مشكلة السعادة الجزء الثاني

تحدَّثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن مشكلة السعادة وأسبابها، وسنكمل في هذا الجزء في التحدث عن حل لمشكلة السعادة، فتابعوا معنا السطور القادمة.



ماذا يمكننا أن نفعل حيال مشكلة السعادة؟

هذا التفسير للمشكلة مثير للاكتئاب والسخرية، فعلى عكس عديد من الفلسفات السامية للطبيعة البشرية، تُفسَّر دوافعنا الأساسية بطريقة لا يرغب الناس في الاعتراف بها، والغريب أنَّ هذا النفور هو أيضاً مُتعمَّد، فلو قبلنا بسهولة بهذا التفسير الساخر، فسوف يمنعنا من إظهار صفات أسمى في أنفسنا.

في البداية، قد تواجه صعوبة في قبول هذه النظرة عن العالم، فكيف لك أن تعيش الحياة إذا كنت تعتقد أنَّ هذا هو جوهرنا بصفتنا بشراً؟ لكن بعد قضاء المزيد من الوقت في التفكير، ستدرك أنَّ هذا المفهوم لا يمثِّل مشكلة كبيرة، فدماغنا مُصمَّم للتعامل مع هذا التناقض بين دوافعنا الأنانية والسامية بأسلوب طبيعي.

كنموذج ذهني للنظر إلى الواقع، هذه الصورة مفيدة في حل بعض المشكلات، لكن سيكون من الحماقة تطبيقها على جميع المساعي، فالنهج الصحيح هو عدُّ وجهة النظر هذه أداةً يمكنك تطبيقها عند فشل النهج التقليدي، وانطلاقاً من هذه الفكرة سنستخدم وجهة النظر التي تشرح بدقة مشكلة السعادة بوصفها عدسةً لفحص بعض الحلول الممكنة، وما قد يفسِّر بعض النجاحات والمشكلات التي تعوقها.

حلول مشكلة السعادة:

من غير المُحتمل وجود نموذج أفضل من هذا المفهوم للتصميم البشري والدوافع الخفية لفهم مشكلة السعادة، ولكنَّه لا يقدِّم حلاً، فمشكلة السعادة هذه موجودة منذ زمن وإن لم يكن هذا التفسير الشائع لها، وهناك عديد من التقاليد الفلسفية المختلفة لمحاولة التعامل معها، سنناقش بإيجاز شديد بعض هذه الحلول المطروحة وما قد يقوله فهمنا الجديد لطبيعة المشكلة عن نقاط القوة والضعف فيها:

الحل الأول: التقاليد

أحد الحلول لمشكلة السعادة هي العيش في مجتمع تقليدي؛ إذ يتَّبع جميع الناس الدين والأعراف والطقوس والمعتقدات نفسها، وقد كان الفيلسوف "كونفوشيوس" (Confucius) مناصراً قوياً لهذا النهج؛ إذ كان مؤمناً بأنَّ الانسجام في المجتمع يأتي من اتباع كل شخص طقوس الأسلاف وممارساتهم، وبرأيه كان التصرُّف بحكمة يعني معرفة بالضبط أي طقس يجب تطبيقه في أي موقف دون عناء.

قد يبدو العيش وَفقاً للطقوس والتقاليد التعسُّفية أمراً سخيفاً اليوم، ولكنَّه يحرِّر المرء من الحاجة إلى امتلاك أسباب لما يفعله، فكما تتذكَّر جزء كبير من مشكلة السعادة لم يكن مجرد أنَّنا نشعر بسعادة عابرة، وأنَّ دوافعنا منفصلة عن رغباتنا، لكن أيضاً تلك الرغبات متناقضة داخلنا؛ إذ نريد أن نبدو كأنَّنا نسعى وراء دوافع أسمى في حين نتَّبع دوافع أنانية؛ لذا من خلال تجنُّب الحاجة إلى امتلاك أسباب منطقية، يمكن تجنب العديد من هذه التناقضات.

