4 خطوات لتعزيز الذكاء العاطفي: دروس عن الجائحة تعلمناها من لعبة فيديو

في الثالث عشر من أيلول عام 2005 أضاف مصممو لعبة الفيديو "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) إلى عالم الفانتازيا ذاك لعنةً جديدة باسم "الدم الفاسد" (Corrupted Blood)، أُصيب بها في بادئ الأمر الشخصيات التي زارت زنزانة "زول غوروب" (Zul’Gurub) وحاربَت شخصية الأفعى العملاقة "هاكار ذا سول فلاير" (Hakkar the Soulflayer).



وكانت تلك اللعنة قويةً ومعدية أيضاً؛ إذ انتشرَت بين الشخصيات الموجودة في الزنزانة، لكنَّ المبرمجين لم يُخططوا جيداً لما سيحصل عقب المعركة، ولم يتوقعوا ردود فعل اللاعبين على انتشار هذه اللعنة.

وجد بعض اللاعبين المعركة ضد الأفعى صعبةً جداً لدرجة أنَّهم انسحبوا، ونقلوا معهم العدوى إلى أنحاء عالم "أزيروث" (Azeroth) الافتراضي، وبينما لم يُرِد المبرمجون للعنة "الدم الفاسد" (Corrupted Blood) أن تتعدى حدود الزنزانة، إِلاَّ أنَّهم نسوا أن يضيفوا إلى كود اللعبة ما يمنع انتشارها خارج الزنزانة، وكان في إمكان الشخصيات القوية فقط المشاركة في هذا الجزء من اللعبة؛ إذ أضعفَتهم اللعنة لا أكثر، لكنَّها تسبَّبَت في مقتل الشخصيات الضعيفة.

خلال ساعات من مغادرة الشخصيات للزنزانة حاملين اللعنة معهم انهارت مدن كاملة في عالم لعبة "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft)، وتناثرت جثث الشخصيات في الشوارع الافتراضية، فهلع اللاعبون وهربوا من المدن؛ مما زاد من انتشار اللعنة، وكان عدد الأشخاص الذين يلعبون "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) هو 4 مليون لاعب في ذلك الوقت، ولكن خلال أيام معدودة ماتت مئات آلاف الشخصيات، فلقد تحولَت لعنة "الدم الفاسد" (Corrupted Blood) إلى جائحة عالمية افتراضية، تصرَّف اللاعبون خلالها كما يتصرف الناس الطبيعيون على أرض الواقع، والسلوكات الموثَّقة عنها مألوفة لنا اليوم في حقبة كوفيد-19.

حاول مصممو اللعبة توجيه اللاعبين إلى ممارسة حجر صحي طوعي، لكنَّ اللاعبين لم يلتزموا به؛ مما ساعد على انتشار اللعنة، وحين لم تنفع تلك الخطوة طلبوا منهم وضع علامةٍ مرئية على شخصياتهم للإشارة إلى أنَّها مصابة باللعنة للحد من انتشارها، ولكنَّ هذه المحاولة باءت بالفشل أيضاً، بينما هرب بعض اللاعبين إلى أقاصي العالم الافتراضي النائية لتجنب التعرض للعنة، من مبدأ التباعد الاجتماعي الافتراضي.

ربما حصل كل ذلك في لعبة فيديو افتراضية، لكنَّ اللاعبين كانوا بشراً وردود فعلهم كانت عاطفيةً وغير متوقعة، ففي حين تصرَّف بعض اللاعبين بإيثار وسافروا إلى مراكز انتشار الجائحة وألقوا تعويذات شفاء لمحاولة إنقاذ المصابين، ومات العديد من هؤلاء المتجاوبين الأوائل أو تضرروا هم أيضاً بسبب مخالطتهم للمصابين، لكنَّ لاعبين آخرين تصرفوا تصرفاً معاكساً تماماً؛ حيث أصاب بضعة لاعبين أنفسهم باللعنة عمداً ثمَّ انتقلوا إلى مواطن أعدائهم ونشروا فيها الوباء مثل انتحاريين افتراضيين.

