أهمية دور الزكاة في علاج مشكلة الفقر

الإسلام زَوَّدَ الثروة في المجتمع الإسلاميِّ بأُسُسِ تحقيقِ العدالة حرصاً على التكافُل الاجتماعيِّ، وذلك لكي تبقى الحياةُ الاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّةُ قادرةً على الاحتفاظ بقوة دَفْعِها، ومِن هنا أعطى الإسلام للدولة وسائلَ عديدةً، لتحقيق توزيعٍ أَعْدَلَ للدَّخْل والثروة.



وتنقسم هذه الوسائل إلى:

1. وسائل ضِمْنِيَّة، أي: يَتَضَمَّنْها النظامُ الإسلاميُّ، ومن أبرز هذه الوسائل: الزكاة، نظام المِيراث، الإنفاق بأنواعه، الكَفَّارات، والأوقاف.

2. وسائل تخضع للقرار السياسيِّ، وتُقَدَّرُ حَسَبَ حاجة المجتمع وتشمل: فَرْضَ الضرائب، وتطبيقَ نظامِ الضَّمانِ الاجتماعيِّ، وتحديد الملكيَّة الزراعيَّة والعقاريَّة، وغيرها.

وتَجْدُرُ الإشارةُ في هذا الخصوص إلى أنّ الإسلام جاء بمنهجٍ كامل للحياة، فهو يهتم بالجانب الماديِّ كما يهتم بالجانب الرُّوحيِّ، بل إنّ العقيدة الصالحة لا تنمو وتزدهر إلّا مع حياة اقتصادية طيبة، ومن هنا فإنّ الغِنَى الماديُّ دافع للسُّمُوِّ الرُّوحيِّ، حيث يقترن الحافز العباديُّ بالحافز الاقتصاديُّ، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [1]
كما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَن أحْيا أرْضًا مَيْتةً، فلَه فيها أجْرٌ) أي أجر أعمال الطاعة، بخلاف الأجر الاقتصاديِّ الذي هو ثمرة إحياء هذه الأرض.

مقتضيات المنهج الإسلامي:

مِن مُقتضيات المنهج الإسلاميِّ للحياة أنّه يقوم على العدل والمحبة والتعاون، والعدل رُكْنٌ من أركان المجتمع الأساسية، وهو ذو تأثير كبير على الأركان الأخرى.

والعدل في جميع مجالات الحياة فهو امتداد للعدل الكَوْنِيِّ، ممّا يتعيّن معه أن يكون الإنسان عادلاً في سُلوكِهِ، منسجِماً مع الكون، وإلّا كان غريباً وشاذّاً، وفى هذا يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [2]

إقرأ أيضاً: مظاهر تكريم الله والدين الإسلامي للإنسان

مشكلة الفقر في الإسلام:

عَرَضَ الإسلام لمشكلة الفقر قبل أن تَتَطَوَّر هذه المشكلة، لتصبح الشُّغْلَ الشاغلَ للدُّوَلِ المتخلفة عموماً، ومن هنا اعتبر الإسلام المالَ زينةَ الحياة الدنيا، فقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [3].

هذا وينظر الإسلام للفقر على أنّه خطر على العقيدة، وخطر على الأخلاق، وخطر على سلامة التفكير، وخطر على الأسرة، وعلى المجتمع[4]، وفَضْلاً عن ذلك فإنّه يُعتَبَر بلاءً يُستعاذُ بالله من شَرِّهِ، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوذ: (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ النَّارِ وعَذابِ النَّارِ، وفِتْنَةِ القَبْرِ وعَذابِ القَبْرِ، وشَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى وشَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ)؛ رواه البخاري.

وقد قَرَنَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الفقر في تعوُّذِهِ بالكفر، وهو شرُّ ما يُستعاذُ منه، دَلالةً على خَطَرِهِ؛ فعن أبي بكر مرفوعاً: (اللهمَّ إني أعوذُ بك من الكُفرِ والفَقرِ، اللهمَّ إني أعوذُ بك من عذابِ القبر، لا إلهَ إلَّا أنت) رواه أبو داود.

فالفقر قد يَجُرُّ إلى الكفر، لأنّه قد يَحْمِلُ على حَسَدِ الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وقد يدفع إلى التَّذَلُّل لهم وعدم الرضا بالقضاء، والسخط على كل شيء، ومن هنا فإنّ الفقر إن لم يكن كفراً، فهو جارٌّ إليه.

