في هذا الشهر، تتعاظم الصلات الروحانية بين أفراد المجتمع، فيندفع الصائمون المقتدرون لمد يد العون المادية إلى إخوانهم الفقراء، وينبري الصائمون الأقوياء لنصرة إخوانهم الضعفاء والوقوف إلى جانبهم في استرداد حقوقهم، وهذه الممارسات إنَّما تدل على شيء واحد فقط، وهو تعزيز مفاهيم التكافل والتضامن الاجتماعي في الشهر الفضيل، وهذا ما سيكون موضوع مقالنا لهذا اليوم الذي سنتناول فيه كيفية تعزيز روح التعاون والتضامن في رمضان.
كيفية تعزيز روح التضامن الاجتماعي في رمضان:
في هذا الشهر الفضيل الذي يهدف إلى إعادة الإنسان إلى فطرته السوية المحبة للخير، يأمر الله تعالى عباده الصائمين بإيلاء الاهتمام للفقراء ومن هم مستضعفون من حولهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه، مَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه، ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج اللهُ بها عنه كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن ستَر مسلماً ستَره اللهُ يومَ القيامةِ"، وهذه دعوة صريحة ليسند المسلم أخاه المسلم في جميع الأوقات، فكيف إذاً بشهر الخير والبركة والعطاء.
إنَّ الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى والتمثل بأخلاق نبيه في تعزيز التضامن الاجتماعي في شهر رمضان يمكن تجسيدها عبر اتباع الخطوات الآتية:
1. إشاعة روح العطاء والشعور بالآخرين:
من أهم أساليب وطرائق تعزيز التضامن الاجتماعي في شهر رمضان نذكر قيمة العطاء والشعور بالآخرين، ولكثرة ما تحتله قيمة العطاء من أهمية؛ فقد أمر الله تعالى بزكاة الفطر وفدية الإفطار في شهر رمضان، التي تكون عبر منح الفقراء والمساكين المساعدة المالية أو إطعامهم.
جعل الله سبحانه وتعالى إطعام المساكين من أعظم الأفعال التي يقوم بها الصائم المقتدر، والتي تعد من أهم مظاهر التضامن الاجتماعي، فالتضامن الاجتماعي يعني وقوف الغني إلى جانب الفقير، والقوي إلى جانب الضعيف، ومنح كل منهما من قوته وقدرته للآخر، لتحقيق نوع من المساواة وتقليص الفوارق بين الطرفين.
لا تقتصر مشاعر العطاء والشعور بالآخرين على المساعدات العينية فقط؛ بل تضمن تقديم الجهود والتطوع أيضاً، فالمشاركة في الأعمال الخيرية نوع من العطاء أيضاً، وهو فعل حميد يصب في مصلحة المجتمع، ولعلَّ شهر رمضان المبارك هو أفضل الأوقات للقيام بذلك؛ إذ تكون الأجور مضاعفة، ولأنَّ الجانب الإيماني والروحاني يطغى في هذا الشهر، ويساهم إسهاماً كبيراً في تعزيز العلاقات والتآلف بين القلوب المجتمعة على حب الله ورسوله وأداء العبادات.
إنَّ في العطاء جهاداً للنفس في التخلي عن أشياء تحبها، فالمعطي يتخلى عن راحته ويقدم جهده في العمل الخيري، ويتخلى عن أمواله التي تعب في إنتاجها والحصول عليها لمنحها لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته لشخص فقير أو مريض غير قادر على تحصيلها، وفي هذا قمة التأديب للنفس وتعويدها على الإخاء والبذل.
لأنَّ الصيام في جوعه المؤقت يوضح للموسر كمَّ المشاعر المؤلمة التي يولدها الجوع وتخلقها الحاجة، فيضع نفسه مكان الطرف الضعيف ويتصرف ما يجب عليه فعله، فيكسر بذلك شوكة الأنانية في نفسه، ويعوِّد ذاته على الإيثار، ويمد يده بسخاء للمحتاجين فيعزز بذلك مظاهر التضامن الاجتماعي.