قد تظن أنَّ هذه مجردة حادثة معزولة حصلَت في لعبة افتراضية سخيفة، لكنَّ "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" (CDC) يخالفونك الرأي؛ حيث تواصلوا مع شركة "بليزارد إنترتينمنت" (Blizzard Entertainment) المالكة للعبة "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) وطلبوا منهم إحصاءات عن الجائحة الافتراضية؛ إذ كانت أحداثها واقعيةً لدرجة أنَّ في دراستها فائدة كبيرة، وكتبَت عالمة الأمراض الوبائية "نينا فيفرمان" (Nina Fefferman) - وهي أيضاً من لاعبي "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) - ورقةً بحثية باسم "حادثة الدم الفاسد" (Corrupted Blood Incident) التي نشرَتها المجلة الطبية المرموقة "ذا لانسيت" (The Lancet)، كما استُخدِمَت بعض بياناتها لفهم الجوانب الاجتماعية من انتشار جائحة كوفيد-19.

والذي توصَّلوا إليه من هذه الدراسة هو أنَّ البشر عاطفيون ويصعب التنبؤ بتصرفاتهم، ولا يمكنك التكهن بما سيفعله جارك أو أي أحد تعرفه خلال الجائحة، وفي حين فشلَت النماذج الحاسوبية التي استخدمها علماء الأمراض في الماضي؛ وذلك لأنَّها لم تأخذ بالحسبان سمة عدم قابلية التنبؤ بالسلوك البشري، إِلاَّ أنَّهم تمكَّنوا في حالة لعبة "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) بِعَدِّها نموذجاً حاسوبياً يتحكم به بشر حقيقيون بالسلوكات من الحصول على معلومات أدق أنتجَت توقعاتٍ أفضل بكثير، ويمكن الاستفادة منه كأداة لدراسة الجائحة على أرض الواقع بشكل أفضل، وهكذا تحولَت حادثة الدم الفاسد إلى درس في الذكاء العاطفي.

ها نحن ذا بعد عام 2020 الذي بدا وكأنَّه مزيج من رواية رعب وبرنامج وثائقي، انفصل فيه عالمنا المقلوب رأساً على عقب تماماً عن الواقع واتجه إلى الجنون المطلق.

ربما تتساءل ما الذي سيحصل الآن، ليس هناك من جواب، لكنَّ الأمر الوحيد الأكيد هو أنَّنا نحتاج إلى الذكاء العاطفي اليوم أكثر من أي وقت مضى، فنحن بحاجة إلى الحفاظ على علاقاتنا واتصالنا مع الآخرين، ونحن بحاجة إلى ممارسة التعاطف والتعاون معاً لنتخطى هذا الوقت العصيب.

شاهد بالفديو: 10 علامات تدل على الذكاء العاطفي العالي

المشكلة هي أنَّ الجائحة تتسبب في تراجع ذكائنا العاطفي، فقد حوَّل الفيروس أي نوع من التواصل إلى حقل ألغام عاطفي، وزادت التكنولوجيا الطين بلة؛ إذ أظهرَت الأبحاث أنَّ قضاء وقت طويل محدقاً بشاشة الحاسوب يؤدي إلى تراجع مقدرتنا على فهم محاولات التواصل غير الكلامي من قِبَل الآخرين والاستجابة بطريقة فعالة، فعلى الرغم من فائدة الاجتماعات الافتراضية لكنَّها لا تُقارَن باللقاءات وجهاً لوجه.

ولهذا نحن بحاجة إلى تقوية ذكائنا العاطفي، وذلك لن يحصل عبر تصفُّحنا لمواقع التواصل الاجتماعي أو فضفضة همومنا لمصففة الشعر الحكيمة، وسنستعرض هنا خلاصة عدد من الأبحاث عن هذا الموضوع، ولا نعدك بالطبع بأنَّك ستمتلك شخصيةً جذابة بعد الانتهاء من قراءة هذا المقال، لكنَّه سيساعدك حتماً على مقاومة ضمور التعاطف الذي يسببه الحجر.