إقرأ أيضاً: أسباب قلّة الزرق، وأهم النصائح لجلب الرزق والبركة

هدف الإسلام من محاربة الفقر:

يستهدف الإسلام من محاربة الفقر تحرير الإنسان من براثنه، بحيث يتهيّأ له مستوى من المعيشة يليق بكرامة الإنسان، وهو الذي كرّمه الله.

وإذا ضمن الإنسان الحياة الطيبة وشعر بنعمة الله، أقبل على عبادة الله في خشوع وإحسان، ومن ثم لا ينشغل بطلب الرغيف، ولا يبتعد عن معرفة الله وحسن الصلة به.

ومن هنا فرض الله الزكاة، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، وبهذا يستطيع الفقير أن يشارك في الحياة، ويقوم بواجبه في طاعة الله، كعضو حي في المجتمع وليس كمّاً مهملاً، فإن شعور الفقير بذلك يعتبر في حد ذاته ثروة كبيرة، ومورداً بشريّاً يساهم في تقدّم مجتمعه وأمّته الإسلامية.

وإذا كان القرآن الكريم قد نص "على سبيل الحصر" على مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[5] فإنَّ هذه الآية الكريمة قد حصرت مصارف الزكاة، ولكنّها لم تحدّد مواصفات وشروط كل مصرف، وتركت ذلك للفقه ليواكب استخدام حصيلة الزكاة وتطوّر المجتمع وظروفه.

وفى تخصيص جُزء من حصيلة الزكاة للفقراء والمساكين، استهدفت الآية أن تجعل من الزكاة أداة لتحقيق مجتمع إسلامي متضامن ومتعاون بين الأغنياء والفقراء، ولعل ذلك يؤدّي بنا إلى ضرورة تحديد مفهوم الفقر في الإسلام.

إقرأ أيضاً: أقوال وحكم عن الفقر

مفهوم الفقر في الإسلام:

1. الفقر النِّسْبِيّ:

للفقر مفهوم نسبي، فالشيء الأقل يعدُّ فقيراً بالنسبة للأكثر، وفي هذا يعكس الفقر التفاوت في الدخول، والتفاوت في حد ذاته يعترف الإسلام به كسنة كونية، إذ يرجع لاختلاف قدرات الأفراد، ومقدار ما يبذلونه من جهد، وعمل صالح.

وفى هذا يقول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[6]، ويقول كذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [7] وعلى هذا الأساس يعترف الإسلام بالتفاوت بين الأفراد في أرزاقهم، وفي نمط حياتهم، أو معيشتهم، وذلك نتيجة طبيعية لاختلافهم في مقدار ما يبذلون من جهد وعمل.

وممّا يجدر ذكره في ذلك أنّ الهدف من هذا التفاوت هو التسخير والابتلاء، والتسخير هنا تسخير عمل ونظام وليس تسخير قهر وإذلال على حد تعبير الماوردي[8]، فلكل فرد مواهب وقدرات تختلف في كمها وكيفها عمّا لدى الأفراد الآخرين، وكل إنسان مميّز في صفة ما، ويمتاز عليه آخر في صفة أخرى، ومن ثم فإنّ كل فرد مسخّر للآخر في الصفة التي امتاز بها، فالعالم يعود على الجاهل بعلمه، والغني يعود على الفقير بماله، والفقير يعود على الغني بجهده وعرقه.

وعلى ذلك، فإنّ لفظ سخريًّا لا يعني العمل المسخر الذي لا أجر له، لأن الإسلام لا يعترف بالسخرة، وإنّما يعترف بالتعاون على أساس أن الجميع يحتاج بعضهم إلى بعض.

وفى هذا يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [9] ومن ذلك نصل إلى أنّ الإسلام يقضي على إجحاف النظام الطبقي، وعلى التناقض الذي يمكن أن يتحقّق بين الفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة، التي تسود المجتمع، على أساس الاعتراف بالتفاوت من أجل التعاون، ومحاربة التناقضات التي يولدها النظام الطبقي.

2. الفقر الطبقي:

وكما أنَّ للفقر مفهوماً نسبيّاً، فإنّ له مفهوماً مطلقاً، بمعنى عدم تمكّن الفرد من إشباع حاجاته، ويعني الفقر في هذا الشأن عدم إمكان الفرد تحقيق حد الكفاية.

