أمراض الجهاز الهضمي وكيفية تحصينه منها

قد يكون أحدنا متمتعاً بقدرٍ كبيرٍ من القوة تمكِّنه من الصمود أمام الكثير من الأعمال الجليلة، ولكنَّه يكون عاجزاً عن الصمود أمام آفةٍ صحيةٍ عاديةٍ قابلةٍ للعلاج والشفاء مثل: آفة الالتهاب المعوي؛ وقد يتعايش الشخص مع هذه الآفة لسنوات، ولكنَّه في النهاية قد يصبح عاجزاً تماماً عن المُكابرة، ويضطر إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ قد تكون طارئةً أحياناً، وإن لم يُجرِها قد تكون حياته مُهددةً بما لا يُحمَد عُقباه.



لسوء الحظ، هناك ملايينٌ من الأشخاص على هذه الشاكلة (ذكوراً وإناثاً). وهؤلاء الأشخاص على استعداد لتحمَّل الألم واضطراب الهضم الظاهر بصورة إقياءٍ أو إسهالٍ وحرقةٍ لاهبة وآلامٍ مبرحة إلى أن يطفح الكيل.

هل يكون الجهاز الهضمي -مهما كان قوياً- عُرضةً إلى الخلل؟

لا يُنكَر بأنَّ الجهاز الهضمي جهازٌ قادر على التحمل والاستمرار في أداء عملية الهضم من أولها إلى آخرها. ولكن هناك حقيقةٌ أخرى موازية، وهي أنَّه من المحتمل حدوث خللٍ ما على الطريق بين الفم والشرج؛ لذلك أعدِل عن ترديد القول: "هذا شيءٌ بسيط لا يصح التوقُّف عنده"، واستبدل به عادة الإصغاء المُرهف إلى ما تقوله لك معدتك وأمعاؤك وسائر أعضائك الهضمية، وكن على استعدادٍ دائماً لتلبية نداءات الاستغاثة.

ومن الأمراض التي قد تصيب جهاز الهضم، نذكر:

1. الحرقة الهضمية (Heartburn):

المريء هو النفق العضلي الذي يسلكه الطعام والشراب إلى المعدة، ومع أنَّه من المفروض أن يكون هذا طريقاً في اتجاهٍ واحدٍ (من الفم إلى المعدة)، إلَّا أنَّ الأحماض الهضمية التي تفرزها المعدة قد تصعدُ عبر المريء إلى الفم، فتحسُّ بالالتهاب الحمضي أحياناً.

2. الحرقة العابرة والحرقة الدائمة:

الحرقة الهضمية التي قد تصيب الإنسان بين حينٍ وآخر حالةٌ بسيطة وعابرة، وقد تنجم عن أكل قطعةٍ من الشوكولاته مثلاً، وفي هذه الحالة يسبِّب المأكول ارتخاء المصرة المريئية -البوابة الحاجبة بين المعدة والمريء- ممَّا يُسهِّل عودة بعض الطعام المهضوم إلى أعلى، أو قد تحدث هذه الحرقة بسبب الاستلقاء على الفراش فور الانتهاء من تناول وجبةٍ دسمة. ولكن الحرقة الهضمية المُزمنة شيءٌ آخر؛ لأنَّها قد تكون علامةً على الإصابة بمرض "الارتجاع المعدي المريئي" (GERD)، حيث أنَّ هذا المرض يحدث كنتيجةٍ لتوقُّف المَصرة عن أداء وظيفتها. وإذا استمرت الحرقة الهضمية مُلازمةً للشخص بلا انقطاع، فإنها يُمكن أن تُسبِّب انسداداً في المريء، أو حتَّى تبدلاً خبيثاً.

أطفىء هذه النار:

إنَّ لُقمةً من طعامٍ دَسمٍ تُسيءُ إلى جهازك الهضمي بمقدار إساءتها إلى قلبك. إذ أنَّ الدّسم يُسببُ ارتخاء المَصرَّة أو فؤاد المعدة، وإنَّ هذا الارتخاء يَفتح السبيل أمام أحماض المعدة؛ لذا احذف من قائمة طعامك الدسم المُشبع، وأقبل على الحليب الخالي الدسم، وقلِّل من صفار البيض عند صُنعك لأقراصِ العجّة.

