في الحقيقة تطول النقاشات عن مفهوم العولمة وسلبياتها وإيجابياتها، ويكثر الجدل حولها، فبعض الناس يرون أنَّ العولمة نتيجة طبيعية للثورة التكنولوجية الحاصلة على مستوى العالم، وأنَّ على العالم أن يصطبغ بطابع ثقافي واقتصادي واجتماعي واحد، في حين يرى بعض الناس أنَّ العولمة تقلِّل من شأن خصوصية كل بلد على حِدة، بثقافته ونظامه الاقتصادي والاجتماعي، وتؤثِّر سلباً في تقدمه، وتفتح أبواب التدخل العالمي فيه بحجج كثيرة أولها التنمية الاقتصادية، فإذا كنت ترغب في معرفة المزيد عن العولمة سلبياتها وإيجابياتها، وإلى أين وصلت هذه النقاشات، تابع القراءة.
مفهوم العولمة:
اشتُق مصطلح العولمة في اللغة العربية من كلمة عالَم، والفعل منها عولَمَ؛ بمعنى جعله عالمياً، كلمة العولمة ليست الكلمة الوحيدة الدالة على هذا المعنى في اللغة العربية؛ بل توجد كلمات ومصطلحات عدة، تحمل ذات الدلالة والمعنى ومنها الكونية مثلاً.
إذاً المقصود بالعولمة ببساطة هو صبغ الشيء أيَّاً كان بصفة عالمية، فعلى سبيل المثال إذا قلنا عولمة الاقتصاد؛ أي جعل اقتصاد العالم ذو وجهة عالمية، وإذا قلنا عولمة الثقافة؛ أي جعلها تنتشر على مستوى العالم وعدم تقييدها في بلد واحد، أو قارة واحدة، أو نمط واحد.
مصطلح العولمة في الواقع ليس موضوعاً بسيطاً؛ بل على النقيض من ذلك هو موضوع شائك تعددت وتنوعت حوله المواقف ووجهات النظر حول العالم، وقد وصل الأمر نتيجة هذه الخلافات إلى درجة عزل دول من قبل العالم المتقدم، بوصفها عقوبة لها على عدم تقبلها للعولمة المعاصرة بشروطها ومعطياتها، في حين أنَّ دول أخرى اعتزلت العولمة باختيارها مدفوعة بالخوف من الانصهار في العالم، وفقدان هويتها الفردية وخصوصيتها التاريخية والثقافية والاجتماعية.
متى نشأ مصطلح العولمة؟
ما زالت العولمة حتى الآن موضوعاً مثيراً للجدل في جوانب عدة، ومن هذه الجوانب الجانب الذي يتعلق بتحديد تاريخها ووقت ظهورها بوصفها مفهوماً بالضبط، لكن من خلال مراجعة دقيقة للتاريخ نجد أنَّ العولمة ظهرت منذ زمن طويل، وتحديداً مع بداية انتقال البشر من مكان إلى آخر عبر البر والبحر لأهداف كثيرة، منها تجارية واستعمارية وعسكرية وتبشيرية، حتى يمكن عد إيجاد الباحثين رسومات جدارية في الصين تدل على هوية تجار فينيقيين شكلاً من أشكال العولمة، ومظهراً من مظاهرها، ودليلاً على ظهورها منذ القدم، كما أنَّنا في الوقت ذاته يمكننا إدراج مؤلفات ابن خلدون، والتي انتشرت عالمياً وتخطت اللغة العربية والجغرافيا العربية تحت اسم عولمة الثقافة.
إذاً العولمة ليست إلا مصطلحاً جديداً يشير إلى ظاهرة قديمة، وفي العصر الحديث تُعدُّ مظاهر العولمة واضحة جداً إن كان ذلك من خلال انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتبادل المعرفة والمعلومات عن طريق التكنولوجيا المتطورة التي صبغت العالم بصبغتها، أو من خلال تبادل الثقافات والسلع التجارية والموضة وغيرها.
مثلاً عندما نسمع عن مشكلة اقتصادية عالمية تتعرض لها دولة من الدول، فما هذا إلا دليل على تحول العالم إلى قرية صغيرة، وأيضاً عندما نشاهد دوري كرة القدم الإسباني، ونرى إقبال الناس عليه من شتى أنحاء العالم، وكأنَّ هذا الدوري يخص العالم الأجمع وليس إسبانيا فحسب ندرك أنَّ المسافات بين الدول في طريقها إلى الزوال.
أنواع العولمة:
لا تنحصر العولمة كما أصبح واضحاً في شكل واحد؛ بل لها أنواع وأشكال عدة، وسنذكر فيما يأتي أنواع العولمة:
1. العولمة الاقتصادية:
لم تعد دول العالم اليوم تعتمد في تأمين حاجتها على نفسها فقط وإنتاجها الذاتي؛ بل أصبحت تسعى إلى الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي للاستفادة من عمليات التبادل، والارتباط الاقتصادي المتاح بين الدول اليوم.
2. العولمة السياسية:
ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى محاولات لإيجاد قوة سياسية واحدة تحكم العالم، وتحميه من طيش بعض القيادات السياسية في العالم وجبروتها، فكان ذلك من خلال تمثيلات عديدة حكومية وقضائية ومجتمعية، مثل عصبة الأمم المتحدة التي تُعدُّ الظهور الأول للعولمة السياسية، وخلال الحرب العالمية الثانية ظهرت الأمم المتحدة وبعده مجلس الأمن، ويوجد نماذج سياسية كثيرة حاولت فرض عولمة السياسة الواحدة على دول العالم أجمع مثل ما يحدث من تحالفات بين الدول.
3. العولمة الاجتماعية والثقافية:
وتتمثل بانتشار المنتجات الثقافية التي أخذت صفة العالمية، مثل الأعمال الأدبية التي تنتشر على مستوى قرَّاء العالم، وكذلك الأعمال السينمائية، ويمكن عدُّ سلسلة هاري بوتر الشهيرة من أكثر الأمثلة على هذا النوع، وأيضاً المسلسل الأميركي الشهير صراع العروش.
ينظر بعضهم إلى أنَّ الطعام أصبح أيضاً عالمياً مثل وجبات البيتزا والهمبرغر، وتُعدُّ العولمة الثقافية من وجهة نظر بعض المفكرين من أخطر أشكال العولمة؛ لأنَّها تعتمد على تصدير الثقافة من الدول القوية إلى الدول الضعيفة المستهلكة.
من خلال ملاحظة بسيطة لبعض سلوكات الشباب العربي اليوم، نجد مثالاً حياً على هذه الفكرة؛ إذ نجد إقبالاً كبيراً على تقليد بعض العادات والسلوكات المنتشرة في الدول المتقدمة دون فهم حقيقي لها، وغالباً ما يتعلَّق هذا التقليد بالأمور الشكلية والمظاهر من ملابس وأسلوب تناول الطعام، ولا يقترب من جوهر الحياة هناك.
إضافةً إلى هذا فإنَّ انتشار ثقافات الدول القوية يحد من انتشار أفكار الدول الضعيفة، ويقيِّد إبداعاتها، فمن الجدير بالذكر أنَّ العولمة الثقافية هي عولمة باتجاه واحد؛ أي من الدول القوية إلى الدول النامية وخلاف ذلك ليس صحيحاً.
4. العولمة التقنية والتكنولوجية:
ونشاهد ذلك من خلال ثورة الاتصالات وشبكات الإنترنت التي ربطت العالم ببعضه، وربما تبادل المعلومات هو السبب الفعلي لتطور العولمة بهذا الشكل الواضح الذي نراه اليوم.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ العولمة بأشكالها المختلفة جدلاً كبيراً حول العالم، ويمكن حصر هذا الجدل في نقطتين أساسيتين هما:
شاهد بالفديو: عناصر التفكير الاستراتيجي
5. الأولى إدارة العولمة:
أي من سيقود عجلة العولمة، ومن سيفرض قوانينه ورؤيته للعالم على بقية الدول، ومن سيدفع ثمن رعونة الأخطاء إن حدثت من قبل قطب واحد.
النقطة الثانية تقوم على الاستثمارات الصناعية التي تقوم بها الدول العظمى في الدول النامية، والذي يحمل بين طياته كثيراً من المخاطر على هذه الدول، حتى إنَّ بعض الدول دفعت أثماناً باهظة بسبب رفضها لتحويل أراضيها إلى مستعمرات للدول العظمى، في حين فقد بعضها الهوية الثقافية على حساب التطور والحضارة والازدهار العمراني الذي وصلت إليه.
أسباب العولمة:
توجد أسباب عدة لظهور العولمة؛ فالعولمة ظاهرة ثقافية اجتماعية ونتيجة طبيعية لضرورة التواصل بين شعوب العالم، والأمثلة التي ذكرناها في مقدمة المقال دليل على هذا، إذاً العولمة ليست مؤامرة، ولعلَّ الأسباب الحقيقية التي تقف وراء تطورها بهذا الشكل هي ثورة الاتصالات والمعلومات التي اكتسحت العالم في العصر الحديث، إضافةً إلى التطورات الكبيرة في وسائل النقل الذي أتاح السفر والتنقل بين الدول بسرعة وسهولة.
على سبيل المثال نقل البضائع في زمان سابق كان يأخذ وقتاً ومجهوداً كبيرَين لإبرام الاتفاقيات بين الدول، أمَّا الآن تستطيع أن تنقل بضائع من دولة إلى أخرى، وأنت تقيم في دولة أخرى ببساطة شديدة، والتطور الذي يشهده العالم وعلى جميع الأصعدة هو السبب الحقيقي وراء انتشار العولمة بهذا الشكل؛ فالحدود بين الدول اليوم لم تعد إلا حبراً على ورق.
إيجابيات العولمة وسلبياتها:
في الواقع نتائج العولمة حتى الآن غير مستقرة، فهي ما زلت متذبذبة بين السلبية والإيجابية، مثلاً عندما نقرأ مقالاً ما يعطينا فائدة علمية سنعدُّ العولمة إيجابية، لكن عندما نعرف مأساة شعب بسبب الحروب مثلاً ووصول تأثير هذه المأساة إلينا سنعدَّها سلبية.
كما أنَّ تقييم العولمة مختلف من دولة إلى أخرى، فسكان دول العالم المتقدم يعدُّونها إيجابية؛ لأنَّها تحقق لهم مكتسبات معينة، بينما يعدُّها بعضهم من سكان دول العالم المتخلف عولمة سلبية؛ لأنَّها تخبرهم بالكوارث السياسية والاقتصادية التي تُفرض عليهم. سنعرض فيما يأتي إيجابيات العولمة وسلبياتها:
إيجابيات العولمة:
توجد إيجابيات عدة للعولمة، وسنذكر منها:
- الانفتاح الكبير من النواحي الاقتصادية والتجارية الذي شهده العالم، فقد كان التبادل التجاري والاقتصادي التربة الخصبة لنمو مفهوم العولمة؛ ومن ثَمَّ من البديهي أن يكون المجال الاقتصادي والتجاري هو المستفيد الأول منها، ومن الأمثلة على هذا الانفتاح الاقتصادي والتجاري بين الدول السوق الحرة والتجارة الحرة والأسواق المشتركة والشركات متعددة الجنسيات.
- أدت العولمة إلى حدوث حالة من التنافس العالمي على أسعار المنتجات، وهذا ما يمكن عدَّه من الصفات الإيجابية للعولمة؛ إذ تعزِّز هذه المنافسات من وجود السلع الدائم والخدمات، إضافة إلى انخفاض الأسعار وتوافر المنتجات وجودتها.
- من إيجابيات العولمة أيضاً زيادة فرص العمل وفرص التقدم بالأعمال؛ إذ أثَّرت العولمة الاقتصادية والتجارية في فرص العمل، فلم يعد الفرد مضطراً إلى العمل في مكانه الجغرافي، أو في حيه السكني، ولم تعد الجنسية أو الانتماء قيداً؛ بل أصبح العالم كله في متناول يده ليبحث عن فرص عمل مناسبة.
- العولمة ساهمت أيضاً في تقليص الفجوات الطبقية بين الناس، وهذا ليس إلا نتيجة منطقية لازدياد فرص العمل، وسهولة الحصول على الوظائف وانتشار مفهوم العمل الحر والعمل عن بعد، وكل هذه الأسباب جعلت الفجوة تقل بين الأغنياء والفقراء؛ وذلك لأنَّ الحصول على الفرص المناسبة أصبح بمتناول الجميع.
- لم تتوقف نتائج العولمة الإيجابية على الأفراد فقط؛ بل تخطتها إلى الابتكار والتكنولوجيا؛ فالتطور التقني الكبير جعل السباق بين الدول على أشده بهدف تطوير وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة، وهذا ما تنعكس نتائجه الإيجابية مباشرة على سوق العمل في كل المجالات، كما يُعدُّ منع احتكار الابتكار العلمي من قبل الدول المتقدمة من أفضل إيجابيات العولمة.
- وأيضاً وصلت إيجابيات العولمة إلى القوانين والتشريعات، ويظهر ذلك واضحاً من خلال المحاكم الدولية التي تحكم مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية.
- تغيرت المصطلحات المتعلقة بالنزاع بعد ظهور العولمة، فبدل أن كانت كلمة نزاع مسلح تطلق على الحروب الداخلية، وكلمة صراع تعبِّر عن حرب بين دولتين أصبح المصطلح الذي يعبِّر عن حالة النزاع واحداً، وهو مصطلح الصراع الدولي، وإن كان النزاع بين مدينتين في الدولة نفسها، والفائدة من هذا تكمن في حصول المجتمع العالمي على صلاحيات لحل هذا الصراع.
- استطاعت العولمة الحد من الجهل وسعت دائماً إلى القضاء عليه فعرَّفت الإنسان بأخيه الإنسان، ومع أنَّ اختلاف الأوطان وابتعاد المناطق الجغرافية عن بعضها حول العالم؛ فإنَّها فتحت المجال للاتصال الشخصي بين سكان العالم بصرف النظر عن تبعياتهم الفكرية والسياسية والاقتصادية.
- إيجابيات العولمة على الدول النامية تتمثل في استفادة الدول النامية من تطور الدول المتقدمة في مختلف المجالات الصناعية والطبية والمعرفية والعلمية والنمو الاقتصادي.
سلبيات العولمة:
نذكر منها:
- يعتقد المنظرون أنَّ العولمة هي السبب المساعد الأهم في تصنيع الإرهاب في دول العالم الثالث؛ ومن ثَمَّ لا بدَّ للدول المتقدمة أن تنال جزءاً من الإرهاب .
- عدم الطمأنينة في مجال العمل في الدول المتقدمة أحد سلبيات العولمة؛ إذ يستطيع رئيس العمل في الدول المتقدمة التي ترسخ مفهوم العولمة طرد الموظفين لأخطاء بسيطة معتمداً في ذلك على توفر أعداد كبيرة من الراغبين في العمل من مناطق مختلفة، وخاصة من الدول الفقيرة أو التي لا تمتلك فرص عمل كافية لكل مواطنيها.
- التقلبات المالية: الخطأ في سياسة المال لدولة ما في العالم قد يُحدِث تبعات سلبية على مجموعة دول أخرى، وهذه الخاصية السلبية تشترك فيها الدول المتقدمة والمتخلفة.
- العولمة والخطاب الإعلامي الواحد يؤثِّر سلباً في العالم؛ إذ يصبح الخطاب الواحد هو الحاكم؛ ومن ثَمَّ سيختفي الضوء عن بعض القضايا الهامة التي لا تتناسب مع مصلحة هذا الخطاب، وسيسلط الضوء على قضايا أخرى ربما لا تمس الفرد خاصة أو لا تصب في مصلحته.
- توجد بعض السلبيات التي تُحدِثها العولمة في الدول النامية حصراً، وهي: استغلال الدول المتقدمة لها من خلال الاستثمارات الأجنبية على أراضي الدول الفقيرة، التي تتيح للشركات الأجنبية الحصول على الموارد البشرية بتكلفة أقل، والحصول على المواد الأساسية بتكلفة أقل؛ ومن ثَمَّ الحصول على المرابح الهائلة عندما تعاد تلك المنتجات إلى ذات الدول عن طريق الاستيراد، كما أنَّ العولمة الثقافية بالنسبة إلى الدول المتخلفة، تعدُّ من أخطر الأسباب التي تؤدي إلى نزاعات قاسية بين أفراد المجتمع؛ إذ لا توجد بنية تحتية فكرية أو اقتصادية تستطيع تحمُّل كل ذلك التنوع العالمي في الأفكار والثقافات.
في الختام:
تبقى العولمة في النهاية من وجهة نظر بعض الأشخاص الاستجابة المنطقية لتطور العصر الحديث، وعلى الرَّغم من سلبيات العولمة تبقى الإيجابيات أكثر لأنَّها تجعل من العالم قرية صغيرة؛ وبذلك يستطيع الإنسان فيها الظهور بوصفه إنساناً بعيداً عن معتقداته ومنظوماته المحلية، التي تحد من التواصل بين البشر.
أضف تعليقاً