وهنا نستطيع التساؤل عن نوعية الحاجات غير المشبعة، هل هي الحاجات الضرورية والأساسية التي تحفظ للإنسان مجرد حياته في الدنيا، وهو ما يطلق عليه: حد الكفاف؟ أم هي الحاجات المعتادة التي تضمن للإنسان العيش المناسب في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وهو ما يطلق عليه: حد الكفاف؟

إقرأ أيضاً: 5 عادات في طريقة التعامل مع المال تميِّز الغني عن الفقير

أبعاد مفهوم حد الكفاف والكفاية:

لا تقتصر حاجات الإنسان في الإسلام على الطعام والشراب واللباس والمسكن، وهي التي تمثل الحاجات الأساسية BASIC NEEDS أو حد الكفاف، بل تتعداها إلى ما تستقيم به حياته، ويصلح به أمره، ويجعله يعيش في مستوى المعيشة السائد، أي حد الكفاية، فلكل فرد في المجتمع الإسلامي حاجات ضرورية تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا لم تسعفه ظروفه الخاصة مثل المرض أو الشيخوخة أو التعطُّل عن العمل عن تحقيق المستوى المعيشي المناسب، فإنّ بيت مال المسلمين، أي خزانة الدولة، تتكفّل بذلك أيًّا كانت جنسية، أو ديانة هذا الفرد.

وفي ذلك يقول الله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، دون تحديد لديانة أو جنسية هؤلاء الفقراء أو المساكين، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم: (من ترك دينًا أو ضياعًا (أي أولادًا ضائعين لا مال لهم) فإليَّ وعليَّ)، أي أن من ترك ذرية ضعيفة فليأتني بصفتي الدولة، فأنا المسؤول عنه والكفيل به.

وتجدر الإشارة إلى أنّ حد الكفاية يختلف باختلاف ظروف المجتمعات من ناحية الزمان والمكان، بل إنّه يختلف في ذات المجتمع من فترة إلى أخرى، ويعتبر حد الكفاية بمثابة الحد الأدنى الذي تكفله الدولة للمواطن، ومن ثم فهو بمنزلة الضمان الاجتماعي لمن عجز عن أن يوفّر لنفسه بسبب خارج عن إرادته المستوى المعيشي المناسب.

ولا يقتصر القول على وجوب قيام الدولة بتوفير حد الكفاية، بل إنّ ذلك يعتبر في نظر الإسلام من أسس الدين، وفي هذا يقول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [10] كما يقول تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [11].

ومن محصلة ذلك يتضح لنا أنّ توفير حد الكفاية مطلب ضروري، وتعتبر الدولة مسؤولة عن ذلك سواء انفردت هي بعبء التمويل، أو اشتركت مع القادرين من أبناء المجتمع في ذلك.

وقد لخّص عمر ابن الخطاب ذلك بقوله: "ما من أحد إلّا وله في هذا المال حق، الرجل وحاجته، الرجل وبلاؤه (أي عمله)" ثم في قوله: "إني حريص على ألّا أدع حاجة إلّا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا آسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف" [12]

إقرأ أيضاً: أهمية الصدقة في الإسلام والسنة النبوية وأنواعها

كيف ينشأ الفقر؟

ينظر الإسلام للموارد الاقتصادية نظرة شاملة في مواجهة البشر ككل، وفي هذا تكون الموارد كافية لإشباع حاجة الإنسان، والدليل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [13].

وعلى هذا الأساس فإنّ أي قصور في استغلال الموارد يعتبر سبباً رئيسيّاُ في خلق مشكلة الفقر، كما أنّ سوء توزيع الدخل وعدم الإنفاق في سبيل الله، يعتبر سبباً ثانياً في خلق تلك المشكلة، وقد عبّر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[14]. ومؤدى ذلك أنّ سلوك الإنسان ذاته، وفساد نظامه الاقتصادي، سواء من ناحية ضعف الإنتاج أو سوء التوزيع أو هما معاً، هو السبب الذي يكمن خلف مشكلة الفقر.

وقد عالج الإسلام هذا الموقف من ناحيتينِ:

1. من ناحية الإنتاج:

فدعا إلى التنمية الاقتصادية، واعتبر تعمير الأرض من أفضل ضروب العبادة، بل إنّ الإنتاج النافع واجب لا يكمل الواجب الديني إلّا به، بشرط أن يكون هذا الناتج منسجماً مع دائرة الحلال، وهو ما يسد منافذ الشهوات والسلوكيات الضارة التي تستنفد جانباً من الموارد، وتعتبر التنمية الاقتصادية في هذا فرضاً على الفرد والدولة، ولهذا يأمرنا الله تعالى بالمشي في مناكب الأرض والانتشار فيها، أي ممارسة كافة العمليات الإنتاجية والحرفية، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [15].

