مفهوم السعادة عند الفلاسفة

يسعى بعضنا إلى عيش حياة شريفة؛ في حين تكون المتعة هي ما ينشدها آخرون، في الحقيقة يمكننا جميعاً إيجاد التوازن بين هاتين الحياتين، فمع الخبرات التي اكتسبها بنو البشر على مر العصور، اكتشفنا كثيراً من أسرار السعادة؛ بعضها سبل للعيش مثل العطاء والامتنان، وبعضها الآخر من الحيَل الصغيرة كتناول الطعام الصحي وممارسة الرياضة، وأخرى مجرد سَعي إلى كسب المال.



ترجع معظم المقاربات الجادة للسعادة إلى تقاليد قديمة روَّج لها الفيلسوفان اليونانيان إبيقور (Epicurus) وإبيكتيتوس (Epictetus)؛ ففي حين ركز إبيقور على المتعة؛ نصَّت تعاليم إبيكتيتوس على الفضيلة. ينجذب البشر عادة إلى أسلوب واحد أو آخر، وقد اتبعت العديد من الفلسفات الرئيسة أحد المسارات لما يقارب ألفي عام. يمكن أن يخبرك فَهم أحد المذهبين الكثير عن نفسك - ومن ضمنها الأمور التي تُضعفك أمام السعادة - ويساعدك على إيجاد استراتيجيات تحقق لك التوازن في حياتك.

قاد إبيقور مدرسة فكرية تُدعى "الأبيقورية"، اعتقدت أنَّ الحياة السعيدة تتطلب شيئين: أتاراكسيا (ataraxia) وأبونيا (aponia)، وهما كلمتان في اللغة الإغريقية تعنِيان على التوالي: التحرر من الاضطرابات العقلية وغياب الألم الجسدي. قد تدعو فلسفته إلى تجنُّب الأمور المخيفة أو المؤلمة؛ لأنَّ الأبيقوريين يَعدُّون الانزعاج سلبياً عموماً، وبناء عليه، فإنَّ التخلص من التهديدات والمشكلات هو المفتاح إلى حياة أكثر سعادة.

لا تأخذ انطباعاً أنَّهم كسالى أو غير متحمسين؛ بل على العكس تماماً، في كثير من الحالات، لا يرون أنَّ الخوف والألم الدائم ضروريان أو مفيدان في طبيعتهما، ويركزون بدلاً من ذلك على الاستمتاع بالحياة.

كان إبيكتيتوس أحد أبرز الفلاسفة الرواقيين الذين اعتقدوا أنَّ السعادة تنبع من إيجاد هدف الحياة وقبول المصير والتصرف الأخلاقي، حتى لو كان على حساب المنفعة الشخصية. يمكن تلخيص فلسفته في هذه العبارة: "كن شجاعاً وقم بواجبك".

يرى الأشخاص الذين يتبعون المذهب الرواقي في السعادة شيئاً يُكتسب من خلال قدر كبير من التضحية.، لذا ليس من المستغرب أنَّ الرواقيين عموماً هم عمال كادحون يعملون من أجل المستقبل ومستعدون إلى تحمُّل أوزار كبيرة لتحقيق هدف حياتهم - كما يرونه - دون أن يتذمروا، ويرون أنَّ مفتاح السعادة هو العمل، بغضِّ النظر عن الألم والخوف؛ وليس تجنبهما.

شاهد بالفديو: 10 طرق مثبتة علمياً تجعلك أكثر سعادة

يمكن لأتباع كل من المذهب الإبيقوري والرواقي التعايش وحتى المعاشرة؛ لكن يميل أتباع المذهبين إلى النظر إلى بعضهم بعضاً بازدراء، ويبدو أنَّهم كانوا يفعلون ذلك طوال فترة وجود الفلسفتين. كتب كاتِب السير الذاتية الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، ديوجانس اللايرتي (Diogenes Laërtius)، أنَّ إبيكتيتوس كان ينعت إبيقور بأسوأ الصفات. وعلى الرغم من عدم وجود سجل تاريخي لرد إبيقور عليه، يمكنك بسهولة تخيُّل رده كالتالي: "أنت بحاجة ماسة إلى تهدئة أعصابك!"

منذ ما يقرب من الألفي عام، تساءل الفلاسفة عن النهج الذي يؤدي إلى سعادة أكبر وحياة أفضل. كِلا الرأيين لهما مزايا ومساوئ؛ لكن نريد أن نعرف ما الذي يمكن أن يتعلمه كل واحد منا ويتقبله من الآخر، نظراً إلى ميله الطبيعي تجاه أحد المذهبين.