لا نقصد أبداً أنَّ البذل والعطاء متوقفان على الموسرين فقط؛ بل كلٌّ بحسب قدرته، وكلٌّ يُجزى بحسب ما قطع عن نفسه، ليكون التكافل الاجتماعي فعلاً تنطلق مبادرته من قِبل الجميع.
شاهد بالفيديو: 7 من أهم أعمال الخير في رمضان
2. نقل قيم التضامن الاجتماعي إلى الأبناء:
من أجل تعزيز قيمة التضامن الاجتماعي في المجتمع وجعلها فعلاً مستمراً متناقلاً من جيل إلى جيل، يجب نقل مفهوم التضامن الاجتماعي من الآباء إلى الأبناء، من أجل أن يتربى النشىء الجديد على هذه الخصلة الحميدة التي تعد نواة إنشاء مجتمع متحاب ومتعاون.
شهر رمضان الكريم فرصة ذهبية ليكون الآباء مدارس لأبنائهم في العطاء والبذل، فينفقون أمامهم مما يحبون، ويتحدثون لهم عن المعاني السامية للعطاء والأجر الكبير الذي يناله المعطي جزاء إيثاره وبذله، ومن الضروري تعليم الأبناء مفاد الحديث الشريف "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، والخوض معهم في معانيه العميقة التي توضح أنَّ حب الخير للآخرين جزء لا يتجزأ من الإيمان ودعامة أساسية له، فالمؤمن الذي لا يحب الخير لغيره كما يحبه لنفسه، تسقط عنه صفة الإيمان.
إنَّ شهر رمضان الذي يساوي بين مشاعر الغني والفقير بالحرمان والحاجة مدرسة في التآخي والمساواة بين العباد، وتجسيد واقعي للتعاليم الإسلامية والإنسانية في العطاء، فإذا ما كنت تجهز زكاة الفطر فحدِّث ولدك عنها واقبل أيَّة مشاركة له فيها، وعلِّمه هو الآخر أن يتخلى عن الأشياء العزيزة على قلبه لصالح الأطفال الآخرين، وأكد له أنَّ التضامن الاجتماعي ليس طقساً محصوراً بشهر رمضان؛ بل هو واجب إنساني وأخلاقي وديني علينا تطبيقه والحرص على القيام به طيلة أيام وأشهر السنة.
بهذا يصير التضامن الاجتماعي وتكافل الأغنياء مع الفقراء فعلاً مستداماً، يتطور بسبب رغبة مؤدِّيه بتطويره، فيصبح أكثر منهجية، ويتخذ طوراً مؤسساتياً رسمياً يشمل عطاؤه مناحي الحياة المادية والمعنوية.
3. التعاون على تخفيف معاناة الآخرين:
قد تكون البلاد التي تعيش فيها آمنة ومستقرة، لكن لا تنسَ أنَّه في بلاد أخرى قد تكون مجاورة لك يعيش الناس في تحديات وأزمات صعبة، مثل الكوارث الطبيعية والحروب والنزاعات؛ لذا لا تجعل عطاءك مقيداً بحدود الجغرافيا، واجعل التضامن الاجتماعي الذي تحاول فعله يعبر حدود البلدان والسياجات الشائكة.
لعلَّ أسمى مظاهر التضامن الاجتماعي هي تلك التي قام بها أفراد العالم الإسلامي لدعم متضرري الزلزال الأخير الذي طال الشمال السوري وتركيا، ففي هذه المحنة تكاتف الأفراد جنباً إلى جنب وأرسلوا المعونات الإغاثية والإسعافات الطبية والأطعمة ومستلزمات الأطفال والنظافة إلى إخوانهم المنكوبين، كما انضمَّ العديد منهم إلى المؤسسات والمنظمات التي سيَّرت فرقاً إغاثية تسافر إلى تلك المناطق لتساهم في تقديم الدعم والتضامن الاجتماعي على أرض الواقع، لقد كانت تلك الوقفات تجسيداً فعلياً للتضامن الاجتماعي ساهم به العديد من الأفراد على اختلاف معتقداتهم ودياناتهم.