2. من ناحية التوزيع:

وهنا يكفل الإسلام عن طريق الزكاة حد الكفاية، أو حد الغنى لكل فرد، بمعنى أنّه إذا عجز فرد عن أن يوفّر لنفسه المستوى المناسب للمعيشة لسبب خارج عن إرادته، فإن نفقته تكون واجبة في بيت مال المسلمين، أي توجد في خزانة الدولة، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.

إقرأ أيضاً: تعريف الاحسان في الإسلام وأنواعه

ضوابط عدالة التوزيع في الإسلام:

إذا عكس التفاوت فجوة متسعة بين الأقل دخلاً والأكثر دخلاً، فإنّ الإسلام لا يعترف بهذا النمط من توزيع الدخل، ولهذا يسلك منهجاّ يحقّق العدالة في هذا التوزيع:

1. بالنسبة لحد الكفاف:

وهنا تتجسّد عدالة التوزيع في الإسلام في المساواة المطلقة بين الأفراد، ويعني ذلك أنّه إذا كانت إمكانيات المجتمع تعطي فقط الحاجات الأساسية للأفراد، فلا يجوز أن يتفاوت فرد عن فرد في الاستفادة من هذه الإمكانيات، وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ} [16].

ويوضح ابن حزم الحاجات الأساسية هذه، والتي يجب أن تتوفّر لكل إنسان في ظل الإسلام بقوله: "وفرض على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات ولا في سائر المسلمين بهم فيقام لهم بما يلزمهم من القوت الذي لابدّ منه، ومن ملبس للصيف والشتاء مثل ذلك، ومن مسكن يكفيهم من الشمس والمطر وعيون المارة [17].

وعلى هذا الأساس إذا كانت موارد المجتمع تعجز عن توفير حد الكفاية لكل فرد، بمعنى أن يكون هناك من لا يجد الاستهلاك الضروري، وهناك من يزيد استهلاكه عن الحاجات الأساسية فإنّ الإسلام لا يقر ذلك في كل الوجوه. وفي هذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ما آمن بي من بات شبعانَ و جارُه جائعٌ إلى جنبِه و هو يعلم به) [18].

وإزاء هذا الموقف لا يقف الإسلام سلبيّاً، وإنّما يدعو إلى تعبئة الموارد، وتوزيعها بالتساوي بين الأفراد، فقد قال أبو سعيد الخدري: كنّا في سفر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( مَن كان معه فضلُ ظَهرٍ فلْيعُدْ به على مَن لا ظهرَ له ومَن كان معه فضلُ زادٍ فلْيعُدْ به على مَن لا زادَ له) [19]، وفي هذا يقول أبو ذر الغفاري في ذلك أيضاً: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه" [20].

ونتيجة لذلك فإنّه إذا شاع الغنى بمستوياته العديدة، في الوقت الذي نجد فيه ولو فرداً واحداً في المجتمع محروماً من إشباع حاجاته الأساسية، فإنّ هذا النمط من توزيع الدخول مدان من وجهة نظر الإسلام وغير معترف به من جانبه.

2. بالنسبة لحد الكفاية:

إذا توافر حد الكفاية لكل فرد، ثم وجدت إمكانية فوق ذلك بحيث تتجاوز الدخول هذا الحد، فإنّ عدالة التوزيع تقتضي أن يكون هناك تفاوت بين الأفراد، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [21].

فالمفضّل هو الذي عليه أن يعود على الأقل امتثالاً لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ)، ويقول جل شأنه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[22]، ونلاحظ في هذا أنّ الله فاوَتَ بين الأفراد في أرزاقهم، أي في الدخول التي يحصلون عليها.

ويتفق الإسلام هنا مع منطق الأشياء، فالإنسان يختلف في ملكاته ومواهبه من فرد إلى آخر، ومن العدل أن يتحقّق الاختلاف فيما يعود على كل منهم جزاء أعمالهم.

وإذا كان الهدف من هذا التفاوت هو التعاون على نحو ما رأينا فإنّ هذا التفاوت لا يكون مطلقاً، وإنّما مقيداً بحدود هذا الهدف.

ولا يعني حد الكفاية الحاجات الضرورية أو الأساسية، وإلّا أدّى ذلك كما جاء على لسان الإمام الغزالي: "إلى سقوط الحج والزكاة والكفارات المالية، وكل عبادة نيطت بالغنى من الناس، إذا أصبح الناس لا يملكون إلّا قدر حاجاتهم، وهو غاية القبح" [23].

