كتاب "ثروة الأمم" نقطة تحول في زمن التحولات:
الكتاب هو نقطة تحول مفصلية في فترة زمنية كانت تعج بالتحولات الجذرية مثل الثورة الصناعية ودخول الآلة في عملية الإنتاج مع بداية حقبة الحرية الفكرية وتزامناً مع نشوء دولة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما شكل حاجة ضرورية لنظام اقتصادي عالمي جديد.
وجدت مدرستان اقتصاديتان في ذلك؛ الأولى هي المدرسة التجارية التي كانت تعتقد أنَّ ثروة الأمم هي في الذهب والفضة، وثروة الأمم تكمن في تكديسها وجمعها، والثانية هي المدرسة الزراعية التي عبرت عن واقع عصرها والتي عَدَّت الأرض مصدر كل ثروة، والعمل الزراعي هو القيمة، فهو يأتي بربح أكثر مما يتطلبه الإنتاج، وقد أطاح "آدم سميث" بهاتين المدرستين؛ وذلك لأنَّ التجارة تتعامل مع سلع أنتجها عمال ومزارعون، والأرض كذلك تحتاج إلى زراعتها.
بحسب "آدم سميث" العمل هو القيمة:
رأى أنَّ العمل هو المنتج لهذه السلع وهو ما يزرع الأرض، وأكد "سميث" أنَّ ثروة الأمم هي في قيمة العمل، وكلما استطعنا زيادة قوة العمل زادت ثروة الأمم، وتتحقق هذه الزيادة عن طريق التخصص وتقسيم العمل والاعتماد على الآلات التي توفر الوقت والجهد، وكذلك عن طريق زيادة عدد العمال عن طريق زيادة عدد السكان، ولكنَّه يرى أنَّ كل هذه الأمور لن تتحقق إلا من خلال زيادة رؤوس الأموال.
هنا أرسى "سميث" أسس نظام اقتصادي عالمي جديد يؤكد أنَّ ثروة أيَّة أمة لا تُقاس بما تملك من غاز أو نفط أو ذهب أو فضة أو أيَّة ثروات طبيعية أُخرى؛ وإنَّما تُقاس بما تحقق من تقدم في مجال العمل، وأيَّة دولة لا تعمل على التقدم في مجال الصناعة أو الزراعة ستبقى متخلفة مهما امتلكت من ثروات طبيعية.
"آدم سميث" وتحرير الاقتصاد:
شدد "آدم سميث" على تحرير الاقتصاد أو العمل الحر، وذلك من خلال تشجيع القطاع الخاص؛ وذلك لأنَّه يعطي الفرد كل الحوافز لتطوير عمله والوصول إلى ما يريد، وأكد على ضرورة اختيار الفرد للعمل الذي يناسبه واستثمار أمواله بالطريقة التي يراها مناسبة، وعلى حق الناس في أن يشتروا ما يريدون من سلع أو منتجات سواء كان من الداخل أم من الخارج، فالهام هو أنَّ المستهلك يشتري من ماله الخاص؛ أي إنَّه دعم الاقتصاد المفتوح وعارض فكرة الاستحواذ على السوق أو احتكاره؛ وذلك لأنَّنا بهذه الطريقة نخسر المنافسة الإيجابية بحيث تسعى كل شركة إلى تقديم أفضل منتج وبأقل الأسعار.
"آدم سميث" أول من ربط المصلحة العامة بالمصلحة الخاصة:
طرح "آدم سميث" فكرته التي تربط بين المصلحة العامة والمنفعة الخاصة؛ أي وضع مسارات اقتصادية معينة تجعل من الإنسان الذي يكافح من أجل مصلحته الخاصة يحقق المصلحة العامة سواء كان يدري أم لا يدري؛ وذلك لأنَّ التخطيط للاقتصاد يتمُّ بهذه الطريقة.
انطلق "سميث" في كلامه هذا من مبدأ بسيط وواقعي، وهو أنَّ الإنسان يركض وراء مصلحته الشخصية، على سبيل المثال، يقوم الخباز بصنع الخبز من أجل تحقيق منفعة مادية يُحسن فيها من جودة حياته، وليس من أجل ألا يجوع الناس، ولكنَّه من خلال عمله يُطعم الناس ويقدم فائدة كبيرة للمصلحة العامة مع تحقيق منفعته الشخصية المالية في الوقت نفسه.