الذكاء العاطفي (Emotional intelligence) هو مفهوم ابتكره عالم النفس "جون ماير" (John Mayer) من "جامعة نيو هامبشاير" (University of New Hampshire) والبروفيسور "بيتر سالوفي" (Peter Salovey) من "جامعة ييل" (Yale University) في أوائل التسعينيات، ودرسه لاحقاً الكاتب "دانييل جولمان" (Daniel Goleman) وازدادت شعبيته بفضله، ويُعرِّفه "ماير" كما ورد في سلسلة الكتب "إتش بي آر دليل الذكاء العاطفي" (HBR Guide to Emotional Intelligence) كالتالي: "من وجهة نظر علمية، الذكاء العاطفي هو القدرة على التعرُّف إلى مشاعرك ومشاعر الآخرين تعرُّفاً صحيحاً، لفهم الإشارات التي ترسلها المشاعر عن العلاقات، ولإدارة مشاعرك ومشاعر الآخرين".

هناك 4 خطوات لتعزيز الذكاء العاطفي هي: الإدراك، التمييز، الصقل، والضبط، لنطَّلع عليها بتفصيل أكبر:

1. الإدراك:

الإدراك الذاتي هو أهم مهارات الذكاء العاطفي؛ وذلك لأنَّنا نعتمد عليه لتقييم المهارات التي نملكها أو التي نفتقر إليها، والتي نحتاج إلى تحسينها، ويُعرِّفه كتاب "أهم 10 كتابات عن الذكاء العاطفي من إتش بي آر" (HBR’s 10 Must Reads on Emotional Intelligence) بأنَّه: "امتلاك الفرد لفهم عميق لمشاعره ونقاط قوَّته وضعفه وحاجاته ودوافعه، والأشخاص الواعون ذاتياً ليسوا نقديين إلى حد كبير ولا متفائلين إلى درجة غير واقعية؛ بل هم صادقون مع أنفسهم ومع الآخرين، ويدرك الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من الوعي الذاتي كيف تؤثر مشاعرهم فيهم وفي الآخرين وفي أدائهم في وظائفهم".

لكنَّ الطريق إلى زيادة الوعي الذاتي لا علاقة له بالاستبطان، فنحن عادةً لا نُجيد الوعي الذاتي، ورسم التخيلات في أذهاننا يزيد الأمر سوءاً، لا بل نصل إلى وعيٍ ذاتي بفضل الأشخاص الآخرين، وتوضح ذلك المؤلفة "تاشا يوريتش" (Tasha Eurich) في كتابها "فكرة" (Insight) حين تقول: "أظهرَ عالم النفس "تيموثي سميث" (Timothy Smith) وزملاؤه هذا بوضوح في دراسة شملَت 300 ثنائياً متزوجاً؛ حيث خضع الشريكان لفحصٍ لأمراض القلب، ثمَّ طُلِب من كل مشارك تقييم مستويات الغضب والعدوانية والجدلية لديهم ولدى شركائهم؛ حيث إنَّها جميعاً مؤشرات تنبئ بالمرض، ووجد الباحثون أنَّ تقييمات الأفراد لأنفسهم كانت أقل دقةً إلى حد بعيد من تقييمات أزواجهم".

إذا كنتَ تريد أن تتعرَّف إلى نفسك تعرُّفاً أفضل، فأجرِ استطلاعاً غير رسمي واسأل الأشخاص الذين يعرفونك عن رأيهم فيك، وبالطبع، قد يكون أحد أصدقائك مهذباً فيمدحك، ولكن بعد أن تسأل خمسة أو عشرة من أصدقائك ستلاحظ تكرار آراء صحيحة تماماً، فأنت تفهم نفسك عبر التواصل مع الآخرين؛ مما يمنحك الوعي الذاتي للتواصل بشكل أفضل معهم لاحقاً، وتلك ليست مفارقةً؛ بل هي عملية تحسُّنٍ مستمرة.