والسؤال الذي يمكن أن يثور هنا هو: هل هناك حد أعلى للغنى يتعيّن ألّا يتجاوزه الفرد؟

الواقع أنّه ليس هناك حد للغنى، أو حجر على الإنسان في مقدار ممتلكاته، وليس ذلك مداناً، بل التقصير فيه هو محل الإدانة.

ولا يعني ذلك أنّ الغنى متلازم مع الترف، وإنّما ينشأ الترف من نمط الإنفاق بغض النظر عمّا يملك الإنسان من أموال، وإلّا كان عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف من كبار المترفين لعظم ما يملكون.

وعليه فإنّ ما يرد على الغنى من قيود هو ضرورة توفير حد الكفاية لكل فرد، والتوسّط في الإنفاق حتى بعد استيفاء هذا الحد، أي دون ترف أو تقتير وذلك جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [24]، ونتيجة ذلك فإنّ على الفرد وهو يشق طريق الغنى أن يأخذ في اعتباره النهوض بالآخرين، والعمل على رفع دخولهم كلّما ازداد دخله هو.

إقرأ أيضاً: 4 عوامل مسؤولة عن تفشي الفقر في المجتمع

دور الزكاة في علاج الفقر وتحقيق التكافل الاجتماعي:

تلك هي مشكلة الفقر الذي يحاربه الإسلام، وهي مشكلة مردها الإنسان ذاته سواء بكفرانه بالنعمة من حيث إهمال استثمار الطبيعة، وعدم استغلال الموارد التي تفضل الله بها على عباده، أو بظلمه من ناحية سوء توزيع الدخول والثروات، وقد أشرنا إلى موقف الإسلام من ذلك سواء بما وضعه للإنتاج من أحكام، وبما قرّره للتوزيع من تعاليم، فالأفراد يتساوون في حدي الكفاف والكفاية، ويتفاوتون بعد حد الكفاية، تفاوتاً يحقّق غاية التعاون فيما بينهم لحاجة كل منهم للآخر.

ومعنى ذلك أنّ هذا التفاوت وإن كان مطلوباً، إلّا أنّه ليس مطلقاً، بل منضبطاً بالقدر الذي لا يسمح بالسفه أو الترف، وفي هذا فإنّ التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع مطلوب كذلك إذا اختل هذا التوازن، وتكون مسؤولية ذلك من واجب الفرد والدولة معاً، ولهذا يقول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [25].

وجدير بالذكر أنّ نشير إلى أنّ علاج الفقر في الإسلام لا ينصرف فقط إلى الزكاة، بل يرجع أساساً إلى العمل، ونفقات الموسرين من الأقارب والصدقات المستحبة وغيرها.

ومع ذلك فإنّ أموال الزكاة توجّه في معظمها لأغراض التوازن الاجتماعي، بهدف رفع حاجة الفئات المحتاجة، ولهذا كانت الزكاة من مسؤولية الدولة في جبايتها وإنفاقها، وفي ذلك يتّفق معظم رجال الفكر الإسلامي [26].

فضمان حد الكفاية لكل فقير أو مسكين، وإنفاق الزكاة في مصارفها الشرعية، هو من مهام الدولة التي لا تستند إلى جهود فردية تعجز عن القيام بها.

إنّ علاج الفقر من جانب الزكاة يسهم في علاج الجهل والمرض، فمشكلة الجهل كثيراً ما يكون سببها الفقر، حيث لا يستطيع الفقير أن يتعلم ولا أن يعلّم أولاده، لهذا كان هذا الهدف من الحاجات الأساسية التي يجب أن تتوفّر للفقير من حصيلة الزكاة.

وترتبط مشكلة المرض كذلك بمشكلة الفقر على أساس أنّه إذا ارتفع مستوى المعيشة، وتوافر لدى جمهور الأفراد حسن التغذية، والمسكن الصحي، والقدرة على العلاج فإنّ المرض ينحصر مداه في أضيق نطاق.

ونتيجة لذلك، فإن القضاء على الفقر يقضي على الجهل والمرض، وفضلاً عن هذا فإن مشكلة عزوف كثير من الشباب عن الزواج في عصرنا الحاضر، بسبب عجزهم عن تحمل أعبائه المالية سواء من ناحية الصداق أو التأثيث... إلخ.

هذه المشكلة تجد حلّها كذلك في حصيلة الزكاة، ففيها متّسع لها من خلال تقديم إعانة لمن يريد أن يحفظ دينه، فالزواج من تمام حد الكفاية الذي سلفت الإشارة إليه، كما أنّ تلقي العلم ونفقات الكتب تعتبر من تمام هذا الحد.

