في المجتمع الخليجي؛ إذ الضغط الاجتماعي يتطلب من المرأة أداء دور متعدد الجوانب سواء في العمل، أو كزوجة وأم، أو حتى في عالم التجارة، يصبح من الواضح أنّ القوة الحقيقية لا تكمن في تحمل كل شيء بمفردك، بل في قدرة المرأة على طلب الدعم من المحيطين بها، سواء من الزوج، أو الأبناء، أو حتى العاملات المساعدات في البيت. فالتعاون هو الذي يسهم في الحفاظ على التوازن النفسي والعملية الإنتاجية، بينما الاستقلالية المفرطة قد تؤدي إلى الضغط والإرهاق النفسي، مما ينعكس سلباً على الصحة والعلاقات.
ما الذي يحدث في الواقع؟
في الممارسة اليومية، يخفي كثيرٌ منّا الصعوبات والمشكلات تحت عباءة "أنا قادر/ة وحدي". ينبع هذا السلوك من معتقدٍ شائع، ألا وهو: إذا طلبتُ المساعدة سيظن الناس أنني عاجزة.
يُعد هذا الاعتقاد متجذّراً في الثقافة التي تمجّد الاستقلالية والاعتماد على الذات؛ مثلاً، في مواقع تدريب الأطباء أو في المستشفيات الأكاديمية، يُحثّ الأفراد غالباً على "البقاء أقوياء"، وتجنب إظهار التردد أو الحاجة للآخرين، خوفاً من أن يُنظر إليهم كمن لا يتحمل مسؤولياته.
كما وجدت دراسة (Stigma: A Barrier in Supporting Nurse Well-Being During COVID-19) - "الوصمة: عائق في دعم صحة الممرضات خلال جائحة كوفيد-19"، أنّ الخوف من الحكم الاجتماعي يعيق الممرضات من طلب الدعم النفسي أو العاطفي.
شاهد بالفيديو: كيف تمضي بحياتك قدماً؟
الآثار السلبية لهذا المعتقد
يؤدي الاعتقاد الخاطئ بأنّ كل شخص يجب أن يتحمل كل شيء بمفرده إلى عواقب وخيمة على صحته النفسية والجسدية:
1. عزلة تزيد من الإرهاق والضغط النفسي
عندما لا يُطلب الدعم، يشعر الشخص بأنّه على جزيرة منعزلة. أكّدت دراس (Perceived stress from social isolation or loneliness among clinical and non-clinical healthcare workers during COVID-19) - "الضغوط المتصورة بسبب العزلة الاجتماعية أو الشعور بالوحدة بين العاملين في مجال الرعاية الصحية السريرية وغير السريرية أثناء جائحة كوفيد-19"، أنّ الشعور بالوحدة أو الانعزال بين العاملين الصحيين مرتبط مباشرةً بزيادة الضغوط المهنية والإرهاق النفسي.
2. استنزاف عاطفي يجعل التعامل مع الأسرة والعمل أصعب
يُخلّف الجهد المستمر دون راحة أو توزيع للمهام شعوراً بالاحتراق النفسي؛ إذ تبدو العلاقات العائلية والمهام خارج مكان العمل كعبء إضافي وصراع جديد يضاف إلى المعركة الطويلة؛ فالطاقة المستنفدة تجعل التعامل مع الأحباء أكثر صعوبة.
مثلاً، يؤكّد تقرير من وزارة الصحة الأمريكية أنّ الاعتماد الدائم على الذات، دون شبكة دعم، يزيد من معدلات الأخطاء ويقلل القدرة على التركيز، مما يؤثر سلباً في جودة التفاعلات الأسرية.
3. شعور مستمر بأنّ عليكِ أن تكوني "البطلة الخارقة" التي لا تنهار
ينتج هذا الشعور من الضغط الداخلي والخارجي: التوقعات بأنّ عليك أن تكوني قادرةً على الإحاطة بكل شيء — الإشراف على العمل، وإدارة الأزمات، والتواصل مع الزملاء والعائلة — دون أن يُرى منك أي ضعف. وفي الغرب، مثل الولايات المتحدة، يعترف كثيرون بأنّهم مرّوا بأوقات احتاجوا فيها مساندةً، ولكن كتموها خوفاً من العزلة أو فقدان فرص الترقية.
