أهمية السنوات الخمس الأولى في بناء شخصية الطفل

هل سبق أن نظرت بعين التأمل نحو طفل في عامه الخامس؟ وهل تمعَّنت في كم التغيرات التي طرأت عليه من لحظة الولادة حتى اللحظة الراهنة؟ لقد غادر هذا المخلوق - الذي قد نستهين بقدراته - رحم أمه المائي وانتقل إلى عالم آخر جاف ومختلف كلياً، وبدأ يعتمد على نفسه في التنفس وتناول الطعام.



لقد أضحت له قدرة على الحركة ورؤية الأشياء وسماع أصوات أبعد من ضربات القلب وحركات الأمعاء، ثم بدأ رحلة اكتساب المهارات والتكيف مع شكل الحياة الإنسانية، فبدأ يتعلم الجلوس ثم الوقوف ثم المشي، وبزغت أسنانه ولان لسانه وبدأ يصدر الأصوات التي استحالت كلاماً ولغة، ثم بدأ بتكوين العلاقات الاجتماعية الأسرية والذهاب إلى الحضانة؛ حيث اكتسب أفكاره ومبادئه.

أي تغيير جذري أعظم من التحول من كائن طفيلي إلى كائن مستقل بذاته؟ وإذا ما كانت هذه التغيرات خارجية مرئية للعيان فماذا حدث من الداخل يا ترى على صعيد المشاعر والأفكار؟ وكيف تؤثر كل عمليات التكيف والتأقلم هذه في بناء شخصيته؟ هذا المقال مكتوب خصيصاً للحديث عن أهمية السنوات الخمس الأولى في بناء شخصية الطفل؛ لذا نرجو أن يحمل لكم الفائدة التي نرجوها.

أهمية السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل:

مع تطور العلم والأبحاث يُرجِع المتخصصون النفسيون العديد من المشكلات والاضطرابات التي يصاب بها الإنسان إلى أحداث وأفكار ومعتقدات تبناها في مرحلة طفولته المبكرة وتحديداً دون سن الخامسة، وإنَّه لمن اللافت أن تكون أهمية السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل هامة إلى هذا الحد حتى ينسحب تأثيرها فيما يليها من سنوات حياته.

لقد تطرقنا في المقدمة إلى كم التغيرات البدنية والجسمانية التي تطرأ على جسد الإنسان ومهاراته في التأقلم والتكيف في هذه المرحلة والتي تترافق بالتأكيد مع تغيرات سلوكية وعاطفية واجتماعية تنعكس على مهاراته في التواصل والتفكير والتعبير عن ذاته وعن مشاعره.

تتشابك مسارات التغيير التي يمر بها الإنسان فيؤثر كل منها بالآخر ويتأثر به، ويشير المتخصصون إلى أنَّ أهمية السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل تتبدى في انعكاس تأثير العلاقات والتجارب التي يمر بها في تشكيل الروابط العصبية في الدماغ، فكلما كانت التجارب والعلاقات أكثر، تشكلت ملايين الروابط العصبية الدماغية، فالأطفال في سنواتهم الخمس الأولى أسرع في التطور الدماغي من أيَّة مرحلة عمرية لاحقة، وهذا يجعل هذه السنوات أساسية في عمليات التعلم واكتساب السلوك وبناء الصحة الجسدية والنفسية.

كيف تنمو أدمغة الأطفال في السنوات الأولى الخمس؟

تؤدي عوامل عدة دور المؤثر في بناء دماغ الطفل، ولعلَّ أهمها البيئة والعوامل الوراثية؛ إذ يولد الأطفال صفحات بيضاء كما تقول الأمثال الشعبية جاهزين لبدء عملية التعلم والتأقلم، وتنمو أدمغتهم في السنوات الخمس الأولى بمعدل 90% من باقي سنوات حياتهم، وينعكس هذا النمو الدماغي على تطور مسارات السمع والرؤية لديهم، ويليها تطور المهارات اللغوية المبكرة ووظائف الإدراك العليا.

إنَّ المخزون اللغوي للطفل من المفردات في الرابعة من عمره يعادل تقريباً أربعة أضعافه عندما كان في عمر السنتين، الأمر الذي ينعكس على تعقيدات أكبر في الروابط الدماغية في كل عملية نمو تترجم على شكل استعداد لإنشاء سلوكات تعليمية إيجابية في عمر مبكر.

