ويُعَدُّ هذا الموضوع محوراً هاماً للبحث والتفكير، فقد يكون له تأثير كبير في تطور الطفل وتواصله مع المحيط الاجتماعي والعائلة؛ لذا سنبحث في هذا المقال في أسباب الصمت الانتقائي عند الأطفال، وكيف يمكن للأهل والمختصين في التربية التعامل مع هذه المشكلة بفاعلية.
تعريف الصمت الانتقائي:
الصمت الانتقائي أو الخرس الانتقائي، المعروف أيضاً بالاختصار (SM) يُعَدُّ اضطراباً نفسياً ينطوي على عدم القدرة على التحدث أو التفاعل في سياقات معينة، ويتم تشخيص هذا الاضطراب عادةً في مرحلة الطفولة، وهو يتميز بعدم قدرة الأطفال الذين يعانون منه على التعبير عن أنفسهم في مواقف اجتماعية محددة، مثل المدرسة أو الأماكن العامة.
تاريخياً، تم توثيق الصمت الانتقائي للمرة الأولى في عام 1887 عندما قام الطبيب الألماني "أدولف كوسمول" بوصف حالات الأطفال الذين لم يكونوا قادرين على الكلام بمصطلح "الحبسة الطوعية"، أو ما يُعرَف بالـ (Aphasia voluntaria).
إذا لم يُعالَج الصمت الانتقائي علاجاً صحيحاً، فقد تنجم عنه تأثيرات سلبية تشمل صعوبات في التحصيل الدراسي، وتدهور تقدير الذات، والانعزال الاجتماعي، وزيادة مستويات القلق في المواقف الاجتماعية، وتُعَدُّ هذه المشكلة هامة للتعامل معها بشكل فعال لضمان تطور صحي وسليم للأطفال المعنيين بها.
أعراض الصمت الانتقائي عند الأطفال:
إذا كنت تشعر بأنَّ طفلك يعاني من الصمت الانتقائي (الخرس الانتقائي)، فلديك بعض العلامات التي يمكنك مراقبتها، وتشمل:
- عدم القدرة على التحدث في البيئة المدرسية أو في مواقف اجتماعية محددة.
- التململ، وعدم القدرة على التواصل البصري، وقلة التفاعل في المواقف المُخيفة.
- التعبير عن الرغبة في التحدث، لكن يعوقها القلق والخوف والإحراج.
- الاعتماد على وسائل التواصل غير اللفظية عند تعبيره عن احتياجاته، مثل الإيماء بالرأس أو الإشارة باليدين.
- الشعور بالخجل والخوف من التفاعل مع الآخرين والامتناع عن الكلام بين سن 2 و4 سنوات.
- القدرة على التحدث بسهولة في بعض المواقع (مثل المنزل أو مع الأشخاص المألوفين)، لكن ليس في أماكن أخرى (مثل المدرسة أو مع الأشخاص غير المألوفين).
يجب مراعاة أنَّ هذه السلوكات - على الرغم من أنَّها تُعَدُّ وسيلة لحماية الذات - غالباً ما يتم تفسيرها على أنَّها تحديات مقصودة من قِبل الأطفال، وهذا يجعل الفهم والتعامل مع هذه الحالة أمراً ضرورياً.
أسباب الصمت الانتقائي عند الأطفال:
توجد مجموعة متنوعة من العوامل التي قد تسهم في حدوث الصمت الانتقائي (الخرس الانتقائي)، ففي الماضي، كان النظر إلى هذا الاضطراب على أنَّه ناتج عن سوء المعاملة أو الصدمة أو الاضطرابات في مرحلة الطفولة، ومع ذلك، أظهرت الأبحاث الحديثة أنَّ هذا الاضطراب يتعلق بالقلق الاجتماعي الشديد، ويُشتَبه أنَّ العوامل الجينية لها دور فيه أيضاً.
كما هو الحال مع معظم الاضطرابات النفسية، فمن غير المرجح أن يكون عاملٌ واحدٌ السببَ، فالأطفال الصغار الذين يُشخص لديهم هذا الاضطراب غالباً ما يُظهِرون خجلاً شديداً، وقد يعانون من اضطرابات القلق والخوف من إحراج أنفسهم أمام الآخرين.
