كان كرم "حاتم الطائي" بلا حدود، فقد عُرِف عنه أنَّه من أكثر الناس سخاءً وكرماً، وكانت سمعته تسبقه في كل مكان يذهب إليه، كما كان يتمتع بفطرة سخية في كل المواقف، سواء كانت في السلام أم الحرب، ففي لحظات الغنيمة كان أسهب في العطاء، وفي مواجهة الأعداء كان قائداً شجاعاً، وعندما تُطلب منه المساعدة فلا يتردد في التقديم، وحتى في لحظات النزاع كان يجنح للسلام، فمن أين ينحدر "حاتم الطائي"؟ وبماذا تميز شعره عن شعر غيره؟ وما هي أبرز محطات حياته؟
نبذة عن حياة حاتم الطائي:
يُعرَف بـ "حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم"، كما يسمى "هزومة بن ربيعة بن جرول بن عمرو بن الغوث بن طيء"، ويُقال إنَّ جده الأكبر كان يُدعى "طيء" واسمه "جَلهَمة بن أدر بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، ويُقال إنَّه سُمي بهذا الاسم لأنَّه كان أول من طوى المناهل.
وُلِد حاتم الطائي في العصر الجاهلي، في منطقة تُعرَف بـ "تنغة" بالقرب من جبل "أجا"، وفي سن صغيرة تُوفي والده، فتُرك "حاتم" تحت رعاية جده "سعد بن الحشرج"، وبدأ "حاتم" بالعطاء بشكل كبير، حتى غادره جده وأهله، وتركه بعدما ضاق من ذلك. ويعد واحد من أبرز شعراء العصر الجاهلي.
كانت والدته «عنبة» من أسخى النساء وأكرمهن للضيف، لكن عندما رأى إخوتها إتلافها للمال، حجروا عليها ومنعوها من مالها، فورث "حاتم" سخاءها المفرط، فلم يدَّخِر مالاً ولم يرد يوماً محتاجاً، ويُقال إنَّ أولاد "حاتم" "سفانة وعدي"، قد شهدا الإسلام وأسلما.
يقال إنَّه قد تم جلب ابنة "حاتم" "سفانة" إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أسرى طيء، وقيل أيضاً إنَّ علي بن أبي طالب أرادها زوجة للرسول فقالت:
"يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيتَ أن تُخلي عني فلا تُشمِت بي أحياء العرب، فإنِّي بنت سيد قومي، فكان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت "حاتم الطائي".
قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جارية، هذه صفة المؤمن، لو كان أبوكِ إسلامياً لترحَّمنا عليه، خلُّوا عنها، فإنَّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق".
لُقب "حاتم الطائي" بأكثر من لقب، ومنهم:
1. كريم العرب:
نسبةً إلى سمته الجليلة في الكرم والجود، فقد كان "حاتم" يُعَدُّ أكرم العرب، فلم يرد يوماً سائلاً عن بابه، بصرف النظر عن طلبه، وهذا جعله مشهوراً بين العرب بكرمه اللامحدود وسمو أخلاقه الرفيعة.
2. أبا سفَّانة:
سفانة هي أكبر بناته حسب الروايات، ويوجد من يقول إنَّ سبب هذا اللقب هو تشبيه لـ "حاتم الطائي بالبحر"، فسفَّانة تعني اللؤلوة التي تُستخرَج من البحر، ولعلَّ حاتماً لفرط كرمه وجوده يشبه البحر.
3. ابن غِنية:
"عنبة" هي والدة "حاتم" وأسخى النساء وأكثرهن كرماً للضيف، ويقال عنه "ابن غنية" لأنَّه مثل أمه كريم ومعطاء، فهو غني فياض بكرمه، فلا يسأله أحد إلا وأجابه كأنَّما هو خزينة لا تنفد ولا تنضب.
4. ابن بنت عفيف:
يُلقب أيضاً بـ "ابن بنت عفيف" نسبة لأمه ونسبها (غنية بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس من طيء)، وأيضاً لعفته، فـ "حاتم" يعف نفسه عن مشاركة ضيوفه طعامهم على الرغم من جوعه، ويعف نفسه عن الأكل وحدها، ويعف نفسه عن لمس يد ضيفه في أثناء أكله، وتوجد قصص كثيرة تدل على عفته وغنى نفسه.
5. أبو عدي:
نسبة لابنه عدي.
حياة حاتم الطائي:
وُلد حاتم الطائي في منطقة "آجا" التي تسمى حالياً (حائل) في المملكة العربية السعودية، وتوفي في عام 578، ووُصف قبره في كتاب ألف ليلة وليلة، وما تزال بعض آثار قصره وقبره وموقدته الشهيرة موجودة حتى الآن.
تزوج "حاتم الطائي" مرتين في حياته، الأولى من امرأة تدعى (نوَّار)، ويقال إنَّها أم أولاده "سفانة، وعبد الله، وعدي"، والثانية هي (ماويَّة)، ويقال إنَّ "عدي" ابنها وليس ابن الأولى.
كانت "ماوية بنت عفزر" ملكة من ملكات الحيرة تقرر الزواج بمَن تشاء من الرجال، ويقال إنَّها أرسلت غلماناً لها وأمرتهم أن يحضروا لها أوسم الرجال في الحيرة، فأتوها بـ "حاتم"، فقالت له استقدم، فقعد على الباب وقال لها: "إنَّني أنتظر صاحبين لي"، فارتابت منه وسقته الخمر ليسكر، فقال: "ما أنا بذائق قرى ولا قار حتى أنظر ما فعل صاحبي"، وبعد أن قدما، قال لهما حاتم: (أتكونا عبدين لماوية بنت عفزر أم تقتلكما؟)، فقالا: (كل شيء يشبه بعضاً، وبعض الشر أهون من بعض)، فقال "حاتم": الرحيل والنجاة.
بعد أن غادر "حاتم" "ماوية" دعته نفسه إليها، فعاد لخطبتها، ووجد لديها اثنان غيره هما "النابغة الذبياني" و"النبيتي" يرغبان أيضاً بخطبتها، فاختارت "ماوية" الزواج بأكرمهم وأجودهم شعراً، فذبح كلٌ من الثلاثة بعيراً سميناً، واتجهت "ماوية" إليهم وهي متنكرة بزي خادمة وطلبت منهم الطعام.
بدأت بـ "النبيتي" فأعطاها الرديء من ذبيحته، ثم قصدت "النابغة" وقام معها بنفس الصنيع، وعندما وصل الدور إلى "حاتم"، طلبت منه أن يجود من ذبيحته فأعطاها أجودها، ثم غادرت "ماوية" وأرسلت لهم دعوة لتقديم الشعر الذي قاموا بتأليفه، وطلبت تقديم الطعام لهم بعدما اتفقت مسبقاً مع جاريتها أن تقدِّم لكل واحد منهم ما قدَّمه لها، وبعد رؤية "النابغة" و"النبيتي" لذلك، شعرا بالخجل من تصرفهما، وأعلنت ماوية رغبتها بالزواج من "حاتم" شرط أن يطلِّق زوجته "النوَّار"، وعندما رفض "حاتم"، تزوجته بعد وفاتها.
الغريب في قصة "حاتم" أنَّ "ماوية" أعلنت طلاقها منه لنفس سبب زواجها، وهو كرم حاتم اللامحدود، بعد أن ضاقت ذرعاً بتبذيره الزائد في إكرام الناس وعدم انتباهه لأطفاله ومستقبلهم، واتفاقها مع ابن عمه "مالك" الذي وعدها بالزواج حالما تنفصل عن "حاتم".
كانت النساء في الجاهلية إذا عقدن العزم على تطليق أزواجهن يقمن بتغيير جهة الخباء الذي يسكن فيه، فإذا كان بيتاً من شعر، حولن بابه من قِبل المشرق إلى المغرب أو بالعكس، وعندما يلاحظ الزوج ذلك يعرف أنَّ زوجته قد طلقته فلا يقترب من مخبئها، وهذا ما حدث مع "حاتم الطائي" وزوجته "ماوية".
صفات حاتم الطائي:
"حاتم الطائي" من أبرز الشخصيات التي أثرت في التاريخ العربي، وتجسدت في شخصيته مجموعة من الصفات النبيلة والقيم الأخلاقية التي جعلته محط إعجاب الناس عبر العصور، وصفات "حاتم الطائي" النبيلة كثيرة، منها:
1. كرم حاتم الطائي:
روي أنَّ "حاتماً" جلس للشراب يوماً ودعا إليه كل من كان في الحلة، فحضر نحو 200 رجل، فلما انتهوا من الشراب وأرادوا الانصراف أعطى لكل واحد منهم ثلاثاً من النوق.
ذبح حاتم الطائي لفرسه:
يُروى أنَّ القحط اجتاح بلاد الجبلين، وغلبهم الجفاف والفقر حتى ظنوا أنَّها سنة الهلاك، وعانى الناس من نقص الطعام حتى أصبحوا يبحثون عن أي مصدر يروي جوعهم الشديد.
أتت امرأة محتاجة في منتصف الليل إلى "حاتم الطائي" تأمل في رحمته وكرمه لإطعام أطفالها الجائعين الذين يعانون من الجوع الشديد ويبكون من شدة المعاناة، فلم يتردد "حاتم الطائي" في تقديم المساعدة، فقدَّم فرسه الذي كان آخر ما يملك، وذبحه وأطعم كل الجوعى في حيه، ومنهم أطفال المرأة.
حاتم وقيصر الروم:
بعد أن وصلت أخبار جود "حاتم الطائي" إلى أحد قياصرة الروم، استغرب هذا القيصر الأخبار وأراد التحقق منها بنفسه، فعلم أنَّ "حاتماً" يمتلك فرساً من أفضل الخيول عنده، فقرر إرسال بعض حجابه ليطلب الفرس.
عندما دخل الحاجب إلى قصر "حاتم"، وجد استقبالاً حسناً وحفاوة، دون أن يعرف أنَّه حاجب القيصر، ولأنَّ المواشي كانت ترعى في المرعى اضطر لذبح فرسه لإطعام الضيوف، ثم دخل ليحادث ضيفه، وبعد أن أعلمه أنَّه رسول القيصر الذي جاء يطلب الفرس، فساء حال "حاتم" فقال: "هل أعلمتني قبل الآن فقد نحرتها لك"، فاستغرب الرسول من هذا السخاء الكبير، وقال: "والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا".
2. الشجاعة والبسالة:
كان "حاتم" بطلاً شجاعاً يتمتع بقوة وجرأة، ولا يهاب المعارك.
3. الحكمة والذكاء:
كان "حاتم" ذا فطنة عالية وحكمة نادرة؛ إذ كان يتمتع بقدرة على فهم الناس والأمور بعمق، واتخاذ القرارات الصائبة في اللحظات الحرجة.
4. الأدب والشعر:
كان "حاتم" شاعراً فذاً يتقن فن الشعر والأدب، وكانت له قصائد عدة تشهد بذلك.
5. الطيبة واللين:
كان "حاتم" شخصية طيبة ولطيفة، يتعامل مع الناس بليونة وود، وكريماً معطاء، ويغيث الغريب والقريب.
شعر حاتم الطائي:
يعد حاتم الطائي من رواد الشعر في العصر الجاهلي، فعلى الرغم من غزارة شعر حاتم الطائي، إلا أنَّه فقد كثيراً منه، ولكنَّ القليل الذي بقي يشكل لنا نافذة نحو عالمه الفكري والأخلاقي؛ إذ يتناول شعره موضوعات الكرم والعطاء والاهتمام بالجيران، ممثلاً بذلك للقيم التي اشتهر بها.
يتسم شعر "حاتم" بالإيجابية والقيم الأخلاقية؛ إذ يعبِّر عن إيمانه بالحياة وحكمتها، ويجسد الصفات الحميدة والفضائل التي كان يتحلى بها، فشعره هو صورة عن شخصيته وأحاسيسه وفكره وتجاربه النبيلة، ولم يستطع أحد ثنيه عن تجسيد تلك القيم في أفعاله النبيلة حتى زوجته.
يزخر ديوانه بالخصائص التعبيرية والسمات الأسلوبية والصور البلاغية، وقد استطاع "الطائي" توظيفها بمهارة ليعبِّر عن أفكاره ومشاعره بطريقة تأسر القلوب وتثير العقول، فنجح الشاعر في استثمار الألفاظ والتراكيب والخيال للتعبير عن معانيه وأفكاره، واستطاع استخدام الوسائل البلاغية لإقناع المتلقي بمفهومه ورؤيته.
خصائص شعر حاتم الطائي:
يُعَدُّ شعر "حاتم الطائي" من أبرز التحف الأدبية في التراث العربي؛ إذ يتمتع بمجموعة من الخصائص التي جعلته يحتل مكانة متميزة في عالم الشعر والأدب العربي، ويتميز بمجموعة من الخصائص جعلت شعره يتميز عن غيره من الشعراء العرب، وهي:
1. الإيجابية والقيم الأخلاقية:
يعبِّر شعر "حاتم" عن قيم إيجابية مثل الكرم، والعطاء، والشهامة، والاهتمام بالجيران والمحيطين به، وهذا يجعله مرجعاً للتقاليد الإنسانية النبيلة.
2. الصدق والواقعية:
يتسم شعره بالصدق والواقعية في التعبير عن المشاعر والأفكار؛ إذ يعكس واقع الحياة وتجارب الإنسان ومشكلاته وأفراحه بشكل صادق وملموس.
3. البساطة والوضوح:
يتميز شعر "حاتم" بالبساطة والوضوح في الأسلوب؛ إذ يعبِّر عن أفكاره ومشاعره بطريقة مباشرة ومفهومة للقارئ.
4. الاستعارة والتشبيه:
يستخدم "حاتم الطائي" في شعره الاستعارة والتشبيه استخداماً متقناً، وهذا يزيد من جاذبية قصائده ويعزز تأثيرها في القارئ.
5. التعبير عن التقاليد العربية:
يندرج شعر حاتم ضمن التراث العربي القديم؛ إذ يحمل طابعاً تقليدياً يعبِّر عن قيم وتقاليد المجتمع العربي القديم.
6. الجمال اللغوي والصور البلاغية:
يتميز شعره بجمالية اللغة والصور البلاغية؛ إذ يستخدم مجموعة متنوعة من التشبيهات والاستعارات والمجازات لإثراء مضمون قصائده وتجسيد أفكاره بشكل فني راقٍ.
إقرأ أيضاً: أشهر أشعار حاتم الطائي
وفاة حاتم الطائي:
أرَّخ المؤرخون وفاة "حاتم الطائي" في السنة الثامنة بعد مولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكن يوجد من يقول إنَّ وفاة "حاتم الطائي" كانت في عام 506م، وآخرون قالوا إنَّ وفاته كانت في عام 575م.
دُفن حاتم الطائي في منطقة جبلية تدعى "الحزم" في المملكة العربية السعودية، وعاش "حاتم الطائي" نحو ستين عاماً، وقد ترك وصيته التي تقول: «إنِّي أعهدكم من نفسي بثلاث: ما خاتلت جارة لي قط عن نفسها، ولا اؤتُمنت على أمانة حتى قضيتها، ولا أتى أحد من قبلي بسوءة أو قال بسوء».
في الختام:
في ختام مقالنا عن "حاتم الطائي"، نجد أنَّ حياته وشعره يمثلان رمزاً للنبل والطيبة والعدالة في العصر الجاهلي، فقد تجلت في شخصيته روح الكرم والعطاء، وبصمته الإنسانية التي أثرت في عدد من الأجيال.
إنَّ إرث "حاتم الطائي" الثقافي والأدبي يظل حاضراً حتى يومنا هذا؛ إذ تستمر قصائده في إلهام الناس للقيم الأخلاقية النبيلة لذلك، فإنَّ تذكيرنا بحياة وإنجازات هذا الشاعر يعكس أهمية القيم الإنسانية العميقة التي تتجاوز الزمن والمكان، وتظل محط إلهام وتأمل للأجيال القادمة.
المصادر +
- أحمد رشاد، ديوان حاتم الطائي، منشوارت دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2002.
- أبي صالح يحيى بن مدرك الطائي، ديوان حاتم الطائي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1994
أضف تعليقاً