إقرأ أيضاً: 10 طرق بسيطة للحدِّ من هدر الطعام

لماذا الحق المعلوم للسائل والمحروم؟

من المعلوم أنّ الإسلام أقر الملكية الخاصة، وبنى كثيراً من أحكامه عليها، وفي إقرار الملكية الخاصة يقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[27]، ويقول: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [28]، ومع ذلك فإنّ هذه الملكية ليست مطلقة أو أصلية يتصرّف فيها المالك على هواه، وإنّما هي ملكية ظاهرية، لأنّها خاضعة لشروط المالك الأصلي، وهو الله سبحانه وتعالى أمّا ما يفيد الملكية الأصلية التي لله فهو قوله تعالى: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ} [29].

وقوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ}[30]، وقد اقتضت حكمة الله أن يستحلف الإنسان في الأرض، أي أن يكون خليفة له في التصرّف في هذه الملكية، حثًّا على الإنفاق في سبيل الله، واستجابة لقوله تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [31]، وإذا كان المال مملوكاً ملكية مطلقة لله تعالى، فإنّه قد أوجده لجميع عباده القادر منهم والعاجز على حد سواء، ولهذا يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [32].

ويعني ذلك أنّ القادرين من عباد الله إنّما يعملون في أموالهم، وأموال العاجزين منهم عن العمل، ولهذا فإنَّ من حق هؤلاء العجزة أن يحصلوا على جزء ممّا أنتجه القادرون، لأنّهم يشتركون معهم فيما يعملون فيه، ويفسّر ذلك قول الحق تبارك وتعالى في الآية الأخيرة أنّ للسائلينَ والمحرومين حقًّا في أموال القادرين، وليس تفضلاً أو مِنَّة منهم عليهم.

إنّ الدافع إلى الزكاة هو أمر الله [33]، فهو ليس شيئاً عارضاً، أو نتيجة ثورة للفقراء مثلاً، كما هو في الفرائض الوضعية. ولم يكتفِ القرآن الكريم بالأمر بالزكاة وإطعام المساكين، بل أوجب الحضّ على هذا الإطعام، كما في قوله تعالى في شأن صاحب المال، والسلطان المستحق لعذاب الله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [34].

وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الرَّجلَ ليتصدَّقُ بالصَّدقةِ منَ الكسبِ الطَّيِّبِ ولا يقبلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ فيتلقَّاها الرَّحمنُ تباركَ وتعالى بيدِهِ فيربِّيها كما يربِّي أحدُكم فلوَّهُ أو وصيفَهُ أو فصيلَهُ)) [35].

إنَّ الزكاة ليست مجرد إجراء مسكن ووقتي بالنسبة للفقير، وإنّما هي معونة دورية منتظمة، فإذا هل العام الجديد، أو حلَّ الحول، حل الخير لهؤلاء الفقراء والمساكين، وكلّما جاء الحصاد وافاهم نصيبهم من زكاة الزروع والثمار.

ومن أدب الإسلام أنّه لا يكلّف الفقير أن يأتي للغني ليتسلّم منه نصيبه من الزكاة، وإنّما يتعيّن أن يصل هذا الحق إلى الفقير في منزله، إنّ الأصل أنّ الزكاة توزّع حيث جمعت، وما يبقى بعد ذلك يرسل إلى بيت المال الرئيسي، لينفق منه على المراكز القريبة من مكان تحصيلها، والتي تحتاج إلى معونة، ولهذا فإنّ الطابع المحلّي أو الإقليمي للزكاة هو الأصل، وهو ما يجب أن يكون.

وإذا كان التكافل الاجتماعي يعني أنّ للفرد في المجتمع حقوقاً يجب معها على القوامين على هذا المجتمع أن يعطوا كل ذي حق حقه، وأن يدفعوا الضرر عن الضعفاء، وأن يسدوا خلل العاجزين، وإلّا تآكلت لبنات المجتمع وانهار بنيانه. إذا كان هذا هو مفهوم التكافُل الاجتماعي، فإنّ الزكاة تعتبر من هذه الناحية أول مؤسسة للتكافل الاجتماعي في التاريخ.

ولعل أبلغ تعبير عن ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بيْنَ أَصَابِعِهِ)، وقوله عليه السلام: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى).