لا يمكن اتباع مثل هذا النهج في المجتمع الحديث مع التنوع الذي يتَّصف به، فهناك عدة أديان وفلسفات ومجتمعات ومعتقدات وخلافات؛ أي يتطلَّب مجتمعنا أسباباً حقيقية للسلوكات التي يجب أن يكون لها مبرِّر، ونتيجة لذلك يسود النفاق المجتمع المعاصر.

من المُحتمل أيضاً أنَّ هذا الأسلوب لم ينجح منذ زمن، وذلك لأنَّ مشكلة السعادة من المُرجَّح جداً أن تكون مشكلة يصعب "التفكير" في طريقة لحلها، وهذا أمر منطقي، فدوافعنا الخفية تتعارض مع دوافعنا المعلنة، ومن المُرجَّح أن يؤدي التفكير هنا إلى العقلانية.

شاهد بالفيديو: 8 طرق مثبتة علمياً لنيل السعادة

الحل الثاني: تحقيق الرغبات عبر تحسين الذات

إذا لم تنجح التقاليد، فإنَّ الخيار الواضح التالي هو متابعة وتلبية رغباتك ودوافعك، فهذا هو جوهر تحسين الذات ومذهب المتعة، فميزة هذه الأساليب أنَّها لا تحاول إنكار أساس رغباتنا، فإذا كنا مُصمَّمين للتكيُّف مع نظرية التطور، ونحقِّق ذلك من خلال اكتساب الثروة والأصدقاء والقدرات الجسدية والمكانة الاجتماعية والمهارة، فإنَّ هذا النهج يدعونا إلى السعي خلف هذه الأهداف مباشرة.

كما يرشدنا هذا النهج إلى اتباع دوافع أقل أنانية أيضاً؛ إذ يمكن للمرء أن يهدف ليصبح شخصاً أفضل، وأن يكون أكثر إبداعاً ولطفاً وذكاءً وما إلى ذلك، ولا يعني هذا النهج في الحياة أن تكون أنانياً بالمطلق، ولكنَّه يميل إلى توجيهنا إلى اتباع رغباتنا بطريقة مباشرة أكثر.

والجانب السلبي الواضح لهذا النهج هو مشكلة السعادة نفسها، فقد نعمل بجد على الأهداف فقط للشعور بسعادة لحظية، وقد نصل إلى مرحلة جديدة في الحياة ونكتشف أنَّها مليئة بالآلام والإحباطات الجديدة التي حاولنا تجنُّبها.

الحل الثالث: فهم ما تخفيه الرغبات

تدعو بعض المذاهب الفلسفية إلى رؤية ما وراء أوهام العديد من رغباتنا، وإلى ممارسة الاعتدال أو الزهد وتجنُّب الإغراءات، وإلى فهم أنَّ الملذات والألم وجهان لعملة واحدة؛ لذا لا يمكنك الحصول على أحدهما والهرب من الآخر، وتشجِّعنا على ممارسة اليقظة الذهنية والسيطرة على انتباهنا من خلال التأمُّل.

فالاختلافات بين مناهج حل مشكلة السعادة طفيفة، حتى لو كانت أصولها تختلف اختلافاً جوهرياً؛ إذ يدافع الرواقيون عن اكتساب القوة الذهنية من خلال مواجهة المصاعب واتباع المنطق، ويدعو آخرون إلى الوعي بالصعوبات وكشف التناقضات التي تبدِّد أوهام الذات والازدواجية.

تكمن قوة هذا النهج في أنَّه يواجه مشكلة السعادة مواجهةً مباشرةً، والجانب السلبي هو أنَّه بفعله ذلك قد يحارب الطبيعة البشرية نفسها، وجانب سلبي آخر هو أنَّه يستند إلى الأنواع نفسها من المبادئ السامية التي نودُّ أن نتظاهر بأنَّنا نمتلكها في حين لا نتبعها في الواقع، لذلك عندما يتخيَّل المرء باحثاً رواقياً، فقد نرغب في أن نبدو كأنَّنا نجسِّد مثل هذا المظهر الحكيم، ولكنَّنا لا نريد أن نكون على هذا النحو، وهذا يُنشئ تناقضاً مع الذات قد يؤدي إلى الفشل دائماً في تحسين أنفسنا، وستجد هذا التناقض الذاتي في كثير من الناس الذين يهتمون جداً بهذه الأساليب في الحياة، ولكنَّهم لا يتمكَّنون من ممارسة التأمُّل ممارسةً منتظمةً أو تبنِّي هذا الموقف باستمرار.

