متى يكون من الجيد وضع توقعات عالية لنفسك؟

كانت الشخصية الرئيسة في رواية "آمال عظيمة" (Great Expectations) للكاتب "تشارلز ديكنز" (Charles Dickens) فتى يُدعَى "بيب" (Pip)، وكانت أعظم توقعاته وآماله هي تجاوز كونه إنساناً فقيراً وغير متعلم ليصبح رجلاً نبيلاً يستحق الزواج من حبه الحقيقي؛ ولكن رغم توقعاته الكبيرة تلك، ينتهي به الأمر وحيداً لأسباب مختلفة.



يعني هذا ألَّا جدوى من وضع توقعات عالية على الدوام؛ لكن متى يجب أن تضع توقعات عالية لنفسك، ومتى يجب ألَّا تفعل ذلك؟

يجب أن تضع في اعتبارك في كل موقف يتطلب وضع بعض التوقعات أن تكون تلك التوقعات "معقولة"؛ حيث يمكن أن يساعدك ضبط توقعاتك على وضع أهداف واقعية لمستقبلك، وتحقيق التوازن بين إنجازاتك، وحماية نفسك من خيبة الأمل، وإيجاد القناعة والرضا في حياتك.

متى يجب أن تضع توقعات وآمالاً عظيمة؟

يعدُّ وضع التوقعات أمراً شخصياً للغاية، والقاعدة الأولى لذلك هي عدم المبالغة في توقعاتك التي تضعها في الآخرين؛ فعندما يُخيِّب هؤلاء ظنك، عادة ما يكون ذلك بسبب وضع توقعات غير معقولة أو واقعية لعلاقتك بهم.

لنفترض أنَّك تتطلع إلى إقامة احتفال ساحر في ليلة رأس السنة الجديدة مع مَن تحب، وتخطط للبوح بحبك ومشاعرك لهذا الشخص؛ لكن ألا يجب أن يكون الشخص الذي يعجبك يكنُّ لك الشعور ذاته؟ إذا لم يحدث ذلك، فستشعر بالصدمة لكونه لم يرقَ إلى مستوى توقعاتك.

يُعرَّف "التفكير السحري" بأنَّه اعتقاد مفاده أنَّ الأفكار أو الأفعال أو الكلمات أو استخدام الرموز يمكن أن تؤثر في مسار الأحداث في العالم الفيزيائي-المادي؛ حيث يتجلى التفكير السحري في ارتداء الرياضي الجوارب القذرة نفسها في كل مباراة منذ أن بدأ فريقه الفوز، أو بتوقع شخص ما الحصول على أموال إضافية عندما يشعر بحكة في راحة يده اليسرى.

كما نرى، يؤدي التفكير السحري إلى توقعات عظيمة للغاية، ولكن هل ينجح فعلاً؟ لقد أظهرت الدراسات أنَّ ذلك يمنح المؤمنين الحقيقيين مزيداً من الثقة بالنفس، والتي يمكن بدورها أن تحسن الأداء؛ ولكن إن صدَّقت أنَّ مجرد التفكير في نتيجة ما يؤدي إلى حدوثها، فستكون مخطئاً بكل تأكيد.

لذا ينبغي عليك الاعتماد على وضع توقعات عظيمة يؤدي تحققها إلى تحسُّن حقيقي في حياتك، وتشمل المجالات التي تتطلب وضع توقعات وآمال عظيمة ما يأتي:

1. الوظيفة:

عملك هو أحد مجالات حياتك التي تريد التميُّز فيها؛ فأنت تريد أن تكون أفضل من غيرك فيما تفعله، وأن تُكافَأ على ذلك؛ إذ يحول السعي الحثيث إلى الترقي دون الركود في مهنتك.

رغم أنَّ وضع توقعات عالية لنفسك في العمل يمكن أن يكون مرهقاً، إلَّا أنَّه قد يجعل عملك أكثر متعة؛ فالاعتزاز بعملك ومساعدة الآخرين على التطور وإسعاد عملائك سبل رائعة لتذكير نفسك بأهمية ما تفعله، وجعل كل يوم مُرضِياً وجديراً بالاهتمام.

2. الصحة:

لا شيء في الحياة أهم من صحتك، إذ سيبدو كل شيء آخر دونها كأنَّه صراع لا ينتهي. ينطبق هذا على صحتك العقلية والنفسية أيضاً.

يؤدي وضع معايير عالية لممارسة الرياضة والنظام الغذائي والتغذية إلى الحفاظ على لياقتك وصحتك البدنية، كما يصبح تخصيص وقت للتأمل أسهل بكثير إذا كانت لديك معايير عالية لعافيتك وسلامتك عموماً.

