لقد استقروا بعد رحلة في البرية في مكانٍ ما بالقرب من الحدود "المنغولية" (Mongolian)، وبدؤوا في بناء سلسلة من الأكواخ البدائية، واستقروا فيها، حتى إنَّهما أنجبا طفلين آخرين في البرية.
أمضت الأسرة أيامها في الصيد ونصب الفخاخ والزراعة، وتوفيت الأم "أكولينا" جوعاً في عام 1961؛ إذ اختارت إطعام أطفالها، لكنَّ العائلة بقيت في البرية حتى اكتشفهم عالم جيولوجي في عام 1978؛ فقد عاش أفراد عائلة "ليكوف" هناك دون توفر أي شكل من أشكال التواصل مع العالم الخارجي لمدة 42 سنة.
كان عام 1981 عاماً مأساوياً؛ إذ عانى اثنان من الأطفال من فشلٍ كلوي، وتوفي فرد آخر من الأسرة بسبب التهاب رئوي، وتوفي "كارب" عام 1988 وهو نائم. وقد كانت الناجية الوحيدة "أغافيا" (Agafia)، وهي ما تزال تعيش في البرية حتى اليوم.
عُرِضَت قصة عائلة "ليكوف" (The Lykovs) في حلقة من برنامج "فار أوت" (Far Out) عام (2013). إنَّها قصة رائعة للبقاء والعمل الجماعي وضبط النفس، فحتى بعد اكتشاف العائلة في عام 1978، وإدراك أنَّه لا يوجد حرب، قرَّروا العيش في مكان قاسٍ لا يمكنك الوصول إليه إلا بطائرة هليكوبتر في بعض الأوقات من العام.
ما هو ضبط النفس ولماذا هو أمر هام في الحياة؟
يتكوَّن ضبط النفس من عنصرين: القدرة على مقاومة الإغراءات، والتحكُّم بالعواطف والسلوك.
أكَّدت دراسة أُجرِيت عام 2020 من قبل الدكتورة "بيني سبيكينز" (Dr. Penny Spikins)، و"جيمس جرين" (James Green) من جامعة يورك (University of York) أنَّ ضبط النفس هو أحد أهم العوامل في التطور البشري: "نحن نعتمد باستمرار على ضبط النفس في كل جانب من جوانب حياتنا، ومع أنَّها ليست قدرةً فريدةً لدى البشر، فإنَّ المستويات المرتفعة من ضبط النفس لدينا قد تؤدي دوراً رئيساً في تطورنا، ومن المحتمل أن يكون ضبط النفس مفتاحاً لعديد من الصفات، مثل السلوكات الإيجابية الاجتماعية التي تحدِّد من هو الإنسان المعاصر".
تُظهِر الدراسة أنَّ ضبط النفس يؤدي دوراً في جوانب هامَّة، مثل الممارسة الهادفة، والتخطيط المستقبلي، واستثمار الوقت والطاقة، وتحمل المتاعب، وبالعودة إلى قصة عائلة "ليكوف" فمن دون هذه العوامل لما تمكَّنوا من البقاء أكثر من أسبوعين.
شاهد بالفيديو: كيفية التحكم بالانفعالات وضبط النفس
ضبط النفس في الحياة اليومية:
يرغب معظمنا في الحصول على حياة مهنية مُرضية، وحياة اجتماعية مُفعمة بالحياة، وعلاقات جيدة مع الآخرين، وأن نكون في حالة صحية وجسدية جيدة؛ لذلك نحن نحتاج إلى ضبط النفس لتحقيق هذه الأمور الجيدة في حياتنا، ونقدِّم لكم فيما يأتي بعض الأمثلة لما يبدو عليه ذلك في الحياة اليومية:
1. الأكل الصحي:
"لماذا يصعب على البشر تناول الطعام الصحي؟" من أكثر الإجابات شيوعاً عن هذا السؤال: "نحن نفتقر إلى ضبط النفس"، فنحن نعلم جميعاً أنَّ الأمر ليس بهذه البساطة؛ إذ يمثِّل الأكل الصحي مشكلةً لأسباب عدَّة، على سبيل المثال يرى معظمنا أنَّ الطعام متعةً وليس وقوداً، ففي البلدان المتقدِّمة لا يقلقون بشأن الحصول على الغذاء من أجل البقاء.
