أكَّدت الدراسات أنَّ العمل يساعد على تقليل آثار العجز مع مرور الزمن، كما يساعد على بناء العلاقات الاجتماعية، والتعرُّف إلى مختلف أطياف المجتمع، ويبعدنا العمل عن الوحدة والعزلة، ولكن تخيَّل أنَّ العمل ذاته قد يسبِّب لك إرهاقاً يؤدي إلى تدمير صحَّتك البدنية والعقلية للأسف، فهل سبق أن شعرت بأنَّك مُنهَك في أثناء العمل؟ هل وصلت لمرحلة شعرت فيها بالعجز وعدم القدرة على المضي للأمام؟
لا تقلق، فقد مرَّ كثير من الناس بالتجربة ذاتها، فظروف الحياة مجهدة، ووجودك في مكان عمل غير مريح، يعني وصولك لحالة من الضغط والتوتر والاحتراق النفسي أيضاً، واحتمال الإصابة بالاحتراق النفسي في مكان العمل موجود في مختلف المهن والوظائف، فما هو الاحتراق النفسي؟ وكيف يمكن تجنُّبه؟
سنقدِّم الأجوبة عن هذه الأسئلة في مقالنا، فتابع القراءة.
الاحتراق النفسي
ظهر هذا المصطلح للمرة الأولى في السبعينيات في الولايات المتحدة، وأطلقه الطبيب النفسي "هربرت فرودنبرجر" على حالة الإجهاد والتوتر الشديد الملازمة لبعض المهن، مثل الأطباء والممرِّضين والمعلِّمين، ثمَّ أصبح المصطلح أكثر شمولية؛ لأنَّ حالة الإجهاد تلك تُصيب أيضاً الطلاب وربَّات المنازل وغيرهم ممن يعانون من فرط المطالب، وكثرة المسؤوليات، والضغط الزمني، والخلاف مع المحيطين من زملاء أو رؤساء في العمل.
يجمع بين تلك الحالات أَنَّ الإنسان يصل إلى مرحلة يشعر بها بأنَّه منهك القوى، ولا يمكنه المضي قدماً مهما كان طموحه عالياً؛ لأنَّ الإجهاد أصبح أقوى من الأفكار والمشاعر الأخرى، كما يسيطر عليه الحزن والغضب، أو اللامبالاة وصعوبة التأقلم مع الآخرين، وصعوبة النوم، وربما يلجأ للكحول والمواد المخدِّرة؛ ليتمكَّن من نسيان بعض همومه.
قد تسبِّب حالة الاحتراق النفسي التي يشعر بها الإنسان في مكان عمله الاكتئاب والتفكير بالانتحار؛ لإنهاء حالة التعب، وترى منظَّمة الصحة العالمية أنَّ الاحتراق النفسي الوظيفي هو ظاهرة مهنية وليست حالة طبية؛ لذا لا يمكن تشخيصه بالخضوع لفحص طبي.
أسباب الاحتراق النفسي في مكان العمل
قد يصل الموظَّف لمرحلة الاحتراق النفسي نتيجة عدَّة عوامل أبرزها ما يأتي:
1. عدم القدرة على السيطرة
يحتاج الإنسان إلى بعض الحريَّة في اختيار الأشياء التي يحتاجها لينجز عمله، وإلى الاستماع لرأيه ووجهات نظره في المشكلات وطريقة العمل؛ لكي لا يشعر أنَّه كالآلة التي تنفِّذ الأوامر فحسب، ويسبِّب فقدان هذه المساحة من الحريَّة حالة من التوتر والإجهاد النفسي الشديد.
2. عدم فهم المطالب
سيعيش الموظَّف حالة من التوتر في أثناء العمل، ولن يقوم بعمل جيِّد غالباً، إذا لم يفهم ما هو دوره بالتحديد، وما هي النتائج التي ينتظرها المدير منه.
3. الخلافات في مكان العمل
لن يصبر الإنسان كثيراً على التنمُّر، أو المؤامرات التي تُحاك ضده، أو تدخُّل الزملاء في عمله تدخُّلاً خاطئاً، أو إهانة المدير له، مهما كانت قدرته على التحمُّل عالية.
4. كثرة المسؤوليات
سيُصاب الموظَّف بالإجهاد، إذا اضطرَّ للعمل في أكثر من وظيفة، أو لساعات إضافية.