في النهاية، تنتهي القصة بأن تكوني محاطةً بالمسؤوليات والمهام، والتوقعات العالية منك، لكن من دون شبكة أمان تشدّك إذا تعثّرت. فأنتِ بطلة خارقة في الظاهر، لكن تعبك، ضغطك، شعورك بالذنب أو العجز يغلي في الداخل.
التفسير من وجهة نظر العلم
يؤكد علم النفس أنّ الدعم الاجتماعي ليس رفاهية بل درع وقاية فعّال ضد الضغوط النفسية والجسدية.
تشير دراسة (Social Support Can Buffer against Stress and Shape Brain Activity) - "الدعم الاجتماعي يمكن أن يخفف من التوتر ويشكل نشاط الدماغ"، إلى أنً الأشخاص الذين يملكون دعماً اجتماعياً عالي الجودة يمتازون بقدرة أكبر على التكيّف مع المواقف الصادمة أو الضاغطة، وأنّهم أقل عُرضةً للإصابة باضطرابات، مثل الاكتئاب أو الإجهاد النفسي الحاد.
كما تظهر المراجعة أنً الدعم الاجتماعي يخفّف من نشاط نظام فرط الحساسية في الجسم، ويقلّل من إفراز هرمون الكورتيزول المرتبط بالإجهاد، ويزيد من إفراز الأوكسيتوسين الذي يعزز الشعور بالأمان والاتصال مع الآخرين.
في مجال المهن الصحية: وجدت دراسة بعنوان (Effect of social support on anxiety of medical staff one year after COVID-19 outbreak) - "تأثير الدعم الاجتماعي في قلق الطاقم الطبي بعد عام من تفشي كوفيد-19"، أُجريت على 839 من العاملين الصحيين، أنّ مستوى الدعم الاجتماعي يملك تأثيراً وسطياً على خفض أعراض القلق لديهم؛ أي أنً مجرد الشعور بأنً هناك أشخاصاً مستعدين للمساندة يعطي تأثيراً إيجابياً على الصحة النفسية.
أيضاً، وجدت دراسة (The role of social support and emotional exhaustion in the association between work-family conflict and anxiety symptoms among female medical staff: a moderated mediation model) - "دور الدعم الاجتماعي والإرهاق العاطفي في العلاقة بين صراع العمل والأسرة وأعراض القلق لدى العاملات في المجال الطبي: نموذج وساطة معتدل"، أنّ الدعم الاجتماعي يعمل كعامل موازن بين الضغوط المهنية والصراع بين العمل والحياة الشخصية من جهة، والاستنزاف العاطفي والقلق من الجهة الأخرى.
بمعنى آخر: عندما تطلبين المساعدة، فأنتِ تُفعّلين هذه الدوائر الحيوية—خفض الكورتيزول، ودعم النظام العصبي، وتفعيل الأوكسيتوسين، وتخفيف الضغط الإدراكي والعاطفي. لذا فطلب المساعدة ليس علامة ضعف، بل هو مثل وضع وسادة هوائية قبل الاصطدام—تحميكِ من الكسر، وتقلل الضرر، وتعزز الاستمرارية.
شاهد بالفيديو: من الإرهاق إلى الإنجاز: كيف يحول الكوتش ضغوطك اليومية إلى قوة دافعة؟
حقيبة الحلول العملية
يقول عالم النفس ألبرت باندورا: «القوة لا تكمن في إنكار الحاجة للآخرين، بل في معرفة متى نطلب دعمهم».
أحياناً تبدو فكرة طلب المساعدة كأنها رفاهية لا وقت لها في حياة المرأة وخاصة المرأة العاملة. لكنّ الحقيقة أنً تحويلها إلى أداة عملية يخفف الضغط، ويحمي من الاستنزاف، ويعزز القدرة على العطاء.