تكون عملية نمو الدماغ حساسة جداً، فكيفية النمو تتأثر تأثراً مفرطاً بنوع التجارب والمشاعر التي يختبرها الطفل في السنوات الخمس الأولى، فكلما كانت تجارب الطفل وبيئته وتفاعلاته مع محيطه إيجابية نما الدماغ نمواً أفضل وازداد عدد الروابط فيه، وكلما كانت البيئة والمحيط عنيفين وقاسيين تحطمت هذه الروابط أو امتنعت عن الازدياد.

قد لا يصدق بعض الناس أنَّ الأحضان والقبل والألعاب والوجبات المغذية تساهم في تعزيز بناء دماغ الطفل، وأنَّ الضرب والصراخ والإهانة والإهمال يعرقلون نمو الدماغ ويحجمونه، فتثبت الدراسات أنَّ ربع ساعة من اللعب مع الطفل كفيلة لخلق ملايين الوصلات الدماغية لديه، وأنَّ 75% من كل وجبة يتناولها الطفل تتجه إلى دماغه، وأنَّه في سن الثلاث سنوات يتبنى ما يزيد عن 80% من دماغ الطفل.

شاهد بالفيديو: 5 أشياء لن ينساها طفلك عنك أبداً

ما هو دور العلاقات والتواصل في نمو الطفل؟

في استكمال الحديث عن أهمية السنوات الخمس الأولى في بناء شخصية الطفل، نتحدَّث الآن عن دور العلاقات في عملية البناء هذه، فالإنسان كائن اجتماعي بالفطرة، وإنَّ لطبيعة العلاقات ونوعها تأثيراً بالغاً في شخصيته.

إنَّ أول نصيحة خاطئة ومدمرة قد توجَّه لامرأة ولدت حديثاً هي الامتناع عن الاستجابة لبكاء طفلها دائماً؛ إذ تخبرها السيدات الأعرق منها في دور الأمومة أنَّ التأكد من إشباع الطفل ونظافته وصحته ونومه هم أول ما يجب أن تفكر به إذا ما سمعت صوت بكائه، فإذا ما كانت هذه الحاجات ملباة يجب أن تتجاهل صوت بكائه، وكأنَّ هذه المخلوقات الصغيرة معدومة الشعور وليس لديها أيَّة متطلبات نفسية، وتحيا بتلبية حاجاتها الفيزيولوجية فحسب.

بتكرار هذه المواقف التي يكبر الطفل عليها يتعلم أنَّ حزنه وألمه يعنيه وحده فقط، وألا وجود للدور العائلي الحاني والمطبطب والمخفف عنه، فمن خلال العلاقات يتعلم الأطفال ماذا يحدث عندما يبكون أو يضحكون، ويدركون فيما إذا كانوا محبوبين أم لا، ومن خلالها أيضاً يسبرون كون العالم آمناً، ويعرفون من يحبون ومن لا يحبون.

من خلال العلاقات الأسرية والعائلية والاجتماعية يتعلم الأطفال مهارات التواصل والتعامل والسلوك سواء كانوا أطرافاً في هذه العلاقات أم مجرد مراقبين خارجيين لما يحدث فيها.

كيف يتعلم الأطفال من اللعب في السنوات الخمس الأولى؟

إنَّ أهمية السنوات الخمس الأولى في بناء شخصية الطفل تظهر أيضاً عن طريق المهارات التي يتعلمها الأطفال من خلال اللعب، فاللعب بالنسبة إلى الطفل ليس مجرد وسيلة للتسلية والمتعة فقط؛ إنَّما هو فرصة لتطوير قدراته المعرفية وقوَّته البدنية ومشاعره العاطفية وتوسيع خياله؛ إذ يسمح اللعب للطفل بالتجربة والاكتشاف والمراقبة، ومن ثمَّ إدراك العالم المحيط به واكتساب مهارات جديدة تزيد من ثقته بنفسه وترفع من قدرته على التكيف والتأقلم وتزيد من مرونته في مواجهة التحديات في المستقبل.

لا بد من التنويه إلى الدور الإيجابي الكبير الذي يؤديه الآباء والمربون والمعلمون في المشاركة في اللعب مع الأطفال وتشجيعهم وتقديم الدعم لهم، مع ضرورة التفريق بين تقديم المساعدة وبين السماح للطفل باختبار شعور الوقوع في المأزق وإيجاد حلول له، وبين الدعم وارتكاب الأخطاء أيضاً؛ وذلك لأنَّ هذه الطرائق هي وسيلة الطفل للتعلم وفهم كيفية عمل العالم واستيعاب أنظمته وقوانينه.