إقرأ أيضاً: عمل الخير وآثاره الإيجابية على الفرد والمجتمع

الزكاة والضريبة:

الزكاة أمر من الله تعالى، فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، ومن ثم فهي عبادة خاصة بالمسلمين تتمثّل في صورة تصرف مالي، وتتّسم بالدوام والثبات والصواب حيث لا تتبدّل أحكام الله بتبدّل الظروف زماناً ومكاناً، وهي لهذا لا تستخدم لأهداف موقوتة، وإنّما تتحقّق بها أهداف ثابتة روحية ومادية [36]. 

أمّا الضريبة وهي مبلغ نقدي تجبيه الدولة جبراً من الأفراد الطبيعيين أو المعنويين دون مقابل خاص بهم، فنظام مالي تصيب فيه الدولة وتخطئ، وكثيراً ما تخطئ، لأنّه نظام من عمل البشر تتغيّر أحكامه بتغيّر الظروف زماناً ومكاناً، وتتحقّق به أصلاً أهداف مادية بحتة.

إنّ الحكم في كل ما يتّصل بالزكاة يرجع إلى رب العباد بحكمته، بينما يرجع البشر الحكم في كل ما يتّصل بالضريبة إلى مصلحتهم، ويأتي هذا التقدير عن فكرهم المتطوّر بحيث إنّ ما يرونه اليوم عدلاً قد يحكمون عليه غداً بالجور والظلم.

ومن هنا فإنّ الزكاة تتّصل بالعقيدة سواء عرف حكم الله فيها، أو لم يعرف، وتلك هي الطاعة بعد الإيمان، وهو أمر يختلف كل الاختلاف عمّا في علم الضريبة.

وإذا كان المولى سبحانه وتعالى هو المشرع للزكاة، فإنّنا مسؤولون عن تنظيم التطبيق الحسن بعد فهمنا للتشريع الفهم الحسن، وهو الفهم الذي يدعونا لاصطفاء ما يصلح بنيان الزكاة من بين الأحكام التي ذهب إليها الأئمة على اختلاف ظاهري فيما بينهم، وقد يتم الاصطفاء بصورة قد يرى معها مجتهدو الغد اصطفاء مغايراً وفق مصالحهم، ولا بأس من ذلك، فمرونة الأحكام الشرعية والاختلاف الظاهري بين الأئمة، إنّما هو دليل على عمومية الأحكام الأصلية للدين الرحيم، فجميعهم قد هدي إلى الصراط المستقيم، وما نهلوا إلّا من نفس المنهل الواحد.

إقرأ أيضاً: دوام الحال من المحال

والسؤال الذي يمكن أن يطرح الآن هو: هل تغني الزكاة عن الضرائب؟

الواقع أنّ الفرائض الإسلامية لا تقتصر على الزكاة، بل تتعدّاها إلى الجزية والخراج والعشور، ويعني ذلك أنّ الزكاة ليست بمفردها كمورد مالي، وإنّما يمكن أن يضاف إليها موارد أخرى إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك.

ولعل آية البر تؤيّد هذا النظر، فالإنفاق في سبيل الله أي في سبيل صالح المجتمع، يفيد أن ثمة حقّاً في الأموال بخلاف الزكاة، بدليل الجمع في تلك الآية بين الإنفاق في سبيل الله، والزكاة، وذلك في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [37]، وعلى هذا الأساس فإنّه يجوز فرض الضرائب إلى جانب الزكاة، إذا رأى أنّ صالح المجتمع عسكريّاً أو اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً يتطلّب ذلك، وكل ذلك مشروط بألا يؤخذ المال إلّا بالحق، وذلك كما قال عمر بن الخطاب في خطبة له، إنّه لا يجد "هذا المال (المال العام) يصلحه إلّا خلال ثلاث: أن يؤخذ بالحق، ويعطى في الحق، ويمنع من الباطل" [38].

إقرأ أيضاً: كيف يمكن لثلاثين يوم من عمل الخير أن تجعلك شخصاً أفضل؟

ومفاد ذلك أنّه إذا كان للزكاة أن تغني عن الضرائب، فإنّ الضرائب لا تغني عن الزكاة، لأنّ الأخيرة فريضة تعبدية أمر الله بها، ولا يكتمل الدين إلّا بتطبيقها، ولأنّه قد حدّدت مصارفها على سبيل الحصر، فإنّه يمكن فرض ضرائب وضعية إلى جانبها، إشباعاً لحاجات اجتماعية أخرى لم تتضمّنها مصارف الزكاة.

تلك هي بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في الزكاة، وما أكثر الأسرار التي تكمن في فقه الزكاة، يتذوّقها المؤمن الصالح فتنير له الطريق.

