قد تكون هذه التجربة عابرة وغير مقلقة، لكنَّها تطرح تساؤلات عميقة حول كيفية عمل الذاكرة والإدراك البشري. فما الذي يحدث في الدماغ عندما نشعر بأنَّنا مررنا بموقف معيَّن من قَبل؟ ولماذا يشعر بعضهم بالديجافو أكثر من غيرهم؟
سنتناول في هذا الدليل الشامل مختلف جوانب ظاهرة الديجافو، بدءاً من التعريف وأنواعه، وصولاً إلى التفسيرات العلمية وأبرز النظريات التي تسعى لفهم هذه الظاهرة. سواء اختبرت هذه الحالة من قبل أم ترغب فقط في معرفة المزيد عنها، سيوفر لك هذا المقال نظرة متعمقة وشاملة حول الديجافو.
ما هي حالة الديجافو؟
هي ظاهرة نفسية شائعة يشعر فيها الشخص بأنَّه قد مرَّ باللحظة أو التجربة الحالية نفسها من قبل، رغم أنَّه يعلم بأنَّ هذا ليس ممكناً منطقياً.
الكلمة فرنسية الأصل وتعني حرفياً "شوهِد من قَبل". يمكن وصف هذه الحالة بأنَّها شعور قوي بالمعرفة أو التآلف تجاه موقف معيَّن أو حدث، على الرغم من أنَّ هذا الحدث قد يكون جديداً بالكامل.
تحدث هذه الظاهرة عندما يحصل اختلال طفيف في آلية الدماغ التي تربط بين الإدراك الحسي والتخزين في الذاكرة، وبسبب هذا الاختلال، يشعر الشخص وكأنَّ التجربة الحالية مألوفة، كأنَّها قد حدثت من قَبل.
يعتقد الباحثون أنَّ هذا الشعور يحدث بسبب "الذاكرة الزائفة" أو عندما يكون هناك تشابه قوي بين التجربة الحالية وتجربة سابقة مشابهة نسبياً، ممَّا يؤدي إلى لبس في التمييز بين الذكريات الفعلية.
أسباب الديجافو غير محدَّدة تماماً، ولكن يقترح العلماء أنَّ هناك عدة عوامل قد تكون وراءها، ومن بين هذه العوامل: التوتر، والتعب، وبعض الحالات العصبية، مثل الصرع إذ وُجد، فهذه الظاهرة شائعة أكثر لدى الأشخاص الذين يعانون من الصرع الصدغي، كما ترتبط بعض النظريات بعمليات معقدة في الدماغ، مثل معالجة المعلومات الحسية وسرعة تكوين الذكريات.
تشير دراسات إلى أنَّ الديجافو يحدث في الغالب بين الأفراد الشباب ويتراجع مع التقدُّم في العمر، ممَّا قد يشير إلى أنَّ الدماغ يكون أكثر عرضة لمثل هذه الظواهر في فترات معيَّنة من الحياة.
تُعدُّ الديجافو ظاهرة طبيعية وغير ضارة في معظم الحالات، إلَّا إذا تكرَّرت بصورة مفرطة أو ارتبطت بأعراض أخرى، ففي هذه الحالة يُفضَّل استشارة طبيب مختص للتأكد من عدم وجود حالة صحية كامنة تتطلب العلاج.
أنواع الديجافو
تشتمل هذه الظاهرة على أنواع متعددة تعكس تجارب وعمليات عقلية متنوعة، ويُعدُّ كل نوع منها تجربة فريدة قد تشترك في الشعور العام بالتآلف أو المعرفة المسبقة، إلَّا أنَّ كل نوع يمتاز بخصائص معيَّنة، وفيما يأتي أنواع الديجافو:
1. ديجافو Déjà vécu
هذا النوع هو الأكثر شيوعاً، ويعني حرفياً "شوهد من قبل" أو "عاش من قبل". يشعر الفرد في هذه الحالة بأنَّه قد مرَّ بالتجربة الحالية بأكملها من قبل بكلِّ تفاصيلها الدقيقة، فقد يكون الشخص قادراً على توقُّع ما سيحدث في اللحظة التالية، ويشعر وكأنَّه يعيش تكراراً لحدثٍ قد مرَّ به مسبقاً، وعادةً ما يكون هذا الشعور قوياً وملموساً، وقد يرافقه تذكُّر بعض التفاصيل الدقيقة عن المكان أو الأشخاص أو الأحاديث، حتى وإن كانت التجربة جديدة تماماً.
2. ديجا سانتي Déjà senti
يعني هذا النوع "شُعِرَ به من قبل"، وهو يتعلق بالمشاعر والأحاسيس أكثر من التجربة البصرية أو الأحداث. يشعر الشخص في هذه الحالة بأنَّه قد شعر بالمشاعر نفسها التي يمرُّ بها الآن في وقت سابق. تترافق هذه التجربة مع لحظات معيَّنة من السعادة، أو الحزن، أو القلق، أو حتى مجرَّد شعور داخلي ليس له ارتباط مباشر بما يحدث في البيئة المحيطة، وغالباً ما يُنسى هذا النوع بسرعة لأنَّه يرتبط بالشعور بدلاً من الأحداث المحددة.
3. ديجا فيزيتي Déjà visité
يُعدُّ هذا النوع أقل شيوعاً، ويعني "زيارة من قبل". يشعر الشخص في هذه الحالة بأنَّه يألف مكاناً لم يسبق له زيارته على الإطلاق، فقد يحدث هذا الشعور في زيارة مدينة أو بلد جديد، أو حتى مجرد دخول مكان جديد، مثل منزل أو متجر.
يعتقد بعضهم أنَّ هذا النوع متعلق ببقايا أو آثار من الذاكرة طويلة الأمد، فيستحضر الدماغ ذكريات قديمة عن مواقع مشابهة أو معلومات قد يكون تلقاها سابقاً عبر وسائل الإعلام.
4. ديجا انتاندو Déjà entendu
يشير هذا النوع من الديجافو إلى ما "سُمِعَ من قبل"، ويحدث عندما يشعر الشخص بأنَّه قد سمِعَ صوتاً أو موسيقى أو محادثة من قبل، على الرغم من أنَّه لم يسمعها فعلياً في الواقع.
يمكن أن يظهر هذا النوع خلال الاستماع إلى محادثات بين أشخاص أو سماع صوت معيَّن، فينشأ هذا الشعور من الارتباط بين أنماط صوتية مألوفة، أو استرجاع أصوات قد سمعها الفرد في الماضي ودمَجَها الدماغ مع الأصوات الحالية.
5. ديجا إيبروفي Déjà éprouvé
يُعدُّ هذا النوع نادراً نسبياً، ويتعلق بالشعور بتجربة أحاسيس جسدية. يحدث حين يشعر الشخص بأنَّه قد مرَّ بتجربة حسية، مثل الرائحة، أو الملمس، أو حتى تذوُّق طعام معيَّن وكأنَّه مرَّ به في السابق.
يظهر هذا الشعور عند تناول طعام جديد أو شم رائحة معيَّنة للمرة الأولى، ويشعر الفرد بأنَّه قد جرَّبها بالفعل في الماضي.
6. ديجا برسينتي Déjà Pressenti (لُمِسَ أو حُسَّ ملمسه من قبل)
يتضمن هذا النوع شعور الشخص بأنَّه قد لمسَ شيئاً ما أو شعَرَ بملمسه من قبل، حتى وإن كانت التجربة جديدة تماماً. قد يحدث هذا الشعور عند لمس جسم جديد أو مادة لم يسبق للشخص أن تعامل معها.
7. ديجا كونّو Déjà Connu (معرفة هذا الشخص من قبل)
يشعر الفرد في هذا النوع بأنَّه يعرف شخصاً قابَلَه للتو وكأنَّه التقى به سابقاً، ويُعدُّ هذا النوع شائعاً عند مقابلة أشخاص جدد، فيشعر الشخص بألفة غير مبررة تجاههم.
8. ديجا راكونتي Déjà Raconté (إخبار هذا الخبر من قبل)
يحدث هذا النوع عندما يشعر الفرد بأنَّه قد سمِعَ خبراً أو قصة معيَّنة من قبل، ويكون الشعور مصحوباً بإحساس قوي بأنَّه قد أُطلِعَ على المعلومات نفسها في وقت سابق.
9. ديجا ديت Déjà Dit (قول هذا الكلام أمامي من قبل)
يحدث هذا النوع عند سماع شخص يتحدث بعبارات أو جمل يشعر الفرد بأنَّها قد قيلت أمامه من قبل، حتى وإن كانت المحادثة جديدة تماماً.
10. ديجا ريكونتري Déjà Recontré (مصادفة الشيء من قبل)
يشعر الشخص في هذا النوع بأنَّه قد صادف شيئاً معيَّناً من قبل، كأن يرى شيئاً أو مكاناً ويشعر أنَّه قد مرَّ به في الماضي.