5. غياب الأمن الوظيفي
قد يسبِّب القلق المستمر، والخوف من فقدان الوظيفة التوتر وضعف الإنتاجية، وهذا يؤثِّر سلباً في الحالة النفسية، ويتفاقم هذا التأثير مع الوقت.
6. عدم التوافق مع القيم والمبادئ
ستُصاب بفقدان الحماسة تجاه العمل، ومن ثمَّ الاحتراق الوظيفي، إذا كانت طبيعة وظيفتك تخالف قواعدك الأساسية وقيمك في الحياة.
7. صعوبة التوفيق بين العمل والحياة الشخصية
قد يستنفد العمل طاقة الإنسان وجهده، ويعوق بناء حياة شخصية جيدة وناجحة، وهذا يزيد من ضغطه النفسي وعجزه؛ فيصل للاحتراق النفسي الوظيفي.
شاهد بالفيديو: 5 خطوات لمواجهة الاحتراق الوظيفي
كيفية تجنُّب الاحتراق النفسي الوظيفي
يُعدُّ الاحتراق النفسي خطيراً جداً، ولكنَّه ليس نهاية الحياة، ويمكنك التعافي منه، أو تجنُّب الوقوع فيه من خلال الطرائق الآتية:
1. الإجازات
يمكن الحصول على إجازات تقلِّل من احتمال الوصول للاحتراق النفسي، فتساعد الإجازة على شحن الموظَّف بالطاقة الإيجابية مجدَّداً، وتخليصه من المشاعر السلبية والضغط؛ ليعود للعمل بعد الإجازة بحماسة وحافز كبير، ويحقِّق الأهداف المرجوَّة.
يجب التفكير خلال الإجازة بالأسباب التي تجعلك ممتنَّاً لكونك في هذا العمل من خلال التركيز على النقاط الإيجابية، فمثلاً الطبيب لا يمكنه تغيير مهنته، بل يمكنه التفكير بأنَّها مهنة إنسانية، ويعيش بفضل جهوده عدد من الأشخاص حياة أفضل يومياً.
تساعد ممارسة التفكير بالأشياء الإيجابية على تخفيف التوتر، وتصبح مع الوقت عادة نقوم بها حتى في أوقات الراحة؛ لنحتفظ بحماستنا في أثناء العمل.
2. الحصول على الدعم
لا تتردَّد في طلب الدعم النفسي والمساعدة من الأشخاص الذين تثق بهم، كزوجتك أو صديقك، ولا تعتقد أنَّك تزعجهم بهمومك، فتساعدك مناقشة مشاعرك السلبية والضغوطات التي تمرُّ بها معهم على تقليل الضغط.
يُنصَح باللجوء إلى متخصِّص في الصحة النفسية في حال لم تشعر بالتحسُّن؛ ليزوِّدك بالاستراتيجيات الضرورية لتجاوز هذه الحالة، والتغلُّب على التحديات.
3. تحديد الأولويات في العمل
واجِه كثرة الطلبات والمهام في العمل بإعداد جدول عمل خاص بك تحدِّد فيه تسلسل المهام تبعاً لأهميَّتها، وتنظِّم وقت البدء والانتهاء من العمل، والمدة اللازمة لكل عمل؛ لتمنع نفسك من الغرق في بحر الأعمال دون جدوى.
يمكن استخدام تطبيقات متنوِّعة في الهاتف المحمول أو غيره للمساعدة على تذكيرك بالأعمال في الوقت المطلوب.
4. محاولة اكتساب الاستقلالية والسيطرة
يمكنك تغيير حالة الضغط في عملك من خلال التحدُّث مع المشرفين أو رئيس العمل، ومناقشتهم في الوقت، أو كثرة المهام، أو عدم حصولك على حرية اتخاذ القرارات، أو بتدخُّل الزملاء في عملك، فقد يتفهمَّك المشرف، ويمنحك حقوقك في العمل، ويحاول منحك بعض الحرية التي تقلِّل من توترك.
5. الاستراحة خلال العمل
لا تُحرِق نفسك في العمل، مهما كانت المهام كثيرة، والضغط الزمني كبيراً؛ لأنَّ صحتك الجسدية والنفسية أهم من كل شيء، فخذ استراحة خلال العمل لمدة ربع ساعة على الأقل، وتناول شيئاً يمنحك الطاقة، مثل قطعة من الشوكولا مع فنجان من القهوة، أو بعض المكسَّرات أو قطعة فاكهة، ويمكنك المشي قليلاً، أو ممارسة تمرينات التنفُّس العميق؛ ليخفَّ الضغط، ويزداد التركيز.