إنّ هذه الإشارة المتواضعة لبعض الجوانب للزكاة، والتي زادها تواضعاً ضيق المجال، وضيق المكتبات الشرعية، تشير إلى أنّ ما توصّل له العلم الحديث، ونحن نلهث خلفه، لا يعدو أن يكون إحاطة محدودة لما يمكن أن يجود به فقه الزكاة.

ولا يقتصر الأمر على الزكاة، بل ينسحب إلى غيرها من المجالات، الأمر الذي يقتضي إثراء البحث فيها جميعاً، بدءاً برجال الفقه الإسلامي، وانتهاء بأصحاب التخصّصات الاقتصادية والمالية ممّن لديهم ثقافة إسلامية مناسبة.

ولعل ذلك يساعد على التفهّم الصحيح للإسلام، وفتح المنافذ أمام أعداء الإسلام للوقوف على صيغة هذا الدين الحنيف.

 

المراجع: 

  • [1] سورة القصص الآية 77.
  • [2] سورة الرحمن الآية 7 – 9.
  • [3] سورة الكهف، الآية 46.
  • [4] انظر في تفصيل ذلك: دكتور يوسف القرضاوي، "دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية"؛ الاقتصاد الإسلامي، بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبدالعزيز. المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي 1400 – 1980، صفحة 234 وما بعدها.
  • [5] سورة التوبة: الآية 60.
  • [6] سورة الزخرف: الآية 32.
  • [7] سورة الأنعام: الآية 165.
  • [8] انظر الماوردي: "أدب الدنيا والدين"، المطبعة الأميرية 1917 – 102.
  • [9] سورة الحجرات، الآية 13.
  • [10] سورة البقرة الآية 177.
  • [11] سورة الماعون الآية 1 – 3.
  • [12] انظر: ابن الجوزي: "تاريخ عمر بن الخطاب"، المطبعة التجارية الكبرى، بدون تاريخ، صفحة 101 وما بعدها، وقد اقتبسنا ذلك من مقال الدكتور/ محمد شوقي الفنجري عن نظرية التوزيع في الإسلام، مصر المعاصرة، المرجع السابق، صفحة 88 – 89.
  • [13] سورة إبراهيم، الآية 32 – 34.
  • [14] سورة يس: الآية 47.
  • [15] سورة الملك: الآية 15.
  • [16] سورة طه، الآية 118، 119.
  • [17] انظر: ابن حزم (علي بن أحمد) "المحلى"، ج6 صفحة 156.
  • [18] انظر: السيوطي (جلال الدين بن عبدالرحمن) "الجامع الصغير"، المطبعة اليمنية ج2، صفحة 120.
  • [19] الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: ابن حبان، المصدر: صحيح ابن حبان الجزء أو الصفحة: 5419.
  • [20] انظر: عبدالحميد جودة السحار، "أبو ذر الغفاري"، مطبوعات مكتبة مصر، الطبعة الثانية.
  • [21] سورة النحل، الآية 71.
  • [22] سورة الزخرف: الآية 32.
  • [23] انظر: الإمام الغزالي، "إحياء علوم الدين"، مطبعة صبيح 1958 ص 2 صفحة 97.
  • [24] سورة الفرقان، الآية 67.
  • [25] سورة الإسراء: الآية 16.
  • [26] انظر: أبو عبيد (القاسم بن سلام) "الأموال"، مكتبة الكليات الأزهرية الطبعة الأولى، 1967.
  • [27] سورة التغابن الآية 15.
  • [28] سورة البقرة الآية 274.
  • [29] سورة طه، الآية 5, 6.
  • [30] سورة الأنعام، الآية 12.
  • [31] سورة النور الآية 33.
  • [32] سورة المعارج، الآية 24 – 25.
  • [33] من بين ستة آلاف آية في القرآن الكريم، اختصت اثنتان وثمانون منها بالزكاة، وذلك بخلاف أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • [34] سورة الحاقة: الآية 33 – 34.
  • [35] انظر: "مجمع الزوائد" ج3، صفحة 112.
  • [36] انظر: في تفصيل ذلك البحث القيم للدكتور/ محمد سعيد عبدالسلام بعنوان: "دور الفكر المالي والمحاسبي في تطبيق الزكاة"، الاقتصاد الإسلامي، بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، المرجع السابق، صفحة 330 وما بعدها.
  • [37] سورة البقرة: الآية 177.
  • [38] انظر: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، "كتاب الخراج"، المطبعة السلفية صفحة 117. "

 

المصدر: يوم جديد كنانه أونلاين




مقالات مرتبطة