تَحرَّك ونَشِّط جذعك:

قام العُلماء النرويجيون باستعراض أحوال أكثر من 74 ألف شخصٍ راشد، فاكتشفوا من ذلك أنَّ الأشخاص الذينَّ يُمارسون الرياضة بانتظام هم أقلُ الأشخاص إصابةً بمرض (الجَزرِ الهضمي المريئي)، وأنَّ نصف ساعةٍ من الرياضة يومياً تُخفِّف الإصابة بهذه الحالة بنسبة 50%، بالقياس مع الأشخاص الخاملين. وفي تفسير ذلك يتكهَّن العلماء قائلين بأنَّهُ نظراً إلى القوة التي يكتسبُها الحجاب الحاجز بفعل الرياضة، فإنَّه يُحدِث ضَغطاً على مَصرة المريء (esophageal sphincter)، ويَمنع تسرُّب الأحماض الهضمية عوداً إلى المري. ومع أنَّ أنواع الرياضة جميعاً تُسبِّب تقوية الحجاب الحاجز، إلَّا أنَّ رياضة السباحة هي خيرُ ما يُحقِّق ذلك.

إقرأ أيضاً: 10 أطعمة تتسبّب في حرقة المعدة تجنب تناولها في العيد

3. القُروح الهضمية (Ulcers):

لمَّا كانت أحماض المعدة تُسبِّب هذا المِقدار من التلف للمريء، فإنَّ الإنسان قد يتساءل: إذن كيف تَسلم المعدة من ذلك التلف؟ وكيف لا تحفر الأحماض ثقوباً في المعدة السليمة؟

الجواب عن ذلك هو: إنَّ أحد أسباب وقاية المعدة هو تلك الطبقة الواقية لجدارها، والمؤلَّفة من الطبقة والسوائل المُخاطية. ولكنَّ هذا الجدار الواقي يُمكن اختراقُهُ عن طريق احتساء مَقادير هائلةٍ من القهوة مثلاً، أو المُبالغة في تناول الأسبرين وأمثاله، أو وقوع الإنسان فريسة "الجرثوم البوابي" (H.Pylori). واختراق بِطانة المعدة بهذه الصورة، يُمكن أن يَمنح الأحماض الهضمية سَكناً في هذه المنطقة الحساسة، ويَجعلها قادرةً على إحداث ثُقوبٍ في جدار المعدة تتراوح أقطارها بين نصف وواحد سنتيمتر. وعندها يُشخَّص المَريض بأنَّه مُصابٌ بقرحة (Ulcer).

الوقاية والعلاج:

إنَّ نسبةً عاليةً من الأشخاص -قد تصل إلى نسبة 90% ممن لديهم "جرثوم بوابي" (H.Pylori)- يَجهلون إصابتهم به، بالرغم من أنَّ هذا الجُرثوم يكون دائباً على الدوام على إحداث أذىً خطيرٍ في المعدة. وعندما قام الأطباء برصدٍ شاملٍ لأحوالِ خمسةِ آلافِ شخصٍ من هؤلاء المَرضى للتأكُّد من إصابتهم بهذا الجرثوم، ومن ثُمَّ مُعالجةِ الأشخاص الذين كانت نتائج اختباراتهم إيجابية؛ فإنَّ نِسَبَ إصابة هؤلاء بقروحٍ هضميةٍ بعد ذلك تناقصت بمقدار الثُلثين بعد عامين. إنَّ المُعالجة المُبكِّرة يُمكن أن تحول دون الإصابة بالقرحة؛ أمَّا إذا أخذت القرحة تنزف، فإنَّ 10% من المُصابين بهذه الحالة المُتقدِّمة يُصبحون مُعرَّضين إلى أفدَح الأخطار.

دور فيتامين C:

إنَّ الطريقة المُثلى لقَهرِ الجُرثوم البوابي: أخذُ مزيدٍ من فيتامين C، ولسوء الحظ أنَّ أغنى المَصادر احتواءً على فيتامين C هو عصيرُ البُرتقال، والذي يؤدِّي إلى تَفاقُم القرحة الهضمية بِسَبب حموضته.

إقرأ أيضاً: الفوائد العلاجية الخارقة التي يقدمها النعناع للجهاز الهضمي

4. مرض الأمعاء الالتهابي (IBD):

إنَّ عملية الهضم بصفةٍ عامةٍ عمليةٌ مأمونةٌ تماماً، إلَّا إذا كان أحدُ الأشخاصُ مُصاباً بمرض الأمعاء الالتهابي، أو (الأمعاء الهيوجة) كما تُدعَى، وإنَّ المُصابين بهذه الحالة يُعدُّون بمئات الآلاف.

في هذه الحالات، تحدث التهاباتٌ في بطانات الأمعاء؛ وإحدى النظريات التي تفسِّر سبب التهابها تقول أنَّها من أمراض المناعة الذاتية (autoimmune)، أي أنَّ الجملة المناعية في الجسم تتعامل مع خلايا الجهاز الهضمي على أنَّها أجسامٌ غريبة، وتعمل على مهاجمتها وتدميرها، مسببةً الالتهاب. في هذه الحالات تقوم الخلايا التائية القاتلة (Tcells) بالانتفاض ومُهاجمة الجُدران المَعوية، مما يُسبِّب للأشخاص المُصابين أوجاعاً وحالاتٍ من الإسهال. وإذا استهدف مرض (الأمعاء الهيوجة) المعي الغليظ (القولون) -وهو ما يُسمَّى "التهاب القولون" (Colitis)- فإنَّ احتمالات الإصابة بسرطان القولون تَتَضاعف.

