تجعل هذه المعارف الإنسانَ يعرف نفسه معرفة حقيقيَّة أيضاً، فيدرك ما يحتاجه حقاً، وما يصلحه وما يفسد حاله، فعلى قدر معرفة الإنسان بالله - جلَّ جلاله - يزداد التزامه وإيمانه وعبادته، وتعظم رحمته بخلق الله جميعاً؛ لذلك يعدّ الدين هو الدرع الواقي للمجتمعات، فهو ينظم العلاقات، ويحدِّد الواجبات والحقوق، ويمنع انتهاك الحرمات وسلب الطمأنينة والراحة؛ ليتميَّز المجتمع البشري عن سائر مجتمعات الكائنات الحيَّة، وهذا ما يجعلنا اليوم نتحدَّث عن مراتب الدين في الإسلام؛ ليكون المسلم قادراً على فهم حقيقة الدين، والوصول إلى أعلى مراتبه، فتابع معنا.
مراتب الدين في الإسلام:
أرسل الله - سبحانه وتعالى - النبيَّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لينير قلوب العباد بالدين الإسلامي، فيخرجهم من ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإيمان، ووفقاً للقرآن الكريم والسنة النبوية التي جاءت متمِّمةً له، فإنَّ مراتب الدين الإسلامي ثلاث، وهي كما يأتي:
أولاً: الإسلام
هو أوَّل مراتب الدين في الإسلام، ويُقصَد بالإسلام في اللغة العربيَّة: الانقياد والإذعان، أمَّا في الشَّرع، فعرَّفه أهل العلم بأنَّه: الاستسلام لله عزَّ وجلَّ، وبراءة الإنسان من الشِّرك والكفر، وذُكِر الإسلام في القرآن الكريم في عدَّة آياتٍ منها ما هو غير مقترنٍ بالإيمان كقوله تعالى: {إِنَّ الدينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران- 19)، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران- 85)، وأيضاً قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} (المائدة- 3)، وفي آياتٍ أخرى اقترن ذِكرُ الإسلام بالأعمال والأقوال الظاهرة، مثل قوله تعالى: {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات- 14).
المعنى العميق للإسلام هو اتباع أركان الإسلام الخمسة، وهي:
1. الشَّهادتان:
هي أوَّل ما يُبنى عليه الإسلام، وأوَّل مراتب الدين، وهي قول المسلم "أشهدُ أنَّ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله"، فيقر المسلم بذلك أنَّ الله وحده يستحقُّ العبادة والطَّاعة، وأنَّ النبي محمَّد - صلَّى الله عليه وسلم - هو نبيُّ الأمَّة الذي يجب الاقتداء به، وتصديق ما قاله، وطاعته والدِّفاع عن سنَّتِه دائماً.
2. الصلاة:
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (النساء- 103)، وهي من أعظم أركان الإسلام بعد الشَّهادتين، وتعدّ عمود الدين الإسلامي، فالمسلمُ يتقرَّبُ من الخالقِ بالصَّلاة، وهي من أعظم العبادات؛ لأنَّها تشمل: التكبير، والتسبيح، والتشهد، والسُّجود، والرُّكوع، والانحناء لله - عزَّ وجلَّ - لذلك أوَّل ما يُحاسَبُ عليه المسلم في يوم القيامة هو الصلاة.
3. الزكاة:
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة-103)، فمن أهمية الزَّكاة في الإسلام، قاتلَ الصَّحابة مانعيها في زمانهم، فهي فرضٌ على المسلمِ الذي تتوفَّرُ فيه شروطها.
4. الصوم:
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة- 185)، واجب على المسلم والمسلمة الامتناع عن الطعام والشراب وكل المفطرات في نهار رمضان، من طُلوع الفجر لغاية غروب الشمس، وفي الصيام تدريب للنَّفس على تحمُّل المشقَّة، والصبر، والابتعاد عن المعاصي وملذَّات الدُّنيا كافَّة، وما حرَّم الله.
5. الحج:
قال تعالى: {ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ} (آل عمران- 97)، وهو توجُّهُ المسلم إلى بيت الله الحرام في وقت الحج، وعبادة الله تعالى من خلال القيام بأعمال وأفعال محددة، مثل: الطواف حول الكعبة، والوقوف في عرفة، والسعي بين الصفا والمروة، وحج البيت لا يجب على جميع المسلمين إنَّما على القادرين جسديَّاً وماديَّاً مرة واحدة في العمر.
شاهد بالفديو: أحاديث الرسول محمد ﷺ عن الأخلاق
ثانياً: الإيمان
هو ثاني مراتب الدين في الإسلام، وفي اللُّغة: يُقصَد به التَّصديق، وقولُه تعالى دليلٌ على ذلك: {قَالُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍۢ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَٰدِقِينَ} (يوسف- 17)، أي إنَّ الإيمان يدل على الأعمال والأقوال القلبية التي يؤديها المسلم، وتؤكد تصديقه ويقينه بالمعتقدات، وبكل ما أتى في القرآن الكريم، وما ذُكِرَ في السنَّة النبويَّة.