المعتقد البديل: شبكتي من الناس تزيد قوتي… لا تُنقصها
يُعد هذا التحول الذهني أول خطوة نحو بناء بيئة أكثر استدامةً لك وللمحيطين بك. وتؤكد الأبحاث، مثل دراسة (Social support and mental health: the mediating role of perceived stress) - "الدعم الاجتماعي والصحة النفسية: الدور الوسيط للتوتر المتصور"، أنّ الأفراد الذين ينظرون إلى العلاقات كوسيلة دعم، لا كعبء، يتمتعون بمرونة أعلى في مواجهة الضغوط.
استراتيجيات عملية لبناء شبكة دعم فعالة
في ما يلي، بعض الخطوات العملية التي تدعم صحتك النفسية:
1. خريطة الدعم
اكتبي أسماء ثلاثة أشخاص يمكنك الاتصال بهم فوراً عند الحاجة؛ قد يكونون أحد أفراد العائلة، أو صديقة مقرّبة، أو حتى خدمة مدفوعة، مثل جليسة أطفال؛ إذ يقلل هذا التمرين وحده الإحساس بالعزلة.
2. قاعدة الدور
وزّعي المهام بدل تحمّلها كلها. مثلاً، يقلل توظيف عاملات المنزل لترتيب الغرف أو المساعدة بالمطبخ من التوتر الأسري.
3. طلب صغير كل أسبوع
درّبي نفسك على ممارسة طلب مساعدة بسيطة، مثل: إحضار أغراض من السوق، أو رعاية قصيرة للأطفال من جليسات الأطفال، أو مراجعة ملاحظات قبل اجتماع هامّ. وبالتالي، سيصبح الأمر عادةً طبيعيةً تدريجياً، لا مصدر قلق.
4. إضافة مرحة: «فرقة الإنقاذ الشخصية»
أطلقي اسماً طريفاً على شبكتك الداعمة؛ إذ يجعل هذا فكرة الاعتماد على الآخرين أقل جديةً، ويحوّلها إلى مساحة من المرح والطاقة الإيجابية. لا تعني المساندة أنّك أقل قدرةً أو إنجازاً، بل أنكِ أذكى في إدارة طاقتك؛ إذ ربّما تكوّن شبكة دعم صغيرة وفعالة الفارق بين الاستنزاف والقدرة على الاستمرار بإتقان.

العلم والحياة يقولان لكِ…
حين يجتمع الواقع الأكاديمي مع قصص القيادة، يخرج الموقف واضحاً: الشبكة الاجتماعية ليست رفاهية للأقوياء، بل طوق نجاة يحفظ الإرادة والعقل والقلوب من الانهيار.
الدليل: تؤكد تقارير "الجمعية الأمريكية لعلم النفس" (APA) أنّ الدعم الاجتماعي عامل أساسي للحماية من القلق والاكتئاب.
حسب تقرير (Social Connections Key to Maintaining Mental Well-being) - "العلاقات الاجتماعية مفتاح الحفاظ على الصحة العقلية"، فإنّ الأشخاص الذين يشعرون بأنّ لديهم دعماً اجتماعياً قوياً، يتعرضون لمخاطر أقل للاكتئاب بنسبة تصل إلى 63% مقارنةً بمن يشعرون بأنّ الدعم ناقص لديهم، وكذلك تحسّن جودة النوم بنسبة 52% لدى الأفراد ذوي الدعم الجيد.
وجدت دراسة بعنوان (Social Support and Mental Health: The Mediating Role of Perceived Stress) - "الدعم الاجتماعي والصحة النفسية: الدور الوسيط للتوتر المتصور"، أنّ الدعم من العائلة أو الشريك يقلّل إحساس الفرد بالإجهاد، وهذا بدوره يُخفض من ظهور أعراض القلق والاكتئاب ويُعزز المشاعر الإيجابية.