6. الفصل بين الحياة العملية والشخصية
ركِّز على نجاح حياتك الشخصية كما تركِّز على نجاح حياتك المهنية؛ وذلك بالفصل بينهما، فعندما ينتهي وقت العمل يجب أن تعود للمنزل متناسياً كل الضغوطات من خلال تجنُّب العمل في المنزل، أو كثرة الاتصالات المتعلِّقة بالعمل، والتركيز على تناول الطعام مع العائلة، وتخصيص وقت للنشاطات مع الأصدقاء.
احرص دائماً على القيام بأشياء مميَّزة مثل رحلات لأماكن جديدة، أو حضور حفلة موسيقية، أو تناول العشاء في مكان جديد مع الأشخاص المقرَّبين منك؛ لأنَّ هذه النشاطات قادرة على إخراجك من حالة الضغط المهني والتوتر، وتخفيف العبء لتعود في اليوم الثاني إلى عملك محمَّلاً بأفكار جديدة وذهن صاف.
7. تحسين صحَّتك الجسدية
"العقل السليم في الجسم السليم" تذكَّر ذلك دائماً، فإن أردت أن تنتج أكثر، وتتميَّز في عملك، وتكون في صحَّة نفسية جيدة في الوقت ذاته؛ عليك التمتُّع بصحَّة جسدية جيِّدة، وذلك عن طريق اتِّباع نظام غذائي يشمل وجبات صحية تقدِّم للجسم الفيتامينات والمعادن الضرورية للشعور بالطاقة والراحة، إضافة إلى الحرص على النوم الجيِّد، وممارسة التمرينات الرياضية باستمرار.
8. الابتعاد عن الأشخاص السلبيين
يمتصُّ الشخص السلبي الطاقة، ويجعلك ترى الحياة بسوداوية، وتُركِّز فقط على نقاط الضعف والجوانب السلبية في شخصيَّتك وفي عملك، وهذا يدفعك للاحتراق النفسي بسرعة؛ لذلك حاوِل تجنُّب النقاش والحديث مع هذا النوع من الأشخاص، سواءً في مكان العمل أم خارجه.
9. تغيير العمل
في حال اتَّبعتَ الخطوات السابقة بدقة، وحاولت جاهداً تقبُّل المسؤوليات وبيئة العمل الحالية، ولم ينفع ذلك في تحسين حالتك النفسية وعلاج الاحتراق النفسي الذي تعيشه؛ عليك إحداث تغيير كلِّي في حياتك المهنية، مثل تغيير مكان العمل، أو تغيير المهنة، ولكن ادرس الخيارات المتاحة جيِّداً، وتأنَّ في اختيار البديل؛ لتعيش حياة مهنية أفضل مستقبلاً.
في الختام
يُعدُّ الاحتراق النفسي في مكان العمل حالة نفسية لا تتعلَّق بعمل معيَّن، فجميعنا معرَّضون للإصابة بها، ولا يمكن تشخيصها طبيَّاً؛ لأنَّها شعور بالإرهاق والضيق وفقدان الحماسة، ليصبح الإنسان غاضباً أو لا مبالياً طوال الوقت، فيفشل في حياته المهنية والشخصية.
يمكن تجنُّب الاحتراق النفسي والتغلُّب عليه من خلال فصل الحياة المهنية عن الشخصية، والسعي للحصول على بعض السيطرة والحرية في العمل، وتنظيم المهام، والتحكُّم بالوقت، والحرص على الحصول على إجازات باستمرار؛ كونها تعيد شحن الإنسان بالطاقة الإيجابية، ويُفضَّل الحصول على وقت للاستراحة خلال العمل؛ لتخفيف الضغط، والحصول على طاقة تساعد على العودة للعمل بتركيز أعلى.
يجب أيضاً الابتعاد عن الأشخاص السلبيين، والحصول على الدعم النفسي من المقرَّبين، وربما من متخصِّصي الصحة النفسية، وكذلك اتباع أسلوب حياة صحي ليبقى الجسد بحالة جيدة، وهذا يحافظ على الصحَّة العقلية والحالة النفسية الجيِّدة أيضاً.
أضف تعليقاً