11. ديجا ريفي éjà Rêvé (رؤية هذا الحلم من قبل)
يتعلَّق هذا النوع بالشعور بأنَّ تجربة حالية قد حَلُمَ بها الشخص في وقت سابق، وقد يكون الشعور قوياً بحيث يبدو أنَّ تفاصيل التجربة مطابقة تماماً للحلم الذي رآه.
12. ديجا سينت Déjà Sent (شُمَّت هذه الرائحة من قبل)
يرتبط هذا النوع بشمِّ رائحة معيَّنة يشعر الشخص بأنَّه قد شمها من قبل في سياق آخر، فقد يكون الإحساس قوياً بحيث يستحضر ذكرى معيَّنة مرتبطة بالرائحة.
13. ديجا غوتي Déjà Gôuté (تذوُّق هذا الطعم من قبل)
يحدث هذا النوع عند تناول طعام أو مشروب جديد، ولكنَّ الشخص يشعر وكأنَّه قد تذوَّقه مسبقاً، ويمكن أن يرتبط هذا النوع بذكريات معيَّنة متعلقة بالطعام والمذاق.
14. ديجا سو Déjà Su (عُرِفَت هذه الفكرة من قبل)
يتضمن هذا النوع شعور الشخص بأنَّه قد فكَّر في فكرة معيَّنة أو تعرَّف على مفهوم معيَّن من قبل، حتى وإن كانت هذه الفكرة جديدة تماماً بالنسبة له.
15. ديجا في Déjà Fait (أُنجزت مهمة معيَّنة من قبل)
يشير هذا النوع إلى الشعور بأنَّ الشخص قد قام بالفعل بأداء مهمَّة أو إنجاز شيء معيَّن، حتى وإن كان يقوم به للمرة الأولى.
16. ديجا بارلي Déjà Parlé (تكلَّمتُ بهذا الكلام من قبل)
يحدث هذا النوع عندما يشعر الشخص بأنَّه قد تكلَّم بالعبارات أو الجمل نفسها التي يقولها حالياً في سياق مختلف سابقاً، ممَّا يضفي شعوراً بالتكرار غير المنطقي.
17. ديجا بينسي Déjà Pensé (فكَّرتُ بهذه الطريقة من قبل)
يتعلق هذا النوع بالشعور بأنَّ الفرد قد فكَّر بالأفكار أو الطريقة نفسها في وقت سابق، وكأنَّه يعيد تكرار نمط التفكير أو التحليل نفسه.
يعكس كل نوع من هذه الأنواع أبعاداً مختلفة للذاكرة والإدراك، وقد يكون مرتبطاً بطرائق متباينة في معالجة الدماغ للمعلومات، فيمكن لبعض هذه الأنواع أن تكون تجربة عابرة وغير هامة، بينما يمكن أن يلفت بعضهم الآخر الانتباه إلى كيفية تأثير الذاكرة والبيئة والتجارب السابقة في إدراكنا للحاضر.
شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية
التفسير العلمي لظاهرة الديجافو
هي واحدة من أكثر الظواهر التي أثارَت فضول العلماء والباحثين على مرِّ السنين، وتوجد عدد من التفسيرات العلمية المحتملة التي تفهم سبب وكيفية حدوث هذه الظاهرة.
تتداخل عوامل نفسية وعصبية وبيولوجية معقدة في هذا الشعور، ممَّا يجعل تفسيره تحدياً كبيراً، وفي ما يأتي بعض التفسيرات العلمية الأكثر شيوعاً:
1. التفسيرات العصبية
يعدُّ التفسير العصبي من أبرز التفسيرات وأكثرها شيوعاً لظاهرة الديجافو، ويوضِّح أنَّ الديجافو ينجم عن خلل بسيط في الاتصال بين أجزاء الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والإدراك.
يعدُّ الفص الصدغي الأيمن، وخاصة منطقة الحُصين، من المناطق المرتبطة مباشرةً بحدوث الديجافو، فيُعتقد أنَّ نشاطاً كهربائياً زائداً قد يؤدي إلى شعور الشخص بأنَّه مرَّ بتجربة معيَّنة من قبل.
يختبر الأشخاص الذين يعانون من الصرع الصدغي حالات متكررة من الديجافو قبل حدوث النوبات، ممَّا يدعم فكرة أنَّ النشاط الكهربائي غير المنتظم في الدماغ يمكن أن يؤدي إلى هذا الشعور الغريب.
2. التفسيرات النفسية
يرى بعض العلماء أنَّ الديجافو في علم النفس قد يكون ناتجاً عن عملية نفسية معقدة ترتبط بالطريقة التي يخزِّن بها العقل الذكريات ويسترجعها. يقترح هذا التفسير أنَّ الديجافو يحدث عندما يتعرَّف الدماغ على موقف جديد استناداً إلى تجربة سابقة مماثلة، حتى وإن لم تكن التجربة السابقة مطابقة تماماً.
قد يكون الدماغ قد خزَّن الذكريات تخزيناً غير دقيق أو غير مكتمل، وعندما تواجهه تجربة مشابهة، تُسترجَع تلك الذكريات ويشعر الفرد وكأنَّ الموقف قد حدثَ سابقاً.
3. النظريات المعرفية
تقترح النظريات المعرفية أنَّ الديجافو في علم النفس قد يكون مرتبطاً بعملية معالجة المعلومات في الدماغ، ويعتقد بعض الباحثين أنَّ هذه الظاهرة قد تحدث نتيجة لحدوث تداخل زمني بين ذاكرة قصيرة الأمد وذاكرة طويلة الأمد، فتُرسَل المعلومات من العينين إلى الدماغ وتُعالَج ببطء نسبي في أحد المسارات، بينما تُعالَج بسرعة في مسار آخر.
يؤدي هذا التأخير الطفيف إلى الشعور بأنَّ التجربة قد خُزِّنت بالفعل بوصفها ذاكرة طويلة الأمد، رغم أنَّها في الحقيقة لا تزال جزءاً من التجربة الحالية.
4. الارتباط بالضغط النفسي والتعب
هناك نظرية تشير إلى أنَّ الإجهاد والضغط النفسي، بالإضافة إلى قلة النوم والتعب الشديد، يمكن أن يُحدِثوا الديجافو، فعندما يكون العقل مرهَقاً، قد يصبح أكثر عُرضة لاختلالات في معالجة المعلومات وتخزينها، ممَّا يؤدي إلى حدوث انقطاعات في كيفية تشكيل الذاكرة.
تجعل هذه الحالات الدماغ أقل قدرة على الفصل بين ما هو قديم وما هو جديد، ما قد يفسر الشعور المألوف الذي يأتي مع الديجافو.
5. التأثيرات البيولوجية والوراثية
تشير بعض الدراسات إلى أنَّ هناك عاملاً وراثياً يمكن أن يؤدي دوراً في احتمالية تعرُّض الشخص للديجافو، وقد وجدَت بعض الأبحاث أنَّ الأفراد الذين لديهم تاريخ عائلي مع الصرع أو بعض الحالات العصبية، قد يكونون أكثر عرضة لتجربة هذه الظاهرة، كما يُعتقد أنَّ التغيرات الكيميائية في الدماغ، مثل تلك المتعلقة بالنواقل العصبية كالدوبامين والسيروتونين، قد تؤثر أيضاً في احتمالية حدوث الديجافو، ممَّا يشير إلى وجود ارتباط بيولوجي معقد وراء هذه الظاهرة.
تبقى الديجافو بغض النظر عن التفسير المحدد ظاهرة لم تُفهم بصورة كاملة بعد، ومع ذلك، فإنَّ التقدُّم المستمر في تقنيات التصوير الدماغي ودراسة الدماغ، قد يوفر المزيد من الأدلَّة حول آليات حدوثه. يتَّفق معظم العلماء على أنَّ الديجافو ليس ظاهرة ضارة في حد ذاتها؛ بل هي مجرد نتيجة لعمليات معقدة في الدماغ، ممَّا يجعلها جزءاً من تعقيد التجربة الإنسانية.
في الختام
تظلُّ ظاهرة الديجافو واحدة من الظواهر النفسية التي تثير فضول الباحثين والأفراد على حدٍّ سواء.
لا تزال تحتفظ رغم التقدُّم في الأبحاث والتفسيرات العلمية بجانب من الغموض يجعلها تجربة فريدة وغير قابلة للتفسير الكامل. سواء كانت تلك اللحظات مجرد اختلاط بين الذاكرة والإدراك، أم نتيجة لعوامل نفسية وعصبية، فإنَّها تقدِّم لنا لمحة عن تعقيد عمل الدماغ البشري وقدرته على التعامل مع الزمن والتجارب بطرائق غير متوقعة.
يفتح فهم الديجافو أبواباً لدراسة أعمق حول الذاكرة والإدراك، ممَّا يمكن أن يُطوِّر أساليب علاجية وتحليلية جديدة في مجالات علم النفس وعلم الأعصاب، وفي النهاية تبقى هذه التجربة جزءاً من تعقيد وجمال العقل البشري، الذي لا يزال يحمل أسراراً كثيرة تستحق الاستكشاف.
أضف تعليقاً