للكتب قوَّتها والقراءة عملية مدهشة تمتلك القدرة على إعادة توصيل مسارات دماغك العصبية، فقد قال الكاتب الأمريكي "ثيودور سوس" (Theodor Seuss): "كلما قرأت أكثر، زادت معرفتك، وكلما تعلمت أكثر، أغنيت مخيلتك"، لقد كان "ثيودور" يتمتع بقدرة مذهلة على وصف التجارب الأكثر تعقيداً بأبسط الكلمات، ويوضِّح هذا الاقتباس أثر القراءة القوي وكيف أنَّها تفتح عقولنا على المعرفة والخبرات.
لكن ماذا تفعل القراءة في الواقع؟ وكيف تؤثر في دماغنا؟ بمجرد أن تعي التفاصيل خلف أثر القراءة في دماغك، ستشعر بالإلهام لقراءة المزيد.
إليك بعض الحقائق المدعومة علمياً عن الآلية التي تغير فيها القراءة عقلك:
1. القراءة تغير شكل دماغك:
أراد الباحثون في جامعة "إيموري" (Emory University) اكتشاف التغيرات الفعلية التي تثيرها عملية القراءة في الدماغ، وكان الباحث الرئيسي في الدراسة "غريغوري بيرنز" (Gregory Berns) يعي حقيقة أنَّ القصص تساعد على صقل شخصية المرء وعقليته في بعض الحالات؛ لذا أراد أن يعرف كيف تستقبل أدمغتنا القصص وما هو الأثر الذي تتركه فيها.
تدعى الدراسة "الآثار قصيرة وطويلة الأمد للرواية في الاتصال العصبي في الدماغ" (Short- and Long-Term Effects of a Novel on Connectivity in the Brain)، إنَّها واحدة من أكثر الدراسات إثارة للاهتمام، فقد كان على جميع المشاركين في التجربة قراءة رواية بومبي (Pompeii) للكاتب "روبرت هاريس" (Robert Harris)، واختار الباحثون هذه الرواية لأنَّها تستند إلى أحداث حقيقية، إلى جانب اعتماد الأسلوب الكلاسيكي في سرد الأحداث فيه.
وجدوا أنَّه يمكن ملاحظة الآثار قصيرة الأمد مباشرة بعد القراءة؛ إذ أظهرت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي تحسُّنَ الاتصال العصبي في منطقة الدماغ المسؤولة عن إدراك اللغة، مع أنَّ الأشخاص لم يكونوا يقرؤون الرواية في أثناء عملية المسح الضوئي، فإنَّ الدماغ احتفظ بتزايد هذا الاتصال، أطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم "النشاط الظلي" (shadow activity).
لكن كيف يتغير الدماغ حقاً؟ ظهرت زيادة في الاتصال في ثلاث باحات مستقلة من المخ بوصفها نتيجة لقراءة الرواية، ووجدوا تزايداً ملحوظاً في الارتباط بين شبكات العُقَد خلال الأيام التي كان المشاركون يقرؤون فيها مقارنة بالأيام التي لم يفعلوا ذلك.
كان الباحثون متأكدين تماماً من معنى النتائج التي توصلوا إليها: "لقد أثبتنا أنَّه بين كل التجارب المتنوعة التي عاشها المشاركون في الدراسة، تمكنا من ملاحظة تغيرٍ مشترك هام في شبكات حالة الراحة العصبية على إثر قراءة أقسام معينة من الرواية في اليوم الفائت، إضافة إلى ذلك، يمكن تمييز نوعين من هذه التغيرات؛ تغيرات عصبية قصيرة الأمد ناشئة بالقرب من التليف الزاوي الأيسر وتغيرات عصبية طويلة الأمد منتشرة بتناظر في القشرة الحسية الجسدية".
لم يتمكن الباحثون من معرفة المدة التي قد تستمر فيها هذه التغيرات العصبية، ولا توجد إجابة محددة عن هذا السؤال حتى الآن، ومع ذلك، فإنَّ حقيقة أنَّ القراءة تنشئ روابط جديدة مؤقتة داخل عقلك أمر لا جدال فيه، ولم تكن التغيرات العصبية التي لاحظوها مجرد استجابات لحظية؛ بل استمرت إلى صباح اليوم التالي بعد القراءة ولمدة خمسة أيام بعد انتهاء الأشخاص من قراءة الرواية.
2. القراءة تجعلك أكثر تعاطفاً:
عندما تقرأ كتاباً رائعاً، تشعر بالمعاناة والفرح على حدٍّ سواء، وتعيش الحياة مع الشخصيات، فبعض المؤلفين لديهم القدرة على جذبك إلى القصة لدرجة أنَّك تشعر بالمشاعر الدقيقة التي تمر بها الشخصية، وهذا ما يسمى بالتعاطف، ويقول أي قارئ شغوف إنَّه عاش مثل هذه الحالة مع أبطاله المفضلين في الكتب، والمثير للاهتمام أنَّ العلم يثبت ذلك أيضاً.
يوجد بحث بعنوان "كيف تؤثر قراءة كتب الخيال في التعاطف؟ بحث تجريبي عن دور الانتقال العاطفي" (How Does Fiction Reading Influence Empathy? An Experimental Investigation on the Role of Emotional Transportation)
أراد الباحثون إثبات ما يدعيه القراء دوماً؛ فعندما يقرأ الناس الروايات، يقولون إنَّهم ينتقلون عاطفياً إلى القصة، وأظهرت النتائج بالضبط ما توقعوه؛ إذ تعزز القراءة تعاطف قراء الكتب الخيالية.
شاهد بالفيديو: كيف تدرب نفسك على القراءة السريعة؟
لماذا يحدث هذا فقط مع كتب الخيال؟ لأنَّ كُتَّاب الخيال لا يركزون على توافق الأحداث، كما هو الحال في القصص غير الخيالية؛ وإنَّما يركزون على التشابه مع الواقع؛ فعندما يختلق الكاتب عالماً سردياً واقعياً بما فيه الكفاية، ينجذب القارئ إلى القصة، ويقدِّم الخيال الشخصيات والأماكن والأحداث التي يمكن للقارئ التعرف إليها؛ لذا فالقراءة تعزِّز التعاطف فعلاً.
لكن لماذا يُعدُّ التعاطف هاماً على أي حال؟ كما اتضح، إنَّه أكثر من مجرد الشعور بالتعاطف مع مشاعر الآخرين؛ فالتعاطف بوصفه حالة إدراك لمشاعر الآخرين، هو جانب أساسي من الذكاء العاطفي؛ فهو الرابط بينك وبين الأفراد الآخرين الذي يحدد عمق التواصل بينك وبينهم.
أصبح التعاطف في عصر الهواتف الذكية أكثر أهمية من أي وقت مضى، والقراءة تساعدنا على تعزيز هذه القدرة.
3. القراءة تساعدك على الاسترخاء:
لماذا تقرأ؟ ولماذا لديك رغبة لا تقاوم في قراءة كتاب جيد بعد يوم شاق في العمل أو خلال عطلات نهاية الأسبوع؟ إنَّه الهروب من الواقع الذي تتوق إليه؛ فالحياة رائعة؛ لكنَّها أيضاً صعبة للغاية، الحياة في عصرنا الحديث على وجه الخصوص، سريعة وجدية جداً؛ إذ نتنقل ونتواصل كثيراً ولدينا كثير من الأمور للتعامل معها.
تفتح لنا القراءة عوالم جديدة، وهذا بالضبط ما يحتاج إليه معظمنا، فما إن تمسك كتاباً بين يديك حتى تشعر على الفور بالراحة والاسترخاء، وفي بعض الأحيان لا يهم ما إذا كان كتاباً رائعاً أو مجرد كتاب بسيط يبقيك مشغولاً؛ فبعض الكتب لا تتذكرها حتى بعد أسبوع؛ لكنَّها ما تزال تنقلك إلى تلك الحالة الذهنية المريحة في أثناء قراءتها، فتجاربنا الشخصية مع الكتب كفيلة بإثبات أنَّ القراءة استراتيجية فعالة في الحدِّ من التوتر؛ لكنَّ الجميل أنَّ الباحثين يدعمون تجاربنا الشخصية هذه.
لقد وجد عالِم النفس العصبي المعرفي "ديفيد لويس" (David Lewis) أنَّ القراءة تخفض مستويات التوتر بنسبة 68%، ويقول: "التعمق كلياً في كتاب هو الاسترخاء المطلق، فلا يهم الكتاب الذي تقرأه؛ لكنَّ التعمق في كتاب جذاب يتيح لك الهروب من مخاوف العالم اليومي وضغوطاته، وقضاء بعض الوقت في اكتشاف خيال المؤلف".
يقول المؤلف "توماس لوفكرافت" (Thomas Lovecraft): "أظن أنَّ القراءة طريقة رائعة للبقاء هادئاً ومسترخياً، وأفضل جزء من يومي هو احتساء قهوتي الصباحية بينما أغوص في كتاب جيد".
إنَّ القراءة ليست مجرد إلهاء؛ وإنَّما تنشِّط مخيلتنا وتحفز إبداعنا، وفي حال كنت تقرأ كتاباً جيداً، فقد يجعلك على دراية بالأسئلة والقضايا الحقيقية في الحياة، مما يجعل الضغط اليومي يبدو أمراً سخيفاً.
في الختام:
هل نحتاج حقاً إلى العلم لإثبات أنَّ القراءة رائعة بالنسبة إلينا؟ نحن نشعر بآثار هذه العادة كلما حملنا كتاباً رائعاً في أيدينا، وإن كنت تتساءل عما تفعله القراءة بعقلك، فقد أصبحتَ على دراية الآن؛ إنَّها تنشئ روابط جديدة في دماغك وتعزز شعورك بالتعاطف، وتساعدك على الاسترخاء؛ لذا اذهب واقتنِ كتاباً.
أضف تعليقاً