من المهارات الهامة التي يكتسبها الطفل من خلال اللعب هي مهارة المشاركة ومهارة تكوين العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، ومن خلال اللعب مع أطفال آخرين يتعلم الطفل مهارة الإيمان بالجماعة والعمل بروح الفريق والانضباط والنظام والتعاون واحترام الآخرين، كما يتعلم مهارات المشاركة والصبر وانتظار الدور وغيرها من المهارات التي يجب التحلي بها لإتمام اللعبة مع الآخر.

غالباً ما يعاني الأطفال الذين لم يمارسوا اللعب مع الآخرين الأنانيةَ والعدوانيةَ وكره الآخرين، ويمكن حل مشكلات وصعوبات إنشاء علاقات جديدة متوازنة باستخدام اللعب، كما يضاف إلى رصيد الطفل مهارة حل المشكلات الخاصة به إذا ما اعتاد اللعب مع أطفال آخرين.

إقرأ أيضاً: التعامل الصحيح مع الطفل في مراحل العمر المختلفة

تأثير الضغوطات النفسية والحرمان في الطفل:

إنَّ السلوكات الإيجابية التي يمارسها الطفل أو تُمارس بحقه في السنوات الخمس الأولى من حياته تؤثر تأثيراً إيجابياً كما أسلفنا في بناء شخصيته، ومن هنا برزت أهمية السنوات الخمس الأولى في بناء شخصيته، ولكن من جهة أخرى فإنَّ الضغوطات النفسية والممارسات السلبية تؤثر تأثيراً سلبياً في هذه الشخصية وتعرقل نموها بشكل سليم وقويم.

يشير المتخصصون إلى أنَّ العلاقات الإيجابية والداعمة بين الوالدين والأطفال من شأنها أن توفر لهم درعاً قوياً يحميهم من الضغوطات والإجهاد، كما أنَّ العلاقة الجيدة بين الآباء والأبناء تثبط التنشيط المفرط لهرمون التوتر، وتحمي الأبناء من آثاره الضارة بشكل فعال، وتساعدهم على تطوير مهاراتهم الخاصة بالتعامل مع ضغوطات الحياة المبكرة والحد من تأثيراتها المدمرة في سعادتهم.

أما الاستجابات الناتجة عن الإجهاد مثل تخويف الطفل وتهديده فهي تؤثر سلباً في بناء شخصيته وتسبب إعاقة في النمو، وتختلف الاستجابات السامة من جسم طفل إلى آخر، وهي عموماً تحرِّض إفراز هرمونات التوتر في الجسم - وأهمها الكورتيزول والأدرينالين - التي تسبب التفاعل الالتهابي وتسارع دقات القلب وارتفاع الضغط الشرياني ومنسوب السكر في الدم.

إنَّ هذا المجموع الهرموني يسمى عادة "الكر أو الفر" وهو يُفرز من قِبل الجسم في حالات التعرض للخطر الحقيقي، ولكنَّ إفرازه بشكل متكرر ومستمر يخرب عدداً من الوظائف البيولوجية الهامة؛ لذا فإنَّه من الضروري تعليم الطفل أصول التعامل مع الضغوطات والشدائد بوصفها جزءاً من بنائه الصحي السليم.

في حال استطالت مدة الإجهاد الشديد لفترة طويلة ولم يجد الطفل حماية من شخص بالغ فإنَّ هذا من الممكن أن يسبب تعلمه الخوف بسرعة وتحوله إلى وضع الدفاع على أقل مستوى من الاستفزاز واتخاذه رد فعل دفاعي قوي حتى لو لم تقتضِ الحاجة ذلك، الأمر الذي يؤثر سلباً فيه في مواجهة مواقف الحياة ويخلق لديه حاجة إلى حلول أكثر شدة في المراحل اللاحقة.

إقرأ أيضاً: أنواع استجابات التوتر لدى الفئات العمرية المختلفة وعلاماتها

في الختام:

إنَّ أهمية السنوات الخمس الأولى في بناء شخصية الطفل تظهر في كونها سنوات تأسيسية لكل نواحي البناء الإنساني العقلية منها والجسدية والأخلاقية والعاطفية والنفسية؛ لذا من الضروري أن يولي الآباء أبناءهم في هذه السنوات الكثير من الاهتمام والحب ويتركوا لهم في الوقت ذاته متسعاً لخوض تجارب الحياة واكتشافها من أجل صقل شخصياتهم ومهاراتهم.




مقالات مرتبطة