الحل الرابع: القبول المطلق

الحل النهائي لمشكلة السعادة هو قبولها، لا تقبل فقط أنَّ الرغبات عابرة وأنَّ الحياة عابرة، لكن أيضاً تقبَّل أنَّ الطبيعة البشرية مبنية على التناقضات، فهناك تناقض بين مساعينا السامية ودوافعنا الأنانية، وبين ما نستمتع به وما نسعى إليه، بين شخصياتنا التي نقدِّمها للمجتمع ووعينا سريع الزوال، وهذا التناقض هو حالة الطبيعة، لذلك ربما يكون من الأفضل قبوله بالكامل.

هناك مفكِّرون يدافعون عن مفهوم على غرار القبول المطلق، أو يتأرجحون بين الحلِّين الثالث والرابع، وهذا النهج الأخير ينفي وجود مشكلة ليس بتجاهلها، لكن بقبولها تماماً، على سبيل المثال يعدُّ هذا النهج بأنَّ حرارة الشمس ليست مشكلة، بل من حقائق الطبيعة ونحن من نحكم عليها بوصفها مشكلة.

فائدة هذا الموقف الأخير هو أنَّه يسمح أيضاً بمقاربة غير فكرية للمشكلة، نظراً لأنَّ التفكير يؤدي إلى تفاقم التناقض بين دوافعنا الخفية والمعلنة؛ لذا قد يكون موقف المفكرين الذين يعتقدون أنَّه لا يمكن التفكير حتى التوصل إلى الموقف الصحيح تجاه المشكلة هو الصحيح.

إقرأ أيضاً: كيف تحصل على السعادة في حياتك؟

تقييم الحلول المحتملة:

في حين أنَّه يمكن فهم مشكلة السعادة بوضوح إلى حدٍّ ما، يبدو الحل محفوفاً بالصعوبات والتناقضات المُحتملة، وذلك لأنَّ السعي وراء الرغبات يرضي دوافع تصميمنا البشري، لكن عند فعل ذلك نقع فريسة للإحباط، وذلك لأنَّه لا يمكننا العثور على السعادة الدائمة عبر إرضاء أهوائنا.

فقد يؤدي التخلِّي عن دوافعنا أو تعديلها إلى تبديد الوهم، ولكنَّ هناك أسباباً قوية للاعتقاد بأنَّه شيء قد نريد أن يبدو وكأنَّنا نفعله دون فعله، ومن ثمَّ فإنَّ معظم محاولاتنا في هذا الاتجاه ستؤدي في النهاية إلى الفشل، فقد يكون النهج غير الفكري واعداً، ولكنَّه غالباً ما يكون متناقضاً ومُربكاً كما الموقف الأصلي.

ربما يجب ألا تطالب بأي حل للمشكلة، وتصل إلى موقف هو مزيج من جميع الأساليب المقترحة؛ إذ تستمر في متابعة طموحاتك ورغباتك، لكن باعتدال مع فهم أنَّها لن تؤدي إلى سعادة مستدامة، وفي النهاية يمكن أن يقدِّم النظر إلى المشكلة من وجهة نظر تأمُّلية غير فكرية منتظمة نظرة ثاقبة لطبيعة المشكلة.

إقرأ أيضاً: 6 خطوات سهلة للحصول على السعادة الأبدية

في الختام:

مشكلة السعادة محيِّرة وصعبة، ولكنَّها تستحق فهمها بعمق، فكل شيء آخر في حياتك، سواء كان كيفية تحسين حياتك المهنية، أم التعلُّم بأسلوب أفضل، أم بناء عادات جديدة، يعتمد ضمنياً على ذلك، ويمكن أن تتسبَّب النظرة الخاطئة إلى المشكلة في معاناة أكثر من أي شيء آخر تقريباً، وفي حين قد لا يكون الحل واضحاً على الفور، فكل ما تفعله لفهم المشكلة أفضل من جهلها تماماً.

المصدر




مقالات مرتبطة