مثال واقعي: تعترف كثير من القياديات الناجحات بأنّ سرّ استمرارهنّ هو بناء شبكة دعم ذكية، وليس الاعتماد على القوة الفردية فقط.
تُعد الدكتورة "ميشيل باري" (Michele Barry) من أبرز الأمثلة في مجال الصحة العالمية، وهي أستاذة الطب وباحثة صحية أسّست مبادرات دعم القيادات النسائية، مثل (WomenLift Health) "صحة المرأة"؛ إذ أكّدت أنّ شبكة الدعم، والموجهين، والشراكات المهنية كانت عاملاً أساسياً في قدراتها على التوازن والتجديد المهني.
في البحث الأكاديمي أيضاً، بيّن مقال (Networking practices and gender inequities in academic medicine) - "ممارسات التواصل وعدم المساواة بين الجنسين في الطب الأكاديمي: وجهات نظر النساء والرجال"، أنّ النساء في الأوساط الطبية اللاتي يستفدن من شبكات الدعم المهني، والمرشدين، والفرص غير الرسمية للتبادل المهني، يحققن تقدماً وظيفيّاً أفضل ويشعرن بمستوى أعلى من الدعم المهني والنفسي.
حتى باتمان لم ينجُ وحده… عنده روبن!
إذا كانت شخصية خارقة مثل باتمان تحتاج روبن، فكري فقط كم نحتاج نحن كشخصيات بشرية إلى شبكة دعم حقيقية، تساعدنا لنحمي صحتنا النفسية، نكون فعّالات في عملنا، ونكون حضناً آمناً لمن حولنا.
باختصار، يتّفق العلم والحياة على أنّه يجب ألا تنتظري أن تنهاري كثيراً لتدركي أنكِ بحاجة إلى "فريقك"؛ وأنّ القلق والاكتئاب لا يزولان بالسحر، بل بالدعم، وبالروابط التي تبنينها، وبالشجاعة التي تطلبين بها المساعدة.
تخيّلي لو جربتِ…
تخيّلي أن ترفعي الهاتف وتطلبي من أختك رعاية طفلك لساعة واحدة فقط؛ ستعودين لتجديه يضحك معها، بينما أنتِ تحتسين قهوتك بسلام. قد يبدو الأمر بسيطاً، لكنّه ليس ترفاً؛ إنه استثمار مباشر في صحتك النفسية. كما تؤكد الدراسات أنّ لحظات الراحة الصغيرة الناتجة عن مشاركة المسؤوليات ترفع مستوى الرضا العام وتقلل من التوتر.
تخيّلي أيضاً أنّ عملك يُنجز أسرع؛ لأنّك لم تحمّلي نفسك فوق طاقتها؛ وبدلاً من البقاء في العمل لساعات إضافية، يمكنك العودة إلى بيتك بروح أكثر خفة.
ألن يكون شعورك أخف وحياتك أكثر مرونة؟ لا تُعد تجربة مشاركة الأعباء ضعفاً، بل خطوة نحو توازن أذكى، فكما يقول المثل الياباني: «عندما تتقاسم الحمل، يصبح أخف وزناً». كما لا تُعد شبكة المساندة هنا خياراً إضافياً، بل جزء من خطتك للاستمرارية والنجاح.
ختاماً؛ لا يُعد طلب المساعدة وبناء شبكة المساندة علامة ضعف، بل استراتيجية ذكية لحماية نفسك وتعزيز قدرتك على الاستمرار بإتقان. سواء كنتِ طبيبةً، أو ممرضةً، أو معلمةً، أو مهندسةً، فإنّ الاستفادة من الدعم العائلي، أو الزملاء، أو خدمات مساندة مهنية تجعل حياتك أكثر مرونةً وأخف ضغطاً.
تذكري دائماً: لا تكمن القوة الحقيقية في القيام بكل شيء وحدك، بل في معرفة متى وكيف تطلبين الدعم. معاً، ننجز أكثر، ونشعر براحة أكبر، ونبني بيئة صحية تدعم الجميع
أضف تعليقاً