"آدم سميث" ومبدأ تقسيم العمل:
أتى "سميث" بمبدأ تقسيم العمل، فإذا كانت ثروة الأمم تُقاس بالإنتاج فيجب علينا زيادة الإنتاج، وهذا ما يحققه مبدأ تقسيم العمل، وقبل طرح "سميث" كان العامل يقوم وحده بصنع الآلة من الألف إلى الياء، على سبيل المثال، كان عامل واحد يصنع السلاح من أول قطعة إلى آخر قطعة، فنحصل على سلاح واحد في الشهر يصنعه عامل واحد، أما إذا قسمنا العمل إلى عمال عدة يتخصص كل واحد منهم في تصنيع جزء، فسنحصل على إنتاج أكثر وجودة أعلى.
تُعَدُّ هذه الفكرة الثورية عصب النجاح والتميز لأيَّة شركة، ولا يمكن لأي اقتصاد أن ينهض دون تقسيم العمل أو التخصص، فقد دعى "سميث" إلى تقسيم العمل بين البلدان بحيث يختص كل بلد بتصنيع ما يعرفه أو ما يجيد صنعه، ومن ثم تُتبادَل هذه المنتجات بين الدول من خلال التجارة، لذلك دعى "سميث" إلى إلغاء أي قيود أو قوانين تحد من التبادل التجاري بين البلدان، وسن القوانين التي تسهل تبادل السلع.
"دعه يعمل دعه يمر":
ربما من أهم المبادئ الاقتصادية وأشهرها التي وضعها "آدم سميث" هو مبدأ "دعه يعمل دعه يمر"؛ إذ دعا فيه إلى ترك رؤوس الأموال تعمل وفق ما تراه مناسباً دون تدخُّل الحكومة أو الدولة، فقد دعاها إلى كف يدها عن النشاطات التجارية.
شاهد بالفديو: أكبر 5 تحديات في الاقتصاد العالمي الجديد وطرق مواجهتها
"آدم سميث" واليد الخفية:
ادعى "سميث" أنَّ النشاطات التجارية - وفق النموذج الذي طرحه - تعمل من تلقاء نفسها ولا حاجة إلى من يتدخل بها، وأطلق على طريقة عملها اسم "اليد الخفية"، وهي تتعلق بالعرض والطلب، على سبيل المثال، عندما تنقص كمية سلعة ما في السوق بسبب زيادة الإقبال على شرائها، فإنَّ سعرها يرتفع ارتفاعاً تلقائياً دون وجود حاجة إلى قرار أو مرسوم من قِبل الحكومة، وعندما يرتفع السعر من الطبيعي أن يمتنع أغلب الناس عن شرائها؛ أي ينخفض الطلب، وهذا ما يؤدي إلى انخفاض سعر تلك السلعة ومن ثم استقرارها على سعر أقل.
هذا التنافس بين الشركات أو المصانع سوف ينعكس بشكل أو بآخر على مسألة الأجور؛ وذلك لأنَّه يدفع المصانع إلى جذب عمال مهرة من خلال أجور مغرية.
كيف نظر "آدم سميث" إلى البشر؟
نظر "سميث" إلى البشر على أنَّهم مخلوقات مدفوعة بالعواطف وفي نفس الوقت منظمون ذاتياً من خلال قدرتهم على التفكير وقدرتهم على التعاطف، وتعمل هذه الازدواجية على تزويد الناس بالقدرات العقلانية والأخلاقية لإنشاء مؤسسات يمكن من خلالها تخفيف حدة الصراع الداخلي وحتى تحويله إلى الصالح العام.
تجدر الإشارة إلى أنَّ العلماء ناقشوا منذ فترة طويلة ما إذا كانت المشاعر الأخلاقية تكمل أم تتعارض مع ثروة الأمم، وفي أحد المستويات يوجد صراع ظاهري بين موضوع الأخلاق الاجتماعية والتفسير غير الأخلاقي للنظام الاقتصادي.
كيف كانت أوروبا قبل "آدم سميث"؟
قبل "آدم سميث" كان معظم الناس يعتقدون أنَّ الحكومة ضرورية لجعل الاقتصاد يعمل، ففي "بريطانيا" و"أوروبا" روجت الحكومات للاكتفاء الذاتي الاقتصادي بوصفه حصناً للأمن القومي، ولقد دعموا الصناعات الاستراتيجية مثل التعدين وصناعة الحرير، وساعدت الحكومة على حماية الصيدليات والبنائين وتجار الأخشاب وصانعي أوراق اللعب وعدد لا يحصى من العمال الآخرين ضد ما عَدُّوه منافسة غير عادلة، وقيَّدت الحكومات الواردات باسم تكديس كنوز الذهب التي كان يُعتقد أنَّها سر الثروة والسلطة، فقد كانت الحياة الاقتصادية دون تدخل حكومي غير واردة.