يرى إبيقور أنَّ التعاسة تنجم عن الأفكار السلبية، بما في ذلك الشعور بالذنب غير المبرر، والخوف من الأشياء التي لا يمكننا السيطرة عليها، والتركيز على الأجزاء غير السارة التي لا مفر منها في الحياة. كان الحل هو إبعادها عن الذهن، ولهذه الغاية اقترح "علاجاً على أربعة أجزاء:

  • حُسن الظن بالله تعالى.
  • عدم خشية الموت.
  • ما هو جيد يسهل الحصول عليه وذلك بتقليل توقعاتنا لما نحتاجه لنكون سعداء.
  • ما هو سيئ يسهل تحمله وذلك بالتركيز على الأشياء السارة حتى في خضم المعاناة.

يصبح تطبيق هذا أسهل عندما نحيط أنفسنا بأشخاص ودودين في بيئة سلمية.

إقرأ أيضاً: كيف تحصل على السعادة والسلام الداخلي

دعا إبيقور إلى المتعة التي تعني باليونانية "هيدونيا" (hedonia)؛ ومع ذلك، لم يكن ليدرك استخدامنا الحالي للمصطلح، فهو لم يشجع على الفجور والطيش للتخلص من الأفكار السلبية. في الحقيقة، تنص تعاليمه على أنَّ البحث عن الملذات الدنيوية السهلة من دون تعقل أمر خاطئ؛ لأنَّه لا يمكن إشباعها. وبدلاً من ذلك، كان العقل هو أفضل سلاح لإبيقور ضد التعاسة. على سبيل المثال: كانت تعاليمه عندما نخشى الموت: "الموت لا يهمنا؛ لأنَّه طالما أنَّنا موجودون على قيد الحياة، فالموت لن يكون موجوداً، وعندما يأتي، لن نعود موجودين لنخشاه".

على النقيض من المتعة، يُعرف المذهب الرواقي باسم الازدهار الإنساني والرفاهية أو ما يُدعى باليونانية يودايمونيا، والذي يمكن تعريفه على أنَّه حياة نكرس فيها أكبر إمكاناتنا لتحقيق مُثلنا العليا. تتميز الرواقية بمبادئ المذهب الطبيعي والأخلاقي، أي تغيير الأشياء التي في استطاعتنا تغييرها يجعل الحياة أفضل، وفي الوقت نفسه قبول الأشياء التي لا يمكننا تغييرها أيضاً. يقول إبيكتيتوس: "لا تطلب أن تحدث الأشياء كما يحلو لك؛ بل تمنى أن يكن ما يكون، وسوف تكون على ما يرام".

الأخلاقية هي المبدأ القائل بأنَّه يجب تعريف الفضيلة الأخلاقية واتِّباعها في حد ذاتها. كتب إبيكتيتوس في خطاباته: "أخبر نفسك أولاً وقبل كل شيء أيَّ نوع من البشر تريد أن تكون، ثم تابع ما تفعله". في عبارة أخرى، أنشئ مدونة للسلوك الفاضل لنفسك، وعش حياتك وفقاً إليها، دون أية ثغرات لفعل ما يناسبك.

يُشجَّع الإبيقوريون والرواقيون على تركيز انتباههم على جوانب مختلفة من الحياة والموت؛ اقترحت فلسفة إبيقور أنَّنا يجب أن نفكر بعمق في السعادة، بينما بالنسبة إلى الرواقيين، فإنَّ مفارقة السعادة هي أنَّه لتحقيقها يجب أن ننساها، وأنَّه مع الحظ تتحقق السعادة عندما نسعى إلى تحقيق هدف الحياة. في الوقت نفسه، يشجعنا إبيقور على تجاهل الموت بينما نحن على قيد الحياة، ويصر إبيكتيتوس على مواجهته والتفكير فيه دوماً.

لم يتطرق بحث حتى الآن إلى سبب انحياز بعض الناس في طبيعتهم إلى الإبيقورية وآخرين إلى الرواقية. لا شك أنَّ الوراثة تلعب دوراً، نظراً إلى أنَّ حمضنا النووي يحدد نسبة كبيرة من شخصيتنا؛ لكنَّ من المحتمل أن تلعب التنشئة دوراً أيضاً. ففي إحدى الدراسات، وجد أحد العلماء أنَّ الآباء الذين سعوا إلى تحقيق الازدهار الإنساني والرفاهية، نقلوا ذلك إلى أطفالهم أيضاً. المعنى هنا واضح جداً: إذا كنت تريد أطفالاً يسعون إلى أداء الواجب والشرف، فافعل ذلك بنفسك؛ أما إذا كنت تسعى بدلاً من ذلك إلى تحقيق السعادة عن طريق تقليل الألم، فمن المحتمل أن يقلدك أطفالك في ذلك أيضاً.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح مهمة لتحقيق السعادة المُطلقة في الحياة

لقد اختلف الناس لقرون حول النهج الأفضل للسعادة؛ لكنَّ كلاً منهم كان يغني على ليلاه. في الحقيقة، كل واحد يسعى وراء جوانب مختلفة من السعادة؛ مذهب إبيقور الذي يجلب المتعة والتسلية، أو مذهب إبيكتيتوس الباحث عن المعنى والهدف. لاحظ علماء السعادة أنَّ الدمج بينهما هو الحل الأفضل للوصول إلى حياة سعيدة حقاً، فلن ينجم عن اتِّباع مذهب واحد حياة رغيدة؛ وللإجابة عن سؤال كيف يمكن للناس أن يوفِّقوا في حياتهم بين النهجين، ففيما يلي ثلاث أفكار:

1. معرفة نفسك:

لا نستطيع إحراز تقدم في الحياة إذا كنا لا نعرف ما نريد منها، حيث علينا الإجابة بصدق عن السؤال التالي: عندما يكون مزاجي متعكراً، هل أتطلع بطبيعة الحال إلى زيادة مستوى سعادتي ومتعتها، أم أركز على المعنى والهدف في حياتي؟ الأول هو علامة على أنَّك تميل إلى أن تكون إبيقورياً، أما الثاني فيشير إلى أنَّك رواقي أكثر.

من الناحية العلمية، طوِّرت العديد من الأدوات المدعومة بالأبحاث للحكم على الميول الإبيقورية أو الرواقية. على سبيل المثال: أجرى العلماء دراسة استقصائية في وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Sciences) في جامعة مينيسوتا (University of Pennsylvania) ساعدت في الكشف عن ميول المتعة. يمكن القول: إنَّ "استبيان المعنى في الحياة" يقيس ميول الحياة الجيدة في صورة دقيقة.

2. تعزيز الجانب الآخر من شخصيتك:

لا يعني دمج المتعة والمعنى كبت ما لديك؛ إنَّما تعزيز ما ينقصك. بمجرد معرفة ما تريد، يمكنك صياغة استراتيجية لتعزيز الانضباط الذي تفتقده بافتراض أنَّك لم تختر الاعتدال.

في نهاية كل يوم، راجع الأحداث التي مررت فيها، واسأل نفسك أسئلة مثل:

  • هل جلب لي هذا الحدث المتعة؟ وهل نجم عنه المعنى أيضاً؟
  • هل جعلني أشعر بالخوف؟ وهل تعلمت شيئاً من هذا الخوف سوف يؤدي إلى تقليل الخوف في المستقبل؟
  • هل كان هذا في مصلحتي؟ وهل خدم مصلحة الآخرين؟

اتخذ قرارات تجعلك تجيب بالإيجاب عن هذه الأسئلة.

يمكنك أيضاً المشاركة في تمرينات ملموسة تعالج ضعفك. فالرواقيون مثلاً قد يخططون إلى عطلات نهاية الأسبوع بعيداً عن الأصدقاء والعمل. في هذه الأثناء، قد يفعل الإبيقوريون شيئاً صعباً ومضنياً مثل التدريب لسباق الماراثون. يجب على الرواقيين ألا يغفلوا السعادة ويناقشوا حيثياتها خلال عطلات نهاية الأسبوع، وفي المقابل يجب أن يقضي الإبيقوريون وقتهم في التفكير في حقيقة الموت ومعناه.

3. بناء محفظة السعادة التي تستخدم كلا النهجين:

أخيراً، من الهام السعي إلى تحقيق أهداف الحياة التي يعزز فيها كل نهج سعادة الآخر. هذه الحقيبة بسيطة. احرص على أن تشمل حياتك الإيمان والأسرة والصداقة والعمل الذي تكسب فيه نجاحك وتخدم الآخرين. تجعل هذه العناصر جميعها كلاً من الرواقية والإبيقورية مرنتين. تتطلب العناصر الأربعة أن نكون حاضرين تماماً بمعنى إبيقوري، وأن نعمل أيضاً بجد ونلتزم فب الالتزامات القوية بالمعنى الرواقي.

نستنتج أنَّ النهج المتوازن للسعادة في الحياة هو الأفضل. في مقالته "التاريخ الطبيعي للعقل" (The Natural History of Intellect)، عبَّر عنه الكاتب الأمريكي رالف والدو إيمرسون (Ralph Waldo Emerson) بإيجاز: "الشخصيات والمواهب متكاملة ومكمِّلة. يقف العالم إلى جانب التناقضات المتوازنة".

إقرأ أيضاً: القواعد الخمس الأساسية للوصول إلى السعادة في حياتك

قول ذلك أسهل من فعله بالطبع. سواء أكُنَّا نتبع الإبيقورية أم الرواقية، فإنَّنا نريد دائماً مضاعفة ما يأتي بصورة طبيعية إلينا؛ لكنَّ هذا هو الطريق إلى الإفراط، والذي يقودنا في النهاية بعيداً عن السلامة. يقول المثل الإنجليزي: "كثرة العمل دون متعة تجعل المرء خاوياً"، وفي عام 1825، أضافت الروائية ماريا إيدجورث (Maria Edgeworth) إليه: "كثرة اللعب دون عمل يجعل المرء مجرد لعبة".

لذا لجميع الرواقيين: خذوا إجازة من عملكم، أما أنتم معشر الإبيقوريين: حان الوقت إلى استئناف العمل.

المصدر




مقالات مرتبطة