لأنَّ حديثنا عن تعزيز مفاهيم التضامن الاجتماعي في شهر رمضان؛ فيمكننا وضع تلك الفئات المنهكة في حساباتنا، والسعي إلى إيصال المساعدات لهم عبر منظمات ومؤسسات موثوقة، ليأخذ التضامن الاجتماعي الذي يعد من واجباتنا الأساسية بصفتنا مسلمين طائعين في رمضان شكلاً أوسع يهدف إلى إرساء دعائم التكافل على امتداد العالم بأسره.
4. تأطير العمل الخيري بإطار مؤسساتي منظَّم:
من الجيد أن يقوم كل مسلم وصائم في شهر رمضان بدوره الهام في تحقيق التضامن الاجتماعي، ولكنَّ الأفضل من ذلك هو تنظيم هذه العمليات لتتخذ شكلاً أكثر شمولاً، ولكي يعم التضامن الاجتماعي أرجاء المدينة أو المنطقة بشكل كامل، وهذا تجسيد لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى" (رواه البخاري).
إنَّ تطوع بعض الأشخاص لتسجيل أسماء الفقراء في المنطقة وتنظيم تدفُّق الإعانات والصدقات إليهم، يعطي التضامن الاجتماعي مفهوماً أكثر عدالة، فربما يحصل فقير على وجبتي إفطار بينما لا يحصل جاره الفقير أيضاً على أيَّة وجبة؛ لذا من الضروري تنظيم العمل الخيري في شهر رمضان عبر لجان تشرف على عمليات استلام المواد من المتبرعين، وتوظيف جهود المتطوعين، ومن ثم تسليم السلل الغذائية أو الوجبات أو المبالغ المالية إلى المحتاجين.
يمكن أن يتم التعاون مع المخاتير أو رؤساء البلديات ولجان الأحياء من أجل إعداد قوائم بأسماء العائلات المحتاجة، ومن ثم تنظيم الواردات وإحصائها وتوزيعها بالشكل الأمثل، كما يمكن مثلاً تخصيص مطبخ رمضاني يتولى مهمة إعداد إفطار، لتوزيعه على الفقراء ونشر حاجة هذا المطبخ اليومية من المواد والمياه اللازمة، لتوزيع وجبات الإفطار على الفقراء من سكان المنطقة، ليتسنى لأصحاب اليد البيضاء تقديم مساعدة فعالة تعزز مفهوم التضامن الاجتماعي في رمضان، وينسحب تأثيرها في بقية أيام وأشهر العام.
قد يكون المتبرعون لا يعرفون المحتاجين في المنطقة وبحاجة إلى جهات موثوقة تضمن إيصال صدقاتهم لمستحقيها، فتكون المنظمات المعنية بالتضامن الاجتماعي خيارهم الأفضل.
في الختام:
إنَّ تحقيق التضامن الاجتماعي في رمضان وهو لون من ألوان العبادة التي أمرنا الله تعالى بها، وهو فعل يساهم في تخفيف الهوة والفارق بين أفراد المجتمع، فيعطي غنيهم فقيرهم وينصر قويهم ضعيفهم، وفي تحقيق التضامن الاجتماعي وبذل المساعدات المادية والمعنوية تدريب للنفس على مجابهة الأنانية والكسل، وجهاد لها يساهم في تقوية الرابط الإيماني والروحاني بين العبد وربه، ويعزز الصلات والعلاقات المبنية على الألفة والمحبة والتعاون بين الأفراد في المجتمع.
أضف تعليقاً