بالطبع، توجد بعض المشكلات الصحية التي لا يمكن للناس تجنبها، كالإصابة ببعض أنواع السرطان أو أمراض المناعة الذاتية؛ ولكنَّ تحديد أهداف عظيمة لمعالجتها أو إدارتها لا يزال هاماً لنوعية حياتك.

3. التعامل مع الآخرين:

ليس من السهل دائماً الحفاظ على توقعات عالية لكيفية معاملتك للآخرين؛ إذ يوجد الكثير من الأشخاص الذين تجعلك أفعالهم وكلماتهم لا ترغب في معاملتهم باحترام؛ لكن مهما كان منصبك، فأنت مدين للآخرين بالاحترام، وينبغي عليك أن تتذكر في المرة القادمة التي يتعين عليك فيها التعامل مع شخص صعب المراس أنَّ الاحترام يجب أن يكون متبادلاً فيما بينكما.

إنَّ من أفضل الطرائق لكسب احترام الآخرين معاملتهم باحترام، إذ ربَّما ستساعد شخصاً آخر على معرفة أهمية احترام الآخرين عندما تعامله بطريقة لائقة.

ماذا لو لم ترقَ تماماً إلى مستوى توقعاتك فيما يخص عملك أو صحتك أو معاملتك للآخرين؟ ربَّما سيكون ذلك أفضل من ألَّا تسعى إلى تحقيقها أبداً؛ وهذا وحده سببٌ كافٍ لعقد آمالٍ عالية؛ لكن لا بأس من خفض سقف توقعاتك في بعض الأحيان.

إقرأ أيضاً: تحديد الأهداف الشخصية... خطّط لكي تعيش كما تريد

متى يمكنك خفض توقعاتك؟

ذكر عالم الأعصاب "روب روتليدج" (Robb Rutledge) في دراسةٍ أُجرِيت في عام 2014 حول السعادة والتوقعات باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) قائلاً: "اكتشافنا الأساسي هو أنَّ السعادة لا تعتمد على مدى حُسن سير الأمور، بل على النتيجة النهائية إن كانت أسوأ أم أفضل من المتوقع".

غالباً ما يؤدي عدم تلبية التوقعات إلى التشاؤم وانعدام الحافز واللامبالاة، ولا يعدُّ توقُّع الأسوأ لمجرد الخوف من الفشل فكرة جيدة على الإطلاق، كما لا يعدُّ الشك الذاتي حافزاً كبيراً؛ إذ من الهام التغلب على خوفنا من الفشل لعيش حياة أفضل.

يمكن أن يكون الفشل في حالات أخرى شيئاً جيداً، فقد يساعدك على تعلُّم مهارات جديدة، وإعادة التفكير في افتراضاتك وتوقعاتك، وإيجاد طريقك إلى السعادة؛ وعندما تُخفِّض توقعاتك، تستطيع تقدير الفشل بحق.

إليك هذه الحالات الثلاثة التي يمكنك فيها وضع توقعات منخفضة لنفسك:

1. الهوايات:

يمارس معظم الناس هوايات مختلفة، وينبع هذا من رغبتهم في ذلك، وليس من كونهم مُلزَمين بها؛ إذ إنَّنا نمارس هواياتنا في معظم الأوقات للاستمتاع، وليس لنتميَّز فيها.

لا ترتبط الهوايات بالمنافسة بقدر ما ترتبط بالمتعة والنمو على المستوى الشخصي، ولكن لا يجب البدء بممارسة هواية جديدة دون وضع توقعات لها؛ فربَّما لا تأمل أن تصبح طاهياً ماهراً، ولكن عليك أن تتعلم كيف تستخدم أدوات الطهي؛ حيث تكون بهذا قد خفضت توقعاتك دون التخلي تماماً عن رغبتك في تعلُّم شيءٍ جديد؛ ورغم أنَّك قد لا تصبح طاهياً محترفاً، فما زلت أنت الرابح، حيث يعدُّ ما تعلمته عن استخدام أدوات الطهي مهارة جديدة لم تكن تعرفها مسبقاً.

إقرأ أيضاً: 5 طرق لتحويل هواياتك إلى عمل تكسب منه المال

2. الأعمال المنزلية:

يرغب جميعنا في الإبقاء على منزله نظيفاً ومرتباً على الدوام، ولكن ليس من الضروري أن يكون أنظف وأجمل منزل في المدينة بأكملها؛ فعلى سبيل المثال: قد تحتاج إلى تنظيف بقعة ملوثة على سجادة غرفتك عدة مرات، وقد لا تتخلص منها تماماً؛ لذلك فتوقُّع إزالتها نهائياً ليس بالأمر الواقعي.

ينبغي عليك وضع جدول زمني واقعي لتنظيف منزلك والعناية به، ويقترح خبراء الرعاية المنزلية التنظيف بالمكنسة الكهربائية يومياً، ولكن لا بأس في التنظيف مرة واحدة في الأسبوع إن لم يكن لديك الوقت الