ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "ديفيد إبستاين" (David Epstein)، والذي يحدِّثنا فيه عن تجربته في دراسة حياة الأشخاص الذين اتبعوا مساراتٍ مهنية مختلفة وليست ثابتةً.
اتضح أنَّ كل شخص تقريباً اتَّبع ما بدا أنَّه مسار غير عادي، وقال "أوجاس": "الأمر الأكثر إثارةً للإعجاب هو أنَّهم اعتقدوا جميعاً أنَّهم يمثِّلون حالةً شاذة"، وتحدَّث أوَّل 45 شخصاً من أصل 50 بالتفصيل عن مسارات مهنية مختلفة إلى درجة أنَّهم أعربوا عن إحراجهم بسبب الانتقال من شيء إلى آخر في حياتهم المهنية، وأضاف "أوجاس": "كانوا يتحفَّظون عن تجربتهم قائلين: "معظم الناس لا يفعلون ذلك بهذه الطريقة"، فقد قِيلَ لهم إنَّ الابتعاد عن مسارهم الأول كان محفوفاً بالمخاطر، ولكن في الواقع علينا جميعاً أن نفهم أنَّ هذا ليس أمراً غريباً؛ بل هو القاعدة"، وهكذا وجدنا اسماً لهذا البحث، وهو "مشروع الحصان الأسود" (Dark Horse Project)؛ وذلك لأنَّه حتَّى مع إضافة المزيد من الأشخاص، فإنَّ معظمهم عَدُّوا أنفسهم أحصنةً سوداء اتَّبعَت ما بدا وكأنَّه مسارٌ غير محتمَل.
كانت "الخيول السوداء" تبحث عن مجال عمل يميِّزها، فقد قال لي "أوجاس": "هم لا ينظرون أبداً حولهم ويقولون: "سوف أتخلَّف عن الركب، فقد بدأ هؤلاء الناس في وقت مبكِّر وكان لديهم خيارات أكثر مني عندما كانوا في سن أصغر"، فقد ركَّزوا على شخصيتهم ودوافعهم في تلك اللحظة، وعلى الأمر الذي اكتشفوا أنَّهم يودون القيام به وتعلُّمه، وعلى الفرص التي ستبرز أفضل مواهبهم، وربما بعد عام من الآن سيبدِّلون خيارهم؛ وذلك لأنَّهم سيجدون شيئاً أفضل".
كان لكل "حصان أسود" رحلة جديدة ولكن استراتيجية مشترَكة، فقد قال لي "أوجاس": "يخطط معظمهم على الأمد القصير، وليس على الأمد الطويل".
شاهد بالفيديو: كيف تكتشف شغفك وتصل إليه؟
وعندما سُئِلَ "فيل نايت" (Phil Knight) المؤسِّس المشارك لشركة "نايكي" (Nike) في عام 2016 عن رؤيته طويلة الأجل وكيف عرف ما يريد أن يفعله عندما أنشأ الشركة، أجاب بأنَّه كان يعلم بالفعل أنَّه يريد أن يكون رياضياً محترفاً، لكنَّه لم يكن جيداً بما يكفي؛ لذلك وجَّه تفكيره إلى محاولة إيجاد مجال عمل يربطه بالرياضة، وصادف أنَّه كان يركض على المضمار تحت إشراف مدرب جامعي كان يصلح الأحذية وأصبح فيما بعد أحد مؤسِّسي شركة "نايكي"، قال "نايت": "أشعر بالأسف على الأشخاص الذين يعرفون بالضبط ما سيفعلونه منذ أن كانوا في المدرسة الثانوية"، وكتب في مذكراته أنَّه "لم يكن مهتماً بتحديد الأهداف"، وأنَّ هدفه الرئيس لشركته الناشئة للأحذية كان الفشل بسرعة كافية بحيث يتمكن من تطبيق ما كان يتعلمه في مشروعه التالي.
لا يؤمن "أوجاس" بالمفهوم الثقافي القائل إنَّه من المنطقي أن نستبدل مساراً لاستكشاف الذات بهدف ثابت، لمجرد أنَّه يضمن الاستقرار، وقال لي: "إنَّ الأشخاص الذين ندرُسُهم ويحققون أهدافهم يسعون إلى تحديد أهداف على الأمد البعيد، ولكنَّهم لا يصوغونه إلا بعد فترة من اكتشاف ذاتهم، فمن الواضح أنَّه لا عيب في الحصول على شهادة في القانون أو الطب أو الدكتوراه، ولكن من الخطر فعلاً أن تقوم بهذا الالتزام قبل أن تعرف إذا كان يناسبك، ولا تَعُدُّ أنَّ المسار ثابتٌ؛ حيث يدرك الناس أشياء عن أنفسهم في منتصف الطريق".
كان العالم "تشارلز داروين" (Charles Darwin) مثالاً على ذلك؛ فبناءً على طلب من والده، خطَّط "داروين" أن يصبح طبيباً، لكنَّه وجد المحاضرات الطبية مملةً بشكل لا يطاق، وترك الدراسة؛ حيث كتب: "لم أحضر مرةً أخرى أبداً؛ وذلك لأنَّه نادراً ما كان هناك أي حافز قوي بما يكفي ليجعلني أفعل ذلك"، كان "داروين" آنذاك من المهتمين بالكتاب المقدَّس وتصوَّر أنَّه سيصبح رجل دين، وقد انتقل وحضَّر العديد من المحاضرات، بما في ذلك دورة في علم النبات مع أستاذ أوصى به لاحقاً لشغل منصب غير مدفوع الأجر على متن سفينة "إتش إم إس بيغل" (HMS Beagle).
بعد إقناع والده (بمساعدة عمه) بأنَّه لن يفشل إذا اتخذ هذا المنعطف، بدأ "داروين" أكثر السنوات تأثيراً في حياته بعد مغادرة الجامعة، وبعد عقود، تأمَّل "داروين" في عملية اكتشاف الذات، فقد كتب: "يبدو من المضحك أنَّني كنتُ أنوي ذات مرة أن أصبح رجل دين"، فوالده الذي بقي طبيباً لأكثر من ستين عاماً كان يكره رؤية الدم، وأضاف: "إذا كان والده قد أعطاه أي خيار، فلا شيء كان يجب أن يدفعه للاستمرار في ذلك".
بدأ الكاتب الأمريكي "مايكل كرايتون" (Michael Crichton) بمهنة الطب أيضاً بعد أن تعلَّم كيف أنَّ قلةً من الكُتاب يكسبون لقمة عيشهم، فقد كتب: "لن أتساءل أبداً عما إذا كان العمل يستحق العناء"، إلا أنَّه بعد بضع سنوات أصبح محبَطاً من مزاولة مهنة الطب؛ حيث تخرَّج في كلية الطب في جامعة "هارفارد"، لكنَّه قرر أن يصبح كاتباً، كما أنَّه لم يضيِّع تعليمه الطبي فقد استخدمه في صياغة بعض القصص الأكثر شعبيةً في العالم، كرواية "الحديقة الجوراسية" (Jurassic Park)، والمسلسل التلفزيوني "إي آر" (ER).
يمكِن أن تبدو الأهداف المهنية التي شعرتَ يوماً حيالها بالأمان واليقين سخيفةً عند فحصها في ضوء المزيد من معرفة الذات، فما نفضِّله في عملنا وحياتنا لا يبقى كما هو؛ وذلك لأنَّنا لا نبقى كما نحن.
أضف تعليقاً