امتلاك الوعي الذاتي هام ولكنَّه الدرجة الأولى فقط نحو تعزيز الذكاء العاطفي، ولكي تصبح أذكى عاطفياً حقاً، يجب أن تتعلم التعامل مع عواطفك حين تشعر بها، فلننتقل إلى الخطوة الثانية.

إقرأ أيضاً: إطلاق العنان لقوة الوعي الذاتي

2. التعريف والتصنيف:

يجب أن تراجع نفسك خلال اليوم، وتسألها كيف تشعر؟ وسيجيب معظمنا عن هذا السؤال بقوله "أنا بخير" حتى لو كان في وضع تعيس؛ إذ إنَّنا لا نلاحظ مشاعرنا إلا بعد فوات الأوان، ولكن إن لم نكن قادرين على تحديد ما نشعر به، فلن نستطيع منع المشاعر من التأثير في سلوكنا دون أن نشعر؛ لذا يجب أن تسأل نفسك ما الذي تشعر به في كل حين.

فلتجعل من ذلك عادةً، واضبط منبهاً على هاتفك إذا تطلَّب الأمر لتراجع نفسك مراتٍ عدَّة خلال اليوم واسأل نفسك عمَّا تشعر به، فقد يبدو ذلك سخيفاً، ولكن تذكَّر أنَّ ما من أحد اتخذَ قراراً سيئاً في وقتٍ من الأوقات إلا وأدرك لاحقاً أنَّ السبب هو مزاجه السيئ، فعلى سبيل المثال: حين تتسوق وأنت تشعر بالجوع ستشتري أكثر من حاجتك.

وبعد تحديد ما تشعر به، صنِّف مشاعرك كي تتمكن من التحكم بها؛ إذ لا يستطيع عقلنا التعامل مع شيء ما لم يعرف ما هو؛ لذا حدِّد اسم شعورك؛ حيث أظهرَت دراساتٌ في علم الأعصاب أجراها الأستاذ "ماثيو ليبرمان" (Matthew Lieberman) من "جامعة كاليفورنيا ولوس أنجلوس" (UCLA) الأثر المذهل لتصنيف المشاعر في مساعدتنا على التحكم بها وتخفيف حدتها.

ألقِ نظرةً على هذا المقتطف من كتاب "الإذن بالشعور" (Permission to Feel) للمؤلف "مارك براكيت" (Marc Brackett): "دخلَت مجموعتان من المشاركين الذين يعانون من رهاب العناكب إلى غرفة تحتوي عنكبوتاً مُحتجزاً، فاستخدمَ أفراد المجموعة الأولى كلماتٍ عاطفية لوصف مشاعرهم في ذلك الموقف، بينما استخدم أفراد المجموعة الثانية كلمات لا تعبِّر عن العواطف لوصف الحقائق ببساطة، وبالنتيجة استطاع أفراد المجموعة الأولى الاقتراب من القفص أكثر من المشاركين الآخرين، إضافةً إلى ذلك، ارتبط استخدام كلمات مثل: "القلق" و"الخوف" ارتباطاً كبيراً في أثناء الاقتراب من العنكبوت بانخفاض في تلك المشاعر".

نعم، من السخرية أنَّ قول كلمة "قلق" يجعلك أقل قلقاً، ولكن يجب أن تحدد الشعور كي تتحكم به، وكلما تمكَّنتَ من تعريف مشاعرك أنت تعريفاً أفضل، ستتمكن في النهاية من التعرُّف إليها أكثر لدى الآخرين.

التعريف والتصنيف أمران ضروريان، لكنَّهما غير كافيَين لتحقيق هدفنا هنا، فحان الوقت للانتقال إلى الخطوة التالية لتطوير مهارات الذكاء العاطفي.

3. التفصيل:

تصنيف مشاعرك أمر جيد ولكن إذا اقتصرَت إمكاناتك على تصنيف المشاعر بـ "جيدةٍ" أو "سيئةٍ" فقط، فأنت بالكاد مؤهل لحمل لقب الإنسان الواعي؛ حيث يشير هذا التصنيف البدائي للعواطف إلى انخفاض الذكاء العاطفي، فإذا لم تكن قادراً على الإحساس بالمشاعر المعقدة والمتباينة، فسوف يكون العالم مكاناً مأساوياً بالنسبة إليك، خاصةً في ظل الجائحة.

نحن بحاجة إلى تطوير "التفصيل العاطفي"، وكلما تمكَّنتَ من فهم مشاعرك فهماً دقيقاً، كان في إمكانك التعامل معها تعاملاً أفضل، وفي حين أنَّ من الجيد معرفة أنَّك "غاضب"، لكنَّ القدرة على تمييز أنَّك غاضب لأنَّك جائع هي التي ستمكِّنك من العثور على حل للمشكلة، وفي حالة المشاعر الإيجابية، يسمح لك التعرُّف الدقيق إليها بتعزيزها.

لذا وسِّع مفرداتك العاطفية، وأمعِن النظر في مشاعرك ولاحِظ الاختلافات بينها، ربما تشعر "بالتوتر"، لكن حين تفهمه بتفصيل، سوف تتمكن من التمييز ما إذا كنتَ قلقاً من مستقبلٍ مجهول، أم خائفاً مما قد يحدث، أم متوتراً بسبب كثرة المسؤوليات الواقعة على عاتقك، ويسمح لك هذا المستوى من الفهم بحل المشكلة حلاً أفضل.

كما تُظهر الدراسات أنَّ التفصيل العاطفي له العديد من الفوائد، فتابع ما يقوله "براكيت" في كتاب "الإذن بالشعور" (Permission to Feel): "كان المشاركون الذين تمتعوا بالتفصيل العاطفي قادرين على التمييز بين تجاربهم العاطفية تمييزاً أفضل، أما الأفراد الذين كان تفصيلهم العاطفي منخفضاً - يُطلَق عليهم المتكتلون - فكانوا أقل مهارةً في التمييز بين المشاعر، على سبيل المثال: لم يميِّز الفرد ما إذا كان غاضباً أم قلقاً أم محبطاً.

وعند المقارنة بين المجموعتين، قالت الباحثة إنَّ الأفراد الذين يتَّسمون بالتفصيل العاطفي كانوا أقل ميلاً إلى التعامل بذعرٍ أو تعاطي الكحول عند التعرض للضغوطات، ومن المحتمل أكثر أن يعثروا على معنىً إيجابيٍ في التجارب السلبية، كما كانوا أفضل في ضبط مشاعرهم؛ حيث قاموا بتعديل ردود أفعالهم لتحقيق النتائج المرجوة، ومن ناحية أخرى، سجل المتكتلون نتائج أسوأ في هذه النواحي، ولُوحِظ أنَّهم أكثر عُرضةً للإصابة بالأمراض الجسدية والنفسية".

قد تجد استخدام قاموس المرادفات مفيداً لهذه الغاية؛ إذ يعني امتلاك مفردات عاطفية أكثر أنَّك ستفهم نفسك والآخرين فهماً أفضل، ويسمح لك تحديد مشاعرك بدقة أن تُصنِّفها تصنيفاً أفضل، ويساعد الآخر على الشعور بأنَّك تفهمه حقاً.

الآن ستأخذ الأمور منحىً غريباً بعض الشيء؛ حيث تُظهِر أحدث الأبحاث أنَّ العواطف ليست محددةً، وأنَّها لم تكن جزءاً منا حين وُلِدنا، وتقول عالمة النفس "ليزا فيلدمان باريت" (Lisa Feldman Barrett) في كتاب "كيف تُصنَع المشاعر: العالم السري للدماغ" (How Emotions Are Made: The Secret Life of the Brain): "فيما يتعلق بالعواطف والجهاز العصبي الذاتي، أُجرِيَت أربعة تحليلات شمولية معمقة هامة في العقدين المنصرمين، شملَت أكبرها أكثر من 220 دراسة في الفيزيولوجيا وما يقرب من 22000 مشارك، ولم تجد أي من هذه التحليلات الأربعة آثاراً عاطفية ومتسقة ومحددة في الجسم".

العواطف هي مفاهيم نتعلمها من ثقافتنا، أما الأحاسيس الفيزيولوجية مثل رجفان اليدين هي انعكاسات حقيقية وملموسة لها، ولكن يجب على دماغك أن يفسرها بالاعتماد على ما تعلَّمتَه ليقرر ما إذا كان سبب رجفان يديك على سبيل المثال هو شعورك بالقلق أم الحماسة.

لا شكَّ أنَّك لاحظتَ يوماً طفلاً يتعثر وينظر إلى والدته على الفور ليعرف كيف يجب أن تكون ردة فعله، فإذا كانت ردة فعل الأم سلبيةً، يبدأ الطفل بالبكاء، وإذا بقيَت الأم هادئةً، فسوف يتصرف الطفل بالطريقة نفسها.

تُعَدُّ العواطف مزيجاً من التجارب التي يكمِّل بعضها بعضاً؛ مما يعني أنَّ سكان البلدان الأخرى أحسوا بمشاعر لم تشعر بها أنت من قبل، وإليك ما ورد في كتاب "كيف تُصنَع المشاعر: العالم السري للدماغ" (How Emotions Are Made: The Secret Life of the Brain): "إكتسواربوك" (Iktsuarpok) هي كلمة تُستخدَم في حضارة الإنويت (Inuit) وتصف الترقب الذي تشعر به عندما تنتظر وصول ضيف إلى منزلك دون صبر، فتُطل من النافذة كل بضع دقائق للتحقق مما إذا وصل، "كفيل" (Kvell) هي الكلمة اليديشية (Yiddish) التي تصف الحب العارم والفخر الذي تشعر به حين ترى ما يمكن لطفلك القيام به، وتحتوي لغة "الماندرين" الصينية أكثر من 100 مصطلح مختلف عن شعور العار".

يعني هذا أنَّك تستطيع تكوين مشاعر جديدة بنفسك، فلا بُدَّ من أنَّك شعرتَ بأحاسيس لم تكن سعيدةً تماماً ولكنَّها لم تكن سيئةً أيضاً؛ بل كانت تحمل صفاتٍ من الاثنتين، وفي هذه الحالة أطلِق على ذلك الشعور اسماً جديداً عوضاً عن تصنيفه مع شعورٍ آخر أو عدم تصنيفه إطلاقاً، فهذا هو الذكاء العاطفي الحقيقي وهذا هو الطريق إلى فهمٍ أعمق لنفسك والسيطرة بشكل أفضل على حياتك.

على سبيل المثال: حين تشعر بالتوجس ليلة الجمعة لأنَّ لديك عمل في الصباح التالي، يمكنك أن تُسمِّي هذا الشعور، أو أطلِق على ذلك الشعور المميَّز الذي يراودك حين تكون بالقرب من شريك حياتك اسماً من اختيارك، فقد يبدو الأمر سخيفاً بعض الشيء في البداية، ولكن لا تسمح لذلك بأن يمنعك، فهناك شعور في اليابان يدعى "آجي أتوري" (Age-otori) وهو ما تشعر به حين تظن أنَّك تبدو أقبح بعد قص شعرك، ولنكن صادقين، كلنا شعرنا به، ولقد تطلَّب الأمر إنساناً عبقرياً عاطفياً لتسمية هذا الشعور، فكن أنت عبقرياً أيضاً.

شارِك مشاعرك الجديدة مع الآخرين لتشعروا بها معاً، فهذا هو الطريق للوصول إلى تفاهم أعمق وإلى التقارب؛ إذ يمكن أن يساعدك الآخرون ويمكنك أن تساعدهم على نحوٍ أفضل بكثير حين يعرف كل منكم ما يشعر به الآخر بدقة.

لكنَّ المشاعر السلبية سوف تتملَّكنا أحياناً، وحينها يجب أن نعرف كيف نتعامل معها.

إقرأ أيضاً: كيف تعزز ذكاءك العاطفي من أجل الحصول على علاقات أفضل؟

4. إعادة التأطير ثمَّ التنظيم:

أجرى الباحث "شون أكور" (Shawn Achor) من "جامعة هارفارد" (Harvard University) دراسةً عن المصرفيين مباشرة بعد أزمة عام 2008، وكان معظمهم حينها يشعرون بالتوتر إلى أبعد الحدود، وبعضهم كانوا سعيدين ويتأقلمون مع الوضع الجديد، والصفة التي تشاركها هؤلاء المصرفيون الذين لم يتأثروا تأثُّراً سلبياً هي أنَّه على الرغم من معاناتهم من الظروف نفسها، إلا أنَّ أذهانهم لم تفكر فيها على أنَّها تهديدات؛ بل عَدُّوها تحديات يجب أن يتغلبوا عليها، وبمجرد عرض مقطع فيديو على المصرفيين الذين يعانون بسبب الأزمة يشرح كيف يمكنهم التفكير بالتوتر على أنَّه تحدٍّ، تغيَّرَت أحوالهم تماماً.

إليك ما قال "شون" عن هذا الموضوع: "راقبنا تلك المجموعات على مدار الأسابيع الثلاثة إلى الستة التالية، واكتشفنا أنَّه حين تمكَّنَّا من تغيير نظرة الناس إلى التوتر ليفكروا فيه على أنَّه فرصة للتحسن وتحدٍّ عوضاً عن تهديد، شهدنا انخفاضاً بنسبة 23% في الأعراض المرتبطة بالتوتر لديهم، ونتج عن ذلك أيضاً زيادة كبيرة في مستويات السعادة وتحسُّناً ملحوظاً في مستويات اندماجهم في العمل".

أعِد تأطير التوتر بإطارٍ من الحماسة؛ إذ تشير الدراسات إلى أنَّ الآثار الفيزيولوجية للشعورين متشابهة، ولكن تختلف طريقة نظرنا إليهما فقط، فالعواطف هي مفاهيم تتشكل من تفسيرك أنت لردود فعل جسدك، لذلك يمكنك اختيار الشعور بارتعاش يديك على أنَّه قلق أو حماسة، فأعد تأطير المعلومات التي تتلقاها، فتحديد ما إذا كانت دموعك دموع حزنٍ أم فرحٍ أم راحة هو أمر عائد إليك.

لا تشعر أنَّك مُلزم بالشعور الأول الذي يتبادر إلى ذهنك، ولا تحزم أمرك بشأن شعورك على الفور، فالمشاعر طيِّعة وقابلة للتأويل، وهي ليست قوانين ثابتة؛ لذا اترك مسافةً بينك وبين مشاعرك وراقِبها، ثمَّ صنِّفها، واسأل نفسك ما هي الاحتمالات الأخرى الممكنة، ثمَّ حاول اختيار الشعور الأكثر إيجابيةً، سيتطلب ذلك أن تتمرن، ولكنَّه قد يصبح أحد أفضل المهارات التي يمكنك تعلُّمها؛ وهو الفرق بين التعامل مع غضبك بذكاء عاطفي أو مناقشته مع معالج نفسي عيَّنَته لك المحكمة.