تحدى "آدم سميث" كل ذلك في كتابه "ثروة الأمم" الذي عَدَّه النقاد دعوة واضحة للحرية الاقتصادية، فقد ابتكر "سميث" رؤية جريئة ألهمت الناس في كل مكان، وأوضح أنَّ الطريق لتحقيق السلام والازدهار هو تحرير الأفراد، وهاجم التدخل الحكومي وأوصى بتحرير المستعمرات البريطانية والأمريكية واستنكر العبودية.
حتى "آدم سميث" يقع في الحفرة:
لقد كان "سميث" باحثاً متفانياً طوال حياته؛ إذ جمع مكتبة من نحو 3000 مجلد، وكان في معظم الأوقات مشغولاً بالأفكار لدرجة أنَّه نسي ما كان يفعله، وبحسب ما ورد عنه، كان يقوم ذات مرة بجولة في مدبغة "غلاسكو" وسقط شارد الذهن في حفرة المدابغ، ثم أخرجه منها أصدقاؤه.
كيف اكتشف "سميث" الآثار العجيبة للمصلحة الذاتية؟
لقد كان "سميث" دقيق الملاحظة وقضى سنوات في مركز تجاري مزدهر، لذلك لا بد أنَّه تعلَّم الكثير من ملاحظاته الخاصة؛ إذ يعتقد الباحث "إدوين كانان" أنَّ الطبيب الهولندي "برنارد ماندفيل" قد أثر في تفكير "سميث" أيضاً، كما تسبب "ماندفيل" في إثارة الفزع لدى الوعاظ من خلال الإشارة إلى أنَّ المصلحة الذاتية أمر جيد؛ وذلك لأنَّها تقود الناس إلى خدمة بعضهم بعضاً ومساعدة المجتمع على الازدهار.
في عام 1740 قبل "سميث" منحة دراسية سنوية قدرها 40 جنيهاً إسترلينياً لمواصلة مساعيه الفلسفية في كلية "باليول" في "أكسفورد"، واتضح أنَّ الأساتذة حصلوا على رواتب بصرف النظر عن مقدار الجهد الذي قاموا به، لذلك لم يفعلوا سوى القليل، وكان "سميث" وحده لمدة ست سنوات في "أكسفورد"، وعلَّم نفسه بنفسه في المكتبة، واكتسب معرفة كبيرة بالأدب الكلاسيكي اليوناني والروماني وكذلك الأدب الفرنسي والإيطالي الحديث.
أراد "سميث" التدريس في جامعة اسكتلندية، وكانت الطريقة التقليدية للبحث عن فرصة عمل هي إظهار ما يمكنك القيام به مثل إلقاء بعض المحاضرات العامة، وإذا أعجب مسؤولو الجامعة واحتاجوا إلى ملء شاغر، فقد يتم تعيين أحدهم، وفي عام 1748، بدأ "سميث" في "إدنبرة" بإلقاء محاضرات عن الأخلاق والاقتصاد وسياسة الدفاع، وقضى بقية حياته في توسيع هذه المواد إلى كتب.
نظرية المشاعر الأخلاقية:
أمضى "سميث" نحو أربع سنوات في تحويل مادة المحاضرة إلى كتابه الأول "نظرية المشاعر الأخلاقية"؛ إذ تحدَّث عن دوافع أخرى غير المصلحة الذاتية أثرت في السلوك البشري، كما نُشر كتابه في "لندن" عام 1759 وجعله من المشاهير الأدبيين، وتناول أيضاً العشاء مع جميع أنواع الأشخاص الناجحين ومن أولئك "بنجامين فرانكلين".
في الختام:
استمرت أفكار "آدم سميث" وأصبح نوراً هادياً ساعد حبه للحرية على جعل القرن التاسع عشر أكثر الفترات هدوءاً في التاريخ الحديث، والآن بعد نحو 200 عام من وفاته، حدد الاقتصاديون أخطاء فنية في عمله، لكن سمعته تتفوق على منافسيه مثل "كارل ماركس" و"جون ماينارد كينز"، وقد وصف "جورج ستيجلر" الحائز على جائزة نوبل "سميث" بأنَّه قديس المشاريع الحرة، وقال "إتش إل مينكين": "لا يوجد كتاب أكثر إثارة في اللغة الإنجليزية من كتاب آدم سميث ثروة الأمم"، وما يزال "آدم سميث" حاضراً حيث تولد الحرية من جديد في فجر القرن الواحد والعشرين.
أضف تعليقاً