارغ، أم صنعت نتائج حقيقية؟ فقد تغيّر الإجابة على هذا السؤال مسار حياتك.
كما قال ستيفن كوفي: "المفتاح ليس في تحديد الأولويات في جدول أعمالك، بل في جدولة أولوياتك".
أضف تعليقاً