في الشرع توجد حالتان أولهما أن يُطلَق على الأفراد دون أن يقترن بالإسلام، كما ورد في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة- 257) وكذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة-23) وفي قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال-2, 4) فالإيمان هو الالتزام الكامل باطناً وظاهراً.
الحالة الثانية هي اقترانُ الإيمان بالإسلام، والالتزامُ بأركانه كقوله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل- 2, 3).
أركانُ الإيمان ستَّة هي:
1. الإيمان بالله تعالى:
هو التَّصديق الجَّازم بوجود الله تعالى وحده لا شريك له، وباتِّصافه بالكمال، فهو الوحيد الذي يستحق العبادة.
2. الإيمان بالملائكة:
هو التصديق الجازم بوجودِ مخلوقات من نور لا يمكنُ للبشر رؤيتها، ومن صفاتِها أنّها لا تعصي الله عز وجل أبداً، ولا تنام، ولا تأكل ولا تتزوَّج.
3. الإيمان بالرسل:
هو تصديق الرّسل الذين أرسلَهم الله لهداية البشر، وأيَّدهم بالمعجزات والبراهين التي تدلّ على صدقهم، فمن أنكر رسالة أحد الرسل قد كفر.
4. الإيمان بالكتب السماوية:
هو تصديق الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الرسل؛ لتنير بصائر العباد.
5. الإيمان باليوم الآخر:
هو تصديق ما أخبرنا به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الآخرة والبعث والحساب والميزان والجزاء والجنة والنار.
6. الإيمان بالقدر خيره وشره:
هو الاعتقاد أن كل ما يجري في الكون من شر وخير هو بعلم الله - عزَّ وجلَّ - وبإرادته فيرضى المؤمن بما أقسمه الله تعالى له.
وردَت أركانُ الإيمان في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة- 177) وفي قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر- 49).
شاهد بالفديو: ما هي شروط وآداب الدعاء؟
ثالثاً: الإحسان
ثالث مراتب الدين في الإسلام، واستُنبِطَ تعريفه من قول الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - "أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، أي إنَّ المحسن هو من يشعر برقابة الله الدائمة له، فيخاف من معصيته في مختلف الظروف والحالات فالله حاضر في قلبه دائماً، ويتجلى في الإحسان معنى الإخلاص فالمخلص يتقن عمله دائماً، ومرتبة المحسنين عظيمة جداً، ويؤكد على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل- 128) والذين اتقوا هم من فعلوا ما أمر الله به، واجتنبوا ما نهى عنه من فواحش وكبائر ومعاصي، والتزموا بطاعته وأحسنوا عبادته بالقول والفعل، وأن يكون الله معهم ذلك هو الثواب العظيم.
ما هي أعلى مراتب الدين؟
مراتب الدين مرتبطة ببعضها، ولكنَّ أعلى مراتب الدين هي مرتبة الإحسان، ويمكن تصنيف مراتب الدين بداية من الإسلام، فهو يعدُّ دائرةً عامة تجمع كل الداخلين في الإسلام، ثم المرتبة الأعلى وهي الإيمان الذي يضم المسلمين ممن حققوا أركان الإيمان، فهو يخصص مجموعة محددة من المسلمين؛ لذلك كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، ثم أعلى مراتب الدين وهو الإحسان الذي يشمل الإسلام والإيمان معاً، والذي يبلغه فقط من أتقن الأعمال الظَّاهرة والباطنة؛ لذلك كل محسن مسلم ومؤمن ولكن ليس كل مسلم أو كل مؤمن محسناً.
لأنَّ مراتب الدين مرتبطة ببعضها؛ قد يكون للمسلم إيمان في جزء معين أو عبادة ما دوناً عن غيرها، وقد يكون محسناً في جزء معين، فمثلاً يكون المسلم مؤمناً بشدة بقضاء الله وقدره، أكثر بكثير من إيمانه بمراقبة الملائكة لأعماله.
في الختام:
مراتب الدين في الإسلام ثلاث، أولها الإسلام: والذي يشمل خمسة أركان يقوم عليها الدين الإسلامي، وهي: الشَّهادتان، والصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، وحجُّ البيت، وثاني مراتب الدين هو الإيمان: الذي يشمل الأعمال المادية والأقوال القلبية، ويشمل أركاناً قد ذكرناها في مقالنا منها الإيمان بالله وبملائكته وكتبه، أمَّا ثالث مراتب الدين الإسلامي فهو الإحسان: ويعدُّ أعلى مراتب الدين؛ لأنَّه يشمل الإسلام والإيمان معاً، فالمحسن يتقي الله، ويشعر بمراقبته الدائمة، ولا يعصيه أبداً، فيجمع بذلك بين الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، ويعبد الله كأنَّه يراه، والمحسنون هم الفائزون والمقرَّبون في أعلى الدرجات عند الله عزَّ وجلَّ.
أضف تعليقاً