ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون "آرثر برووكس" (Arthur Brooks)، والذي يُحدِّثُنا فيه عما تعلمه عن التعالي خلال قطعه رحلة حج بطول 100 ميل.
بينما فعلتُ أنا العكس في إجازتي؛ إذ سافرتُ مع عائلتي إلى مكان بعيد لأفعل شيئاً غير معتاد، فسافرتُ إلى "إسبانيا" وسرت مسافة 100 ميل على "طريق القديس يعقوب" (Camino de Santiago)، وهو شبكة من طرق الحجاج التي تؤدي إلى منطقة "جليقية" (Galicia) في شمال "إسبانيا"، والتي تجذب المسافرين من جميع أنحاء العالم منذ أكثر من ألف عام.
كانت هذه هي المرة الثانية التي أخوض فيها رحلة الحج هذه، والتي استمرت أسبوعاً بين القرى الريفية وعبر الطرق الرومانية إلى "كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا" (Cathedral of Santiago de Compostela) الشهيرة؛ حيث تقبع رفات "القديس يعقوب بن زبدي" (Saint James the Apostle).
تشتمل العديد من التقاليد الدينية على الحج، والذي يُعرِّفه الباحث "سوريندر موهان بهاردواج" (Surinder Mohan Bhardwaj) على أنَّه: "قطع مسافة ما من المنزل إلى المكان المقدس"، بدافع المشاعر أو المعتقد، تعبيراً عن التفاني في العبادة.
يُعَدُّ "طريق القديس يعقوب" (Camino de Santiago) أشهر حج في تقاليدي الكاثوليكية، وجذب الملايين منذ إنشائه في القرن التاسع الميلادي، لكنَّه تعرَّض للإهمال إلى حد كبير في القرن العشرين قبل أن يصبح مشهوراً مجدداً في القرن الحادي والعشرين، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى فيلم "الطريق" (The Way)؛ حيث تسير شخصية "مارتن شين" (Martin Sheen) على هذا الطريق في محاولة منه لتقبُّل وفاة ابنه، وزاد عدد الحجاج على طول "طريق القديس يعقوب" (Camino de Santiago) بأكثر من الضعف من عام 2009 إلى عام 2019.
لا بد من أنَّك تتساءل عن سبب إقدام الناس على ذلك، والسبب واحد؛ إذ يُعَدُّ المشي أحد أفضل التمرينات التي يمكننا ممارستها من أجل الصحة والسعادة، على سبيل المثال: في عام 2008، طلبت مجموعة من الباحثين من الأشخاص الذين لا يتحركون كثيراً عادةً أن يمشوا بانتظام، ووجدوا أنَّ هذا النشاط خفف من اكتئاب المشاركين وزاد نشاطهم، كما أظهرت دراسة أُجرِيَت عام 2016 أنَّ المشي المنتظم يعزز السعادة ويحسن الصحة النفسية لدى كبار السن.
لكنَّ هذا لا يبرر قطع الناس لتلك المسافة الطويلة خلال الحج، في الحقيقة؛ حيث تُسوِّق وكالات السفر لطريق القديس يعقوب على أنَّه مغامرة كي تقنع بعض المسافرين من أماكن بعيدة بالمشاركة في الرحلة، لكنَّ ذلك يحيِّرُني؛ لأنَّ هذا الحج ليس مغامرة على الإطلاق، فهو خالٍ من الإثارة ولا يتضمن سوى السير المتواصل لساعات كل يوم، وما من أخطار لتواجهها أو تحدٍّ كبير.
سرُّ طريق القديس يعقوب هو افتقاره تماماً للإثارة، فمن الصعب في البداية التأقلم مع الرتابة والهدوء، وفي بداية الرحلة يكون هناك صراع داخلي يعذب الحاج المعاصر غير المعتاد على الوجود بهدوء دون محفزات أو أمور تشد انتباهه كل دقيقة، وخلال ساعات المشي تدور آلاف الأفكار عن متطلبات الحياة المستعجلة في ذهنه، حتى قد يغريه التوقف ودخول كل مقهى على الطريق يقدم خدمة الإنترنت للتواصل مع العالم الخارجي.
