ختمت مقالتي الأولى بأنَّ القادم سيكون قصةً واقعيةً لأستاذ جيولوجيا بريطاني، والذي أنقذته من الإفلاس مخطوطاتٌ حجريةٌ عمرها آلاف السنين؛ وذلك لأنَّها تحتوي على قوانين المال الصالحة لكلِّ زمانٍ ومكان. وأنا عند وعدي، وسأفعل إن شاء الله؛ إلَّا أنَّ الضرورة تستدعي التحدُّث قبل ذلك عن الشغف والإجابة عن السؤال الذي يتكرَّر: كيف أحدِّد شغفي؟ لأنَّها المرحلة الثانية بعد أن تعقد العزم على اجتياز مرحلة الحديث عن التغيير إلى مرحلة إحداث التغيير؛ وهنا قد يتوه بعض الناس في تحديد ما الذي يريدون تعلُّمه، وفي رسم معالم طريق المرحلة القادمة (مرحلة تحويل الأفكار إلى واقع).
ما هو الشغف؟ ولماذا الشغف؟
الشغف: تعلُّق الإنسان بالشيء قلباً وقالباً، فيحبُّه ويولع به. مثلاً: نقول فلانٌ شغوفٌ بالقراءة، وآخر شغفه الرياضة؛ بمعنى أنَّه لا يملُّ من ممارستها، وفي كلِّ مرةٍ يقوم بها بالنشاط والحيوية نفسهما.
تقول أوبرا وينفري (Oprah Winfrey): "الشغف هو طاقةٌ وشعورٌ بالقوة، مصدره التركيز على ما يحمِّسك".
ما أثارني في مقولة "أوبرا" هو عبارَتَي "طاقة، وقوة"؛ لأنَّهما الوصف الدقيق للشغف، وفي الوقت نفسه الجواب عن: لماذا الشغف؟ ببساطةٍ لأنَّ طريق النجاح طويلٌ ويحتاج نفساً أطول، وكما هو معروف: "بالمثال يتضَّح المقال"؛ لذا إليكَ المثال التالي: إن لم يكن هناك وقودٌ كافٍ في السيارة، فلن تصل إلى وجهتها، بل ستقف وسط الطريق. إذاً، الوقود والطاقة هما الشغف، والشغف هو الأساس.
أن تعيش شغفك يعني أن تمتلك الطاقة الكافية للتشبث بأحلامك إلى حد تحقيقها، فشغفك هو الذي يمنحك القوة لمواجهة الصعاب التي تعترض طريقك نحو القمَّة.
- الشغف: تلك اليد الحانية التي ترفعك كلَّما سقطت، وذلك الصوت الخافت الذي لا يسمعه أحد إلَّا انت، والذي يقول لك: "استمر دون ملل، وقاوم دون كلل".
- الشغف: المنبه الذي يوقظ القلب قبل العقل كلَّ صباحٍ للقيام بالمهام نفسها مهما كانت صغيرة.
- الشغف: ذاك الإحساس الذي ينسيك الوقت والتعب، ويجعلك تنصهر بما تقوم به؛ لأنَّ ما تفعله يتماشى مع طبيعتك، ويتناسب مع شخصيتك، وترتاح له نفسك.
- الشغف: ما يجعلك تتفوَّق على الآخرين؛ لأنَّك ستطالع عن شغفك وتقرأ وتتبحَّر وتتقن ما أنت شغوفٌ به.
في قصص الناجحين قد يغيب الذكاء، لكن لا يغيب الشغف؛ لأنَّه ببساطةٍ الرافعة التي تُخرِج المرء من الإطار الذي أُجبِر على العيش فيه إلى مكانٍ فسيحٍ اختاره لنفسه.
والأعظم من كلِّ هذا: القيادة الرشيدة لسيدنا محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- والذي كان يكلِّف الصحابة -رضي الله عنهم- كلٌّ بما يميل إليه وما هو شغوفٌ به، حتَّى أبدع كلٌّ منهم في مهمَّته المنوطة به، فكان شعر حسان بن ثابت يشبه وقع السيف على العدو؛ ذلك لأنَّه كان شغوفاً بالشعر لا بالسيف.
إنَّ الأمثلة على ذلك كثيرة، فأبو هريرة -رضي الله عنه- شغوفٌ بحفظ حديث المصطفى، وهو ما دفعه للتردد كثيراً على الحبيب -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتَّى حفظ وروى عنه الكثير من الأحاديث.
خطواتٌ تسهِّل عليك التعرُّف على شغفك:
إنَّ الأمر يحتاج إلى وقفةٍ حقيقيةٍ مع النفس بعيداً عن كلِّ ما من شأنه أن يشوِّش التفكير. إليكَ الخطوات لتحديد الشغف، وذلك من خلال الإجابة عن هذه النقاط. أحضر ورقةً وقلماً ودوِّنها، ثمَّ أسقطها على نفسك، وستمكِّنك من تحديد ما تحبُّه وما تميل إليه أكثر:
1. البداية بما تكره:
نعم، دوِّن قائمةً بالأمور التي تكرهها والأشياء التي لا تجد نفسك فيها، سواءً كانت وظيفة، أم مهنة مهارة، أم نوعٌ من الرياضة، وغيرها. بهذه الطريقة ستضيِّق أمامك مجال البحث، وستصبح الرؤية أكثر وضوحاً.
2. فقدان الشعور بمرور الوقت:
الانهماك في أمرٍ دون الشعور بمرور الوقت من أهمِّ الإشارات على أنَّك تعيش شغفك. أي أن ينسيك الأمر التعب البدني؛ لأنَّ الاستمتاع النفسي هو السائد في تلك اللحظة، والتي ربَّما تظنُّها لحظةً إلَّا أنَّها في توقيت الكرة الأرضية ساعاتٌ من الزمن مرَّت دون أن تعير لها الانتباه.
أسقط هذا على الدراسة، فمثلاً: المادة التي تحسب لها الدقائق، لست شغوفاً بها؛ على عكس تلك التي تأسرك، فتتابع المُدَرّسَ باهتمامٍ ويمرُّ الوقت وتكره أن يمرَّ أو ينقضي هذا الوقت؛ هذه تُأَكِّدُ أنَّك شغوفٌ بها دون غيرها.
3. الاهتمام بمجالٍ دون الآخر:
الاهتمام: أن يشغل بالك أمرٌ معيَّنٌ دون سواه، وأن تبحث لتتعرف أكثر عن الشيء الذي تحبُّه، وأن تبحث عن كلِّ ما يتعلَّق به، وأن يُلفِت انتباهك إلى أدق التفاصيل؛ وهو علامةٌ من علامات الشغف بالشيء.
4. السعي نحو الإتقان:
إن وجدت نفسك تعمل بجد، وتبحث عن إتقان ما تقوم به، وتسخِّر كل طاقاتك العقلية أو البدنية بهدف الوصول إلى قمة الإنجاز، ولن يهمك في سبيل تحقيق ذلك حجم التعب؛ فأنت شغوفٌ بما تفعل.
إذا قمت بجردٍ موضوعي، تستطيع تحديد الشغف، وتكون قد خطوت خطوةً كبيرةً نحو بناء المستقبل الذي تريده أنت، لا الذي يريده لك غيرك؛ "فإذا كنت تحبُّ ما تفعله، فلن تعمل يوماً في حياتك".
بالودِّ المعتاد ألقاكم في المقالة الثالثة من العشر لكسر الحجر.
أضف تعليقاً