ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون "جوشوا بيكر" (Joshua Becker)، يُحدِّثنا فيه عن الفوائد المالية والشخصية لترتيب حياتك.
قبل 15 عاماً، وفي عطلة نهاية أسبوع عادية، تغيرت حياتي إلى الأبد. حينها، عرَّفني جاري على فكرة "التبسيط" (Minimalism)، فقد استيقظت ذلك الصباح لأنظف المرآب بعد شتاء طويل، واستغرق الأمر معي ساعات طويلة من التنظيف والترتيب، فلاحظ جاري ذلك وقال: "ربما لا تحتاج إلى امتلاك كل هذه الأشياء". دفعتني هذه الملاحظة إلى اتخاذ قرار غيَّر مسار حياتي الأسرية، وتخلصنا من 60% إلى 70% من ممتلكاتنا.
منذ ذلك اليوم، أصبح "التبسيط" أو العيش بالقليل، تياراً متصاعداً في مجتمعاتنا الاستهلاكية، وأحد أسباب هذا الانتشار هو الوعي المتزايد بأنَّ هذا الأسلوب لا يتعلق فقط بجمال المساحات الفارغة والأسطح الخالية، بل هو دعوة لحلم أكبر، وتقييم لمدى استهلاكنا، وإعادة تعريف قيمنا، وإتاحة مساحة للأمور الهامة في حياتنا.
التبسيط: الطريق إلى الإنفاق الواعي
للتخلص من الفوضى فوائد مالية كبيرة؛ ففي سعيِنا الدائم وراء اقتناء "مزيد من الأغراض"، كثيراً ما ننفق بلا تفكير، ونسعى لشراء سلع يوهمنا المسوقون بأنَّها ضرورات لا غنى عنها.
على سبيل المثال: يشتري المتسوق الأمريكي اليوم ما يقارب 5 أضعاف كمية الملابس التي كان يشتريها في عام 1980، ووفقاً لصحيفة "يو إس إيه توداي" (USA Today)، كما وينفق الأمريكيون حالياً نحو 1,500 دولار شهرياً على منتجات غير أساسية.
يؤدي هذا الاندفاع نحو الامتلاك إلى هدر الأموال من جهة، وزيادة الفوضى المادية التي تعيقنا في حياتنا اليومية من جهة أخرى؛ غير أنَّ الفوائد المالية للتبسيط تمتد أبعد من مجرد فكرة تقليل الشراء لتوفير المال، فكل قرار نتخذه بعدم الشراء يحمل ما يُسمى تكلفة الفرصة البديلة (opportunity cost)، فحين تتجنب شراء حقيبة فاخرة أو جهاز تقني حديث، فإنَّك توفر المال لأمور أهم مثل: سداد دين، أو بناء صندوق طوارئ، أو المساهمة في مدخرات التقاعد، أو ربما دعم قضية مؤثرة في العالم.
لا يكتسب المال قيمته إلا من خلال ما نختار أن ننفقه فيه، فإذا صرفناه على تلفاز ضخم أو خزانة ملابس جديدة، فإنَّ ما نحصل عليه في المقابل هو متعة عابرة أو صيحات موضة متقلبة؛ لكن إن وجَّهنا المال نحو أمور مناسبة أكثر، أصبح وسيلة خيِّرة لنا ولمن حولنا.
هذه هي المكاسب المالية للتبسيط: تعزيز الصحة المالية والأمان، وإتاحة الطريق نحو الحرية المالية، فهو تحول ذهني من استهلاك عشوائي إلى إنفاق واع.
شاهد بالفيديو: كيف يمكن الوصول إلى الحرية المالية؟
الفوائد الشخصية للتبسيط
التبسيط ليس مجرد استراتيجية مالية؛ بل أسلوب حياة يفتح الباب لمكاسب شخصية عميقة. يشتت سعينا الدائم وراء تكديس المقتنيات انتباهنا عن الأشياء التي تمنح السعادة الحقيقية والرضا المستدام.
أكدت دراسة من "جامعة ولاية سان فرانسيسكو" (San Francisco State University) إلى أنَّ الأشخاص الذين ينفقون أموالهم على التجارب بدلاً من المقتنيات المادية، يحققون مستويات سعادة ورضا أعلى من غيرهم؛ ذلك لأنّ التجارب تُنمي الفرد، وتكوِّن الذكريات، وتُعمق الروابط الإنسانية. يمنحنا نهج التبسيط الذي لا يركز على الممتلكات المادية، الحرية لنستثمر في هذه التجارب ذات القيمة الحقيقية.
علاوة على ذلك، أُجريت كثير من الدراسات التي تؤكد الفوائد التالية للتبسيط:
- يخفف التوتر.
- يحسِّن الصحة النفسية.
- يوفر مساحة للتركيز.
- يزيد الإنتاجية.
لا يقتصر التبسيط على إرساء بيئة مريحة؛ بل هو خطوة واعية نحو تعزيز عافيتنا النفسية والعاطفية.

فوائد التخلص من الفوضى
لا تتوقف الفوائد المالية والشخصية للتبسيط عند هذا الحد، وقد شهدتُ في حياتي وحياة الآخرين، أنَّ اعتماد البساطة يؤدي إلى تحول ذهني عميق: من عقلية النقص إلى عقلية الوفرة.
غالباً ما ينجم هوس الجمع والتكديس عن خوف دفين من عدم كفاية ما لدينا، أو من منافسة صامتة نجريها مع الآخرين. لكن، حين نختار عن وعي العيش بالقليل، نواجه هذا الخوف مباشرة، وندرك أنَّ حياتنا وافرة بالفعل، وغنية بالحب والتجارب والفرص، ونتذكر أنَّ الرضا لا يأتي من كثرة الممتلكات، بل من الحياة التي نحياها، ومن الأشخاص الذين نتشاركها معهم.
عندها نكتشف أنَّ الحياة ليست ساحة سباق لإثبات النجاح من خلال امتلاك أكثر من غيرنا، بل هي مساحة للتعاون كي نصبح أفضل نسخة من أنفسنا، ونفيد العالم.
لا يُعد التبسيط مجرد فعل نقوم به، بل هو حوار داخلي متجدد حول ما يهم في حياتنا، فهو يحررنا من الفوضى المادية والأعباء العقلية والعاطفية، فيفسح المجال للتأمل والامتنان والوعي العميق بالذات.
في الختام
يدفعنا فهم فوائد التبسيط والتخلص من الفوضى إلى إعادة النظر في قِيَمنا وعادات إنفاقنا، وإدراك أنَّ امتلاك أشياء أقل يمنحنا حياة غنية وعميقة وهادفة.
يعلِّمنا التبسيط أنَّ التخلص من الفوضى ليس مجرد ترتيب، بل تمريناً لإعادة تعريف النجاح، لا بما نملك؛ بل بما نصبح عليه عندما نعطي الأولوية للتجارب ذات القيمة على حساب الممتلكات المادية.
يمنحنا التركيز على الجودة لا الكمية الحرية لتعزيز صحتنا المالية، وعافيتنا الشخصية، وإثراء حياتنا بطرائق لم نتخيلها من قبل، فنكتشف أنَّ أفضل ما في الحياة ليس أشياء معينة، وأنَّ مقتنياتنا لا تحدد قيمتنا، بل أفعالنا وأثرنا في العالم.
وهكذا لا يقتصر التخلص من الفوضى على ترك ما لا نحتاج إليه، بل امتلاك ما نُقدِّره بحق: وهو توفير مالنا، وتعزيز نمونا الشخصي، وعيش حياة مُرضية لنا ولمن حولنا.
أضف تعليقاً