ولكن بحلول اليوم الثالث تقريباً، تتلاشى هذه الأفكار وتظهر آثار المشي في إبطاء تسارع الأفكار لتطابق سرعة التفكير سرعة حركة الجسم بوتيرته الطبيعية وغير القسرية، ويصبح السير شبيهاً بعزف مقطوعة موسيقية طويلة لها سرعتها التي لا يمكنك زيادتها أو إبطاءها.
إذا سلَّم المرء نفسه لهذه الموسيقى، يصبح طريق القديس يعقوب شكلاً من أشكال التأمل في أثناء المشي الطويل، وهو ممارسة موجودة في العديد من التقاليد الدينية، وكُتِب عنه: "كل نَفَسٍ يقظ، وكل خطوة واعية، تذكِّرُنا بأنَّنا أحياء على هذا الكوكب الجميل، ولسنا بحاجة إلى أي شيء آخر، فيكفيك روعةً أن تكون على قيد الحياة وأن تتنفس وتخطو خطوة واحدة"، وقدَّم اختصاصي علم اللاهوت الياباني "كوسوكي كوياما" (Kosuke Koyama) تفسيره؛ حيث كتب أنَّ السرعة التي يمشي بها البشر "هي سرعة حب الله".
شاهد بالفيديو: 7 فوائد للمشي التأملي
بالنسبة إليَّ، ظهرت أكثر آثار الحج تعالياً بعد أيام قليلة؛ إذ يدور "طريق القديس يعقوب" حول رحلة المشي وليس الوصول إلى الوجهة؛ مما يجبر المرء على التركيز في اللحظة الراهنة والوقوف عن مطاردة الرضا ومحاولة الوصول إليه عبر تحقيق إنجازات أكبر والحصول على مكافآت أفضل دون نتيجة.
يدرك المرء خلال "طريق القديس يعقوب" أنَّ الإنجاز لا يمكنه تحقيق الرضا حين تكون اللحظة الحالية مجرد صراع يجب أن تتحمله سعياً إلى بلوغ المستقبل؛ وذلك لأنَّ هذا المستقبل سيصبح بدوره حاضرنا الجديد وصراعاً جديداً، فلن نصل أبداً إلى نهايتنا السعيدة، لكن إذا أردنا أن نشعر بالرضا الحقيقي، فيجب أن نركز في المسيرة التي هي الحياة وسلسلة اللحظات الحالية.
تحمل كل لحظة حاضرة متعة صغيرة تفوتنا عندما نركز فقط في الحصول على شيء أكبر وأفضل، كما ذكر المؤلف "جريج ماكيون" (Greg McKeown) في كتابه "العودة إلى الجوهر: السعي المنضبط إلى بذل الأقل" (Essentialism: The Disciplined Pursuit of Less).
على سبيل المثال: ذات صباح خارج مدينة "كالداس دي ريس" (Caldas de Reis) التي تعود للقرون الوسطى، عثرنا على زهرة غريبة جداً تدعى "زهرة الآلام الشائعة" (blue passion flower)، يعود أصلها إلى "أمريكا الجنوبية" ولكنَّها توجد اليوم في "جليقية".
تحمل هذه الزهرة هوائيات غريبة المظهر تعلو بتلات ثلاثية الألوان تشبه الخيوط، والتي تتفتح من أوراق متناظرة تماماً، ثم حدَّقنا في هذه الزهرة مذهولين لمدة 10 دقائق؛ حيث سيكون الاستمتاع بهذا الأمر البسيط مستحيلاً في أي يوم عادي؛ وذلك لأنَّني أقضيه - كما عائلتي - في السعي إلى مكاسب دنيوية لا تقارن بمتعة التحديق في تلك الزهرة.
ولو أمضينا رحلتنا في التفكير في الوزن الذي سنخسره بعد المشي لمسافة 100 ميل، أو كم سينبهر الناس بالصور التي التقطناها عند نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، لما لاحظنا الزهرة حين سرنا إلى جانبها.
مثل هذا الانفصال القسري عن الطموحات العادية يطغى على حياة المرء مؤقتاً، ولكن تذكَّر، أنت شخص واحد من سبعة مليارات إنسان على وجه الكرة الأرضية، ولا يعني ذلك أنَّك غير هام أو أنَّك مثل أي شخص آخر؛ بل الفكرة من تذكُّر ذلك هي تشجيع نفسك على توسيع منظورك الضيق الذي يركز في حياتك وعملك وعلاقاتك وأموالك، وهذا صعب في العادة، لكنَّه سهل خلال "طريق القديس يعقوب".
فبينما كنتُ أسير، تصورتُ نفسي كواحد من 7 مليارات شخص موجودين لفترة وجيزة على الأرض التي كانت وستكون موجودة لملايين السنين، من الماضي إلى المستقبل، لم أُفكِّر في عدم أهمية حياتي؛ بل في عدم أهمية التفاصيل الدنيوية التي ألهيتُ بها نفسي عن الحقائق التي تتجاوز المفاهيم المادية، على سبيل المثال: فكرتُ كم أنَّ فقدان هاتفي المحمول لا أهمية له عند مقارنته بما يحصل في العالم أجمع.
بينما تشير الخطوات إلى كل لحظة حاضرة، ويقدم المشي باستمرار ليوم كامل نوعاً مختلفاً من الفوائد؛ إذ إنَّ يوماً واحداً هو تماماً ما تحتاج إليه للتركيز في الصلاة أو التأمل في الأمور الجيدة التي تحيط بك، ففي أحد الأيام التي مشيتُ فيها، ركزتُ في أمر شخصي، وهو ابني الذي يعمل ضابطاً في البحرية، وفي يوم آخر كان تركيزي عالمياً، في شعوب العالم التي تعاني من الفقر والصراع؛ وفي النتيجة خلق هذا التركيز إحساساً بالحب والتعاطف تجاه كل موضوع تركيز، وفي النهاية توصلتُ إلى قرار بالتصرف وفقاً لتلك الأحاسيس.
التأمل ليس أسمى هدفٍ للمشي؛ إذ كتبَ الكثيرون عما يسمى "مسير التلذذ" (savoring walk)، وهي ممارسة التركيز في الأحداث الإيجابية في حياتك في أثناء المشي؛ مما يساعدك على تذوُّق السعادة، ومارستُها طوال فترات الحجر الصحي في مدينتي؛ حيث كنتُ أجول في الحي الذي أعيش فيه كل ليلة بعد العشاء، ورحلات المشي هذه هي بعض من أجمل ذكرياتي عن تلك الفترة.
وتابعتُها منذ ذلك الحين، وساعدَتني دون أن أدري على الاستعداد لطريق القديس يعقوب، ومنذ اللحظة التي بدأَت فيها الرحلة شعرتُ بالامتنان، لوجود عائلتي وإيماني وأصدقائي وعملي، وأيضاً لقدرتي على شرب الماء والاستلقاء على وسادة ناعمة في الليل.
على الرغم من جهودي هنا لوصف طريق القديس يعقوب، إلَّا أنَّها بطبيعتها تجربة لا توصف، وتجربة شخصية للغاية؛ حيث كتب الشاعر الصوفي "جلال الدين الرومي" أنَّ الحياة هي: "طريقك وحدك، فقد يسير معك الآخرون، لكن لا أحد يستطيع أن يسير عوضاً عنك"، سواءً تسافر إلى مكان مشهور أم تسير في الغابة، يمكن أن يغير الحج والمسير فهمك لحياتك؛ وذلك لأنَّه يساعدك لترى كم أنَّ حياتك ضئيلة الحجم مقارنة بالكون، وكم أنَّها مُرضية ومليئة بالأمور الجميلة على الرغم من ذلك.
أضف تعليقاً