مواجهة أزمة كوفيد-19 بشكل جماعي تؤدي إلى النمو على الصعيد النفسي

رغم أنَّ التقارير الإخبارية عن الهلع الحاصل في شراء الأغراض واكتنازها قد تجعل من هذا الأمر صعب التصديق، إلَّا أنَّ الأبحاث تُظهِر أنَّ الكوارث الطبيعية كجائحة فيروس كورونا المستجد، يمكن أن تُبرِز أفضل ما في الناس. ومع أنَّ فترات التهديد أو الأزمات الكبيرة يمكن أن تسبِّب اضطراب ما بعد الصدمة، تُظهِر الأبحاث أنَّ ما يسمَّى بـ "النمو العكسي" هو استجابةٌ متوقعةٌ جداً. هذا ما يُعرَف بقدرتنا على التغلُّب على الأزمات، والنمو بشكلٍ أقوى وأكثر حكمةً ومرونة.



تُظهر الأبحاث أنَّه عندما يكابِدُ الناس الشدائد -كمرضٍ أو خسارةٍ من النوع الذي يسبِّب تغيراً في نمط الحياة- فإنَّ علاقتهم مع العالم تتغيَّر.

غالباً ما تساعدنا الشدائد في تبنِّي منظورٍ جديدٍ للحياة، وتحسين علاقاتنا مع الآخرين، واكتساب القوة الشخصية. وبمعنى آخر: ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى.

تُنشَّط غرائزنا البدائية في حالات التوتر الاجتماعي، وتحمينا الاستجابة الفطرية للبقاء من التهديدات غير المرغوب بها، ويمكن أن تكون عاملاً مساعداً أو عائقاً لعملية تأقلمنا. على الرغم من أنَّنا قد لا نمتلك القدرة على اختيار استجاباتنا تجاه الضغوط التي تواجهنا، إلَّا أنَّنا قد نجد سبلاً لتدريب أنفسنا على القيام بذلك. "استجابة الكر والفر" أو عدم القيام بأيِّ شيء، هي استجابات البشر الشائعة؛ حيث يتسبَّب التوتر العصبي باستجابةٍ هرمونيةٍ تهيئ الجسم للقتال أو الهروب من التهديد. ولكن أظهرت أبحاثٌ أكثر حداثةً أنَّنا نمتلك استجابة "المراعاة والصداقة"؛ حيث تُطلِق هذه الاستجابة عندما نواجه تهديداً هرموناتٍ مثل: الأوكسيتوسين، والذي يحثُّنا على بناء شبكتنا الاجتماعية والمحافظة عليها، للحد من التوتر والقلق، وتعزيز التعاطف.

إقرأ أيضاً: 4 عادات يومية للأشخاص الذين يملكون شبكة علاقات استثنائية

نمو ما بعد الصدمة:

تُظهر الدراسات التي تبحث في الكوارث الطبيعية أنَّ استجابة "المراعاة والصداقة" تقلِّل حدوث اضطراب ما بعد الصدمة وتُعزِّز "نمو ما بعد الصدمة". هذه هي التغييرات النفسية الإيجابية التي تحدث كاستجابةٍ لحدثٍ سبَّب صدمة، بما في ذلك زيادة التكيف والثقة بالنفس، وزيادة التعاطف، وتحسين الرفاهية الشخصية.

في الواقع، وجدت دراسةٌ لأشخاصٍ من هونغ كونغ، ممَّن عايشوا جائحة السارس، أنَّه وعلى الرغم من أنَّ الناس قد عانوا من صدمةٍ كبيرة، فإنَّ معظمهم ذكروا التغييرات الإيجابية الناتجة عن هذه الجائحة. حيث كانت زيادة الدعم الاجتماعي، والوعي بالصحة العقلية، ومعرفة أنماط حياةٍ صحية أكثر؛ التغيرات الأبرز. كما يُظهِر أحد الأبحاث أنَّ هناك فوائدُ لمواجهة الأزمة بشكلٍ جماعيٍّ مقارنةً بمواجهتها بشكلٍ فردي. وقد وجدت الدراسات أنَّ الدعم الاجتماعي خلال أوقات التعرُّض إلى الصدمات يمكن أن يؤدِّي إلى صحةٍ عاطفيةٍ أفضل، وردود أفعالٍ أقلَّ حدةً على المدى الطويل.

على سبيل المثال: بعد زلزال عام 2010 الذي كان بقوة 7.1 في كرايستشيرش - نيوزيلندا، أفاد أحد المشاركين في الدراسة بأنَّه شعر بارتباطٍ أقوى مع الآخرين بسبب هذه التجربة المشتركة. وقد وُجِد أنَّ الناس الذين قدَّموا شئياً ما أو ساعدوا الآخرين أو تبرعوا لمجتمعاتهم، قد اختبروا تطوُّراً أعظم على المستوى الشخصي، ومقدرةً أفضل على إدارة الأزمة، والاستمرار في ممارسة الروتين الطبيعي بعد الزلزال.