لنلخص ما سبق ونتحدث عن نهاية حادثة "الدم الفاسد" (Corrupted Blood) والدرس الهام الذي تعلمناه منها:

ملخص ما سبق:

تذكَّر الخطوات الأربع لتعزيز الذكاء العاطفي:

  • الإدراك: مصدر إدراك الذات هو الآخرين.
  • التعريف والتصنيف: اسأل نفسك ما الذي تشعر به، ولا تتهرب من الإجابة بصراحة، وكن دقيقاً، ثمَّ صنِّف الشعور وعرِّفه.
  • التفصيل: وسِّع مفرداتك العاطفية، وميِّز بين المشاعر للعثور على أساليب للتعامل معها إن كانت سلبيةً أو تعزيزها إن كانت إيجابيةً، وأطلِق أسماءً على المشاعر الجديدة وشارِكها مع الآخرين.
  • إعادة التأطير: أنت مَن يحدد ما الذي تشعر به، سواء كنتَ قلقاً في وجه التحدي الجديد أم متحمساً أم شيئاً آخر، فالمشاعر ليست من صخر؛ بل هي عجينة لينة يمكنك تشكيلها كما تشاء.

كان عالم لعبة "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) خلال الجائحة شبيهاً شبهاً غريباً بأي وباء في الحياة الواقعية؛ إذ اكتشف الباحثون أنَّ أكبر مُسبِّب للانتشار هو الحيوانات الأليفة الافتراضية، فهي لم تتأثر بلعنة "الدم الفاسد" (Corrupted Blood) لكنَّها كانت ناقلةً للعدوى، تماماً كما حصل في حالة الخفافيش وفيروس كوفيد-19 أو الجرذان والطاعون الدبلي.

استمر الوباء الافتراضي أسبوعاً فقط، بعدها قامت الشركة بتهيئة خوادم اللعبة، وهنا تنتهي أوجه التشابه بينه وبين جائحة كوفيد-19، فلسوء الحظ لا يمكننا إعادة تشغيل الأرض، ولكن لا زال في إمكاننا أن نتعلم حكماً من هذه الحادثة.

في عام 2008 ضرب وباء آخر عالم "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft)، لكنَّه كان متعمَّداً هذه المرة، ولم يكن سببه لعنة؛ بل بسبب "الزومبي" (zombies)، وفي هذا الوباء الجديد استخدم المصممون الدروس التي تعلَّموها من حادثة "الدم الفاسد" (Corrupted Blood) ليقدِّموا تحدياً أصعب للاعبين وأكثر متعةً، وتلقوا المديح لكونه أكثر واقعيةً من الوباء الأول الذي أصاب عالم "أزيروث" (Azeroth) قبله بثلاث سنوات.

تعلَّم مصممو لعبة "وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft) من أخطائهم وصمموا عالماً أفضل حرفياً، وبالطريقة نفسها يمكننا أن نتعلم من جائحة كوفيد-19، فنحن بشر ولا شيء يمكنه إحباطنا إلى الأبد، ومهما واجهنا، سوف نتخطاه ولن نستسلم أبداً.

الوضع سيئ حالياً مع ظهور نسخ أقوى للفيروس كل يوم، لكنَّنا سنتجاوز هذه الظروف من غير شك، ولكن لن يكون مجرد البقاء على قيد الحياة كافياً؛ بل يجب أن نزدهر، وسنفعل ذلك، وعلى الرغم من أنَّنا قضينا وقتاً طويلاً بعيداً عن بعضنا بسبب الجائحة، ولكن لا يمكننا أن نسمح لذلك بالتأثير سلباً في قدرتنا على التواصل مع بعضنا والتعاطف والنمو والتعلم من بعضنا.

يبدأ الذكاء العاطفي منك ويمتد ليشمل الآخرين بسرعة؛ لذا تمرَّن على هذه المهارات كي يصبح في إمكانك أن تعرف حقاً كيف يشعر الآخر حين يحدِّثك، وستتمكن من وصف مشاعره وفهم الفارق بينها وبين المشاعر الأخرى بدقة أكبر، فأغلى هدية يمكن أن تقدِّمها لشخص آخر هي أن تُشعره بأنَّه ليس وحيداً في هذا العالم.

المصدر




مقالات مرتبطة