لكنَّ جسمك ما يزال لديه دافع طبيعي للاستفادة من الطعام عندما يكون متاحاً، بالإضافة إلى ذلك ثمة عدة عمليات بيولوجية جارية لسنا على علم بها، فقد أظهرت دراسة حديثة أُجرِيت في "جامعة ليدز" (University of Leeds)، باستخدام بيانات لـ (27334) فرداً من (12) دولة أوروبية، أنَّه يوجد صلة واضحة بين التعليم والنظام الغذائي.
فإنَّ تناول الطعام الصحي لا علاقة له بقدرتك على مقاومة شراء الوجبات السريعة أو طلب البيتزا، وإنَّما يرتبط بكل ما يتعلَّق بمقدار تثقيف نفسك بشأن جسمك، وكوننا نفتقر إلى ضبط النفس لمعرفة المزيد عن التغذية وطول العمر وطريقة عمل أجسادنا، فهذه الأسباب الهامَّة هي التي تكمن وراء صعوبة تناول الطعام الصحي.
2. إدارة الشركات:
تُظهِر الإحصاءات الأخيرة أنَّ 65% من الشركات لا تنجح حتى الذكرى السنوية العاشرة من تأسيسها، لكن لماذا؟
الأمر مُعقَّد مثل تناول الطعام الصحي؛ إذ يتعلَّق الأمر بمقدار قدرة الشركات على التكيُّف مع التغييرات؛ إذ يتغيَّر عالمنا بسرعة كل عام، فعندما تستخدم الشركات أو الخبراء لغة، مثل: "نحن المزوِّد الأول لكذا وكذا"، أو "لدينا 50 مليون مشاهدةً"، يكون الأمر مزعجاً، فإنَّ إدارة الشركات لا علاقة لها بالأشخاص أو بأوسمة الشرف التي حصلت عليها، وإنَّما يتعلَّق الأمر بما يمكنك فعله لعملائك، ويتطلَّب ذلك ضبط النفس للاستمرار في التركيز على الأمور الهامة.
3. تحسين الذات:
لماذا يصعب عليك تحسين ذاتك؟ كل يوم لدينا خيار القيام بأمر يؤتي ثماره لاحقاً بدلاً من الآن؛ إذ يمنحك الذهاب إلى الشاطئ، أو مشاهدة البرامج التلفزيونية بكثرة، أو التدخين، أو أيَّ نشاط ممتع آخر في الحياة، مكافأةً فوريةً، فستشعر بالراحة بصورة مؤقتة، لكن بعد عام أو عامين أو خمسة أعوام، ستلقي نظرةً إلى الماضي ولن ترى أي تقدُّم في حياتك.
ففي الحياة يجب علينا التعامل مع مفهوم يسمى "إنتروبيا" (Entropy)، فالإنتروبيا هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، ويرمز إلى درجة الفوضى أو عدم اليقين في النظام، والفكرة الأساسية هي أنَّ كل شيء داخل النظام يتحرَّك نحو الفوضى.
لذا؛ كثيراً ما يقول الناس: "تأقلم أو مت"، وإذا لم تمضي قُدماً، فإنَّ كل ما يتعلَّق بك بصفتك إنساناً سيتدهور، فهذه النظرة مخيفة، لكن تكمن المشكلة في أنَّ درجة التدهور صغيرةً جداً لدرجة أنَّنا لا نلاحظ أيَّ شيء يومياً.
فربما تشعر اليوم نفس الشعور الذي شعرت به بالأمس؛ إذ يظهر تأثير الإنتروبيا لدى البشر على الأمد الطويل؛ لذا لا نشعر بالحاجة المُلحة إلى تحسين أنفسنا اليوم، فنحن نحتاج إلى ضبط النفس للاستثمار في أنفسنا على الرَّغم من عدم وجود تحسُّن يومي.
طرائق تطوير ضبط النفس:
نقدِّم لك فيما يأتي 3 أمور يمكنك فعلها لتطوير ضبط النفس:
1. توجيه طاقتك نحو نشاط مفيد:
هذا الموضوع مشترك مع كل الأشخاص الذين يُظهِرون درجةً عاليةً من ضبط النفس؛ إذ يوجد دائماً مسعى أو هدف سامي، ولقد نجت عائلة "ليكوف" في البرية لتجنُّب الاتهامات والموت.
فقد لا يكون لحياتنا نفس مخاطر الحياة والموت، فما زلنا نحتاج إلى السعي، ويجب أن يكون سعينا مفيداً للحفاظ عليه؛ إذ لن تُحفِّزك المساعي الضحلة التي تلبي رغباتك المادية على التحكُّم برغباتك فحسب، فأنت تحتاج إلى أمر في غاية الأهمية، وأن تكون على استعداد لفعل كل ما يتطلَّبه الأمر.
2. تحديد أهداف طويلة الأمد:
يجب عليك أن تضع نظاماً بصورة يومية يجعلك مُنتجاً، وهذا النظام هو مزيج من استراتيجيات الإنتاجية التي تساعدك على الاستمرار، لكن عندما يتعلَّق الأمر بالقيادة على الأمد الطويل، فيجب تحديد الأهداف؛ لأنَّها ستمنحك إحساساً واضحاً بالاتجاه؛ لذا حدِّد الاتجاه الذي ترغب أن تتخذه في حياتك على مدى السنوات الثلاث أو الخمس أو العشر أو العشرين القادمة، فهذه تجربة فكرية صعبة جداً إذا أخذتها على محمل الجد.
فقد لا يعرف معظم الناس الاتجاه الذي يريدونه، لكن لا تسمح لنفسك أن تكون مثلهم، فمارس ضبط النفس بإجبار نفسك على اختيار اتجاه في الحياة، ولا تقلق فيمكنك دائماً تغيير أو تعديل الخطة للتكيُّف مع الظروف.
إقرأ أيضاً: 5 خطوات فعّالة لضبط النفس والسيطرة عليها
3. التقليل من التوتر:
توجد بعض الأدلة التي تؤكِّد أنَّ التوتر يُفسِد ضبط النفس، فعندما تمر بلحظة مرهقة في العمل، فمن المغري تناوُل قطعة حلوى (أو قطعتين) للتخلُّص من مشاعر التوتر، أليس كذلك؟
ينطبق الأمر نفسه على كل سلوك آخر مرتبط بالتوتر، إذا دقَّقت في حياتك، فستجد أنَّك تفعل كثيراً من الأمور لإدارة التوتر، كأن تذهب في إجازة، أو تشتري ما تشاء من الإنترنت، ولن يخفِّف أيَّاً منها من مشاعر التوتر لديك.
فإذا كنت تريد حقاً تقليل مشاعر التوتر، فيجب عليك تصميم حياتك بطريقة تمنحك مستوى من التوتر يمكنك التعامل معه، فبعض المواقف تسبِّب لنا كثيراً من التوتر، مثل العلاقات السيئة التي تعد سبباً شائعاً للتوتر، فلا توجد نصائح بسيطة ومُفصَّلة لإدارة التوتر.
يمكنك التأمل، أو المشي لمسافات طويلة، أو القراءة، أو كتابة يوميات، كل هذه الأمور ستقلِّل من التوتر، لكن لا يوجد شيء أفضل من تصميم حياة ينتج عنها توتر أقل من اللازم، وهذا لا يعني أنَّنا يجب أن نتجنَّب كل الضغوطات وحالات التوتر التي تواجهنا.
فإنَّ المستوى الأمثل للتوتر هو رائع بالنسبة إلينا وسيبطئ الإنتروبيا، ونحن نحتاج إلى تحديد هذا المستوى لأنفسنا، فكل شخص لديه تحمُّل مختلف للتوتر، والحل هو تحسين وعينا الذاتي وتحديد الأمور التي تسبِّب لنا التوتر، وبعد ذلك يجب علينا خفض ذلك إلى مستوى يمكننا التعامل معه دون الشعور بالإحباط.
الخلاصة:
كما ذكرنا منذ البداية، ضبط النفس هو قدرتنا على مقاومة الإغراءات والسيطرة على عواطفنا وسلوكنا، وسيزيد هذان الجانبان من جودة قراراتنا ومن ثمَّ حياتنا؛ نتمنَّى أن يُلهمك كل هذا لتعزيز ضبط النفس لديك، فإنَّ توجيه طاقتك نحو مسعى مفيد، وتحديد أهداف طويلة الأمد، وتقليل التوتر، كلها طرائق جيدة لإعداد نفسك لمزيد من ضبط النفس.
فتعزيز ضبط النفس هو أحد الأمور التي ليس لها هدف نهائي، فهي عملية لا تنتهي ولن تفيدنا إلا بقدر إتقاننا لها.
أضف تعليقاً