إضافة إلى ذلك، تشمل الأسباب المحتملة الأخرى طبيعة الطفل ومزاجه الشخصي والبيئة التي يعيش فيها، فقد يكون للأطفال الذين يعانون من التثبيط السلوكي أو صعوبات في اللغة ميلٌ إلى ظهور هذا الاضطراب، إضافة إلى ذلك، قد يؤدي الأهل الذين يعانون من القلق الاجتماعي أو يملكون تثبيطاً سلوكياً دوراً في تطور هذا الاضطراب.
يجب ملاحظة أنَّ الصمت الانتقائي قد يترافق أيضاً مع اضطرابات أخرى مثل القلق، والاكتئاب، وتأخيرات النمو، ومشكلات في التحدث، واضطراب الوسواس القهري (OCD)، واضطراب الهلع.
شاهد بالفديو: ما هو اضطراب القلق الاجتماعي "الرهاب الاجتماعي"؟
تشخيص الصمت الانتقائي عند الأطفال:
تاريخياً، لم يتم تصنيف الصمت الانتقائي (الخرس الانتقائي) على أنَّه اضطراب قلق حتى أُصدِر الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) عام 2003، ففي الأصل، كان يُطلَق عليه "الصمت الاختياري" قبل عام 1994؛ وذلك للتأكيد على أنَّ الأطفال المصابين بهذا الاضطراب لم يختاروا الصمت؛ بل يعانون من خوف شديد من التحدث.
يعتمد تشخيص الصمت الانتقائي على معيار رئيس، وهو عدم القدرة على التحدث في مواقف اجتماعية معينة حين يُتوقع الحديث (مثل المدرسة)، على الرغم من قدرتهم على التحدث بشكل طبيعي في سياقات أخرى.
إضافة إلى هذا المعيار الأساسي، يجب أن تستمر أعراض الصمت الانتقائي لمدة لا تقل عن شهر وليس في الشهر الأول من الدخول المدرسي، ويجب أيضاً أن يكون الطفل قادراً على فهم اللغة المنطوقة والتحدث بشكل طبيعي في بعض السياقات عادةً مع الأشخاص المألوفين له.
علاج الصمت الانتقائي عند الأطفال:
تأثيرات العلاج المبكر للصمت الانتقائي هي تحسين فاعلية وسرعة استجابة الطفل؛ إذ يتمحور العلاج أساساً حول تقليل القلق الذي يعاني منه الطفل وتعزيز قدرته على التواصل، وتتضمن الخطة العلاجية عادةً:
1. العلاج السلوكي المعرفي:
يُعَدُّ العلاج السلوكي المعرفي من أكثر الأساليب فاعلية في علاج الصمت الانتقائي؛ إذ يهدف المعالج إلى معالجة القلق الكامن وتدريب الطفل على التحدث في مواقف معينة خارج المنزل، ويتضمن هذا النهج بعض التقنيات مثل:
- تعريض الشخص للمواقف التي تسبب له القلق تدريجياً، مثل التحدث مع الغرباء في بيئة آمنة.
- تحفيز الطفل على التواصل تدريجياً بدءاً من التواصل البصري وصولاً إلى التواصل اللفظي بثقة.
- تشجيع الطفل عند إظهار أي تقدُّم أو سلوك إيجابي في أثناء العلاج لزيادة ثقته بنفسه.
2. العلاج الدوائي:
في بعض الحالات الشديدة أو الحالات التي تعاني من صمت انتقائي طويل الأمد ولم تستجب للعلاج النفسي، قد يتطلب الأمر استخدام الأدوية بإشراف طبي، وقد تشمل هذه الأدوية مضادات الاكتئاب والأدوية الأخرى التي تساعد على التحسين.
خطوات للتعايش مع الصمت الانتقائي:
يمكن تحقيق التعايش مع الصمت الانتقائي من خلال تقديم الدعم اللازم للأطفال المتأثرين بجانب العلاج، وهذه بعض الخطوات المفيدة:
- تجنُّب فرض الضغط على الطفل للتحدث، فإنَّ ذلك قد يزيد من مستوى القلق ويتسبب في تفاقم الحالة.
- عدم معاقبة الطفل عندما يرفض التحدث، وبدلاً من ذلك، يجب اكتشاف طرائق لتشجيعه بلطف.
- مساعدة الطفل على التواصل بطرائق غير لفظية مثل الرسم أو حل الألغاز، وهذا يمكِّنه من التفاعل مع الآخرين دون الضغط عليه.
- استخدام نظام المكافآت لتعزيز التحدث وتقديم المدح والإشادة عندما يُظهِر الطفل أي تقدُّم.
- تقديم توضيح للمعلمين والأشخاص المحيطين بالطفل بشأن وضعه وأنَّ عدم التحدث ليس اختياراً من قِبله؛ بل يجب الاستعانة بهم لتقديم الدعم والتشجيع للطفل وتعزيز سلوكاته الإيجابية.
قد يساهم توفير الدعم والفهم للأطفال المصابين بالصمت الانتقائي في تحسين حالتهم وتقديم الدعم اللازم في مسار العلاج.
شاهد بالفديو: 10 طرق لتعزيز ثقة الطفل بنفسه
ما هو الفارق بين الصمت الانتقائي واضطراب التوحد؟
الصمت الانتقائي واضطراب التوحد هما اضطرابان مختلفان تماماً، ويمكن التمييز بينهما من خلال النقاط الآتية:
1. النوعية:
- الصمت الانتقائي هو اضطراب قلق طفولي يتسم بمواجهة الطفل صعوبة في التحدث في بعض المواقف الاجتماعية، ولكن يمكنه التواصل والتحدث بشكل طبيعي في مواقف أخرى، مثل المنزل.
- التوحد هو اضطراب نمائي يؤثر في القدرة العامة للطفل على التواصل والتفاعل الاجتماعي في مختلف السياقات.
2. النطاق:
- الصمت الانتقائي يقتصر على مواقف اجتماعية محددة ولا يؤثر في جميع جوانب الحياة الاجتماعية للطفل.
- يؤثر التوحد في التواصل والتفاعل الاجتماعي في كل السياقات والعلاقات الاجتماعية.
باختصار، يرتبط الصمت الانتقائي بمواجهة الطفل صعوبة في التحدث في بعض المواقف الاجتماعية دون أن يكون ذلك سمة عامة في تواصله، بينما يؤثر التوحد في قدرة الطفل على التواصل والتفاعل الاجتماعي عموماً.
تداعيات عدم علاج الصمت الانتقائي:
عدم التدخل والتعامل مع الصمت الانتقائي قد يترتب عليه تداعيات جسيمة تشمل ما يأتي:
- تأخر التقدم الدراسي بسبب صعوبة التواصل مع المعلم والزملاء في المدرسة.
- العزلة الاجتماعية وعدم المشاركة في النشاطات المدرسية اليومية.
- تدنِّي مستوى احترام الذات والثقة بالنفس.
- احتمالية تطور اضطراب القلق الاجتماعي.
- احتمالية الانغماس في حالات الاكتئاب.
من الضروري الكشف عن هذا الاضطراب والتدخل المبكر لضمان تقديم الدعم والعلاج المناسب للأطفال المصابين به.
في الختام:
يجب أن ندرك أنَّ الصمت الانتقائي هو اضطراب يمكن التعامل معه وعلاجه بفاعلية عند توفير الدعم اللازم والفهم، ومن الهام أن نفهم أنَّ الأطفال المصابين بهذا الاضطراب يعانون من تحديات تختلف عن تلك التي تواجه أطفالاً آخرين، لكن بالعناية والتوجيه الصحيحين، يمكنهم تحقيق التقدم والتفوق.
ينبغي علينا أيضاً أن نعمل على نشر الوعي بشأن هذا الاضطراب والتعريف بطرائق التشخيص والعلاج المتاحة، إلى جانب ذلك، يجب أن نسعى إلى تقديم الدعم للأطفال المصابين به ولعائلاتهم، وضمان أنَّهم يشعرون بالمساندة والفهم.
في نهاية المطاف، يمكننا تخفيف تأثير الصمت الانتقائي في حياة الأطفال ومستقبلهم من خلال الاستجابة بفاعلية والعمل المشترك لتقديم الرعاية والعلاج الضروريين.
أضف تعليقاً