اللجوء إلى مُحاربة البكتيريا بالبكتيريا:

بالإمكان نَفضُ البساط من تحت أقدام الالتهابات المعوية، عن طريق تناول طعام بسيطٍ شائع الاستعمال بين شتَّى طبقات الناس، مثل: اللبنة واللبن الرائب (الياغورت). وقد تحدَّثت إحدى الدراسات مؤخراً عن طريقةٍ (لحربٍ بكتيرية) تداوي الالتهابات المعوية ببكتيريا نافعةٍ مُضادة لبكتيريا الالتهابات المعوية، أي: عن طريق طبقةٍ مُستعملةٍ حديثاً من هذه البكتيريا النافعة التي أُطلِقَ عليها اسم: بروبيوتيك (probiotic)، وهي البكتيريا الموجودة في اللبنة واللبن الرائب. وقد وُصفَت هذه (البروبيوتيك) بأنَّها تَستطيعُ أن تُعيدَ للخلايا المَناعية (صوابها)، وأن تَجعلها تُمارسُ دورها المعقول في مُكافحة الأجسام الغريبة.

5. سرطان القولون (Colon Cancer):

إنَّ المعي الغليظ في جسم الإنسان يُشكِّل (التُربة الهضمية) لداء (سرطان القولون). ولحُسنِ الحظ، أنَّ هذا الداء يُعدُّ مرضاً فذاً في طبيعتهِ، وذلك من حيثُ أنَّ الكشف الجماعي يستطيعُ اكتشاف (المُقدِّمات) التي تَتَطوَّر إلى الإصابةِ بهذا الداء. وهذه المُقدِّمات تسمَّى "السلائل" (polyps)، واكتشاف وجودها لدى أحد الأشخاص يوفِّرُ لهُ مُدةً طويلةً تُمكِّنهُ من مُعالجة نَفسهِ على هيئتهِ قبل أن تَتَطوَّر السلائل إلى حالاتٍ من الخَباثة.

إقرأ أيضاً: 6 أطعمة تحصنك ضد سرطان القولون

أداة الكشف الذهبية:

الوسيلةُ المُمتازة المُتبعةِ حالياً للكشف الجماعي عن هذه السلائل هي تَنظيرُ القولون (Colonoscopy)، وهو عبارةٌ عن إجراءٍ يُدخَلُ فيه أنبوبٌ دقيقٌ مرنٌ يَحملُ في نهايته آلةً دقيقةً للتصوير، ويقومُ باستعراض داخل القولون على امتداده. وبعدَ تنظيرِ مئةٍ وخمسين ألفاً من الأشخاص الراشدين من كلا الجنسين بهذه الطريقة، تبيَّن أن أكثرَ أولئك استهلاكاً للحوم الحمراء واللحوم المحفوظةِ المُصنعة كانت تزداد لديهم نسبةُ الإصابة بسرطان القولون، مُقارنةً بالأشخاص الذين يَستعيضون عن هذه اللحوم الحمراء بلحومِ الدواجن والأسماك. والحكمةُ المُستخلصة من ذلك هي أنَّه من الضروري تَجنُباً لهذه المَحاذير الإقلال قَدرَ الإمكان من استهلاك النقانق المُصنعة والأطعمة السريعة، والاستعاضةُ عنها بلحومِ الدواجن والأسماك؛ وذلك لغناها بالعناصر مثل السيلينيوم الذي قد يُساعدُ في مَنعِ الإصابة بسرطان القولون. ولقد كانت خيرُ طريقةٍ مُتبَعة حتَّى الآونة الأخيرة بالنسبة إلى الأشخاص المؤهبين وراثياً لهذا النوع من السرطانات: خضوعهم لفحوص تنظير القولون بدءاً من سن الأربعين بدلاً من الخمسين.

اليوم، هُنالك خيارٌ آخر أحدثُ عهداً، وهو عبارةٌ عن كشفٍ وتضخيمٍ داخل القولون ضوئياً، بحيث تَستطيعُ الأشعة اختراق طبقات القولون والتحري عن احتمالات الإصابة، على غرار ما يقومُ به المجهر الإلكتروني؛ وبذلك يتمَكَّن الطبيب الجراح من إزالة الخلايا المُشتبهِ بها قبل أن تتطوَّر إلى سلائل.




مقالات مرتبطة