إقرأ أيضاً: 9 تصرفات لطيفة لمساعدة الآخرين والمحافظة على البيئة

التكاتف:

هل من الممكن أن نشهد نمواً مشابهاً خلال جائحة فيروس كورونا المستجد؟ يُقرُّ الباحثون، استناداً إلى الأبحاث النفسية السابقة، أنَّ اختبار هذا المستوى من الأزمات سينتج عنه مشاعرٌ وريبةٌ ومعاناةٌ جسديةٌ وكربٌ نفسي. إذاً، كيفية تعاملنا مع الأزمة -سواءً باستجابة الكرِّ والفر، أو "المراعاة والصداقة"- هو أمرٌ أساسي لصحتنا النفسية كأفرادٍ ومجتمع.

يمكن لاستجابة "الكر والفر" أن تحدث عندما نواجه تهديداً خارجياً، بينما يمكن لاستجابة "التعاطف والصداقة" أن تحدث من أجل تقديم الدعم لمن حولك. ولأنَّه لا يوجد "تهديدٌ خارجي" خلال الكوارث الطبيعية والأوبئة، فإنَّ حدوث استجابة "المراعاة والصداقة" هو الأرجح.

عندما نختار هذه الاستجابة فهذا يعني أنَّنا نتواصل مع الآخرين، إمَّا جسدياً أو مجازياً (مثل محاولة رؤية الأشياء من منظورهم، لفهم مشاعرهم ونضالاتهم)؛ لأنَّنا نحرِّر من خلال هذا الفعل هرمون الأوكسيتوسين العصبي كجزءٍ من استجابتنا التكيفية للتوتر. يُعرَف الأوكسيتوسين أيضاً باسم "هرمون الحب"، فهو الرسالة الكيميائية التي تؤثِّر في السلوكات البشرية الهامَّة، بما في ذلك الإثارة الجنسية والثقة والقلق؛ إذ لا يُنتج الأوكسيتوسين بكمياتٍ كبيرةٍ بعد الولادة لتقوية ارتباط الأم مع رضيعها فحسب، بل أيضاً عندما نبحث عن الدعم الاجتماعي في أوقات التوتر، ممَّا يساعدنا في الترابط، سواءً بالعناق أو اللمس أو التقرُّب.

ونظراً إلى أنَّ الكثير من الحكومات تنصح الآن بالتباعد الاجتماعي، فإنَّنا نعتمد الآن على الوسائل التكنولوجية لتحفيز استجابة "المراعاة والصداقة" لدينا. تُظهِر الدراسات أنَّه وعلى الرغم من أنَّ التكنولوجيا ستؤثِّر في مقدرتنا على الشعور بالاتصال والارتباط مع الآخرين، إلَّا أنَّ الاتصال الافتراضي مع الأصدقاء والعائلة سيعزِّز الترابط ويقلِّل من الآثار السلبية للتوتر. في الواقع، التحدُّث على الهاتف أفضل من المراسلة النصية، والدردشات المرئية أكثر فائدةً من المكالمات الهاتفية؛ حيث يمكنك رؤية الشخص الذي تتحدَّث إليه.

إقرأ أيضاً: 7 تطبيقات لعقد مؤتمرات الفيديو والاجتماعات عبر الإنترنت عن بعد

إنَّ الانتظام في التواصل الاجتماعي -حتَّى وإن كان افتراضياً- يمكن أن يساعد الناس في الترابط وتعزيز النمو الشخصي والرفاهية الاجتماعية لدى الأشخاص الذين يتأثَّرون بالصدمة المشتركة. هذا "التأقلم الجماعي" يجعلنا أكثر انفتاحاً على تكوين صداقاتٍ جديدة، كما يحثُّنا رد فعل "المراعاة والصداقة" على التعاطف والرحمة، ويجعل وعينا الاجتماعي أفضل؛ وبالتالي يحسِّن قدرتنا على فهم احتياجات الآخرين والتصرُّف بطريقةٍ متعاطفةٍ ومساعدة.

على الرغم من أنَّ التوتر رد فعلٍ مُبرَّرٍ في أوقاتٍ كهذه، إلَّا أنَّه من الهامِّ اختيار كيفية الاستجابة له. حيث أنَّ ردَّ فعل "المراعاة والصداقة" سيساعدنا في التفكير في الآخرين في مجتمعنا، وربَّما يكون هامَّاً في التباعد الاجتماعي وزيادة الاستجابات أو الأعمال الخيرية والشفقة.

في خضم هذه الأزمة العالمية، قد لا تُقلِّل الاستجابة التكيفية مع التوتر من حالات الغضب والتحامل والعنف فحسب، ولكن أيضاً قد تُعزِّز طبيعة البشر الجماعية والنمو في مرحلة ما بعد الجائحة.

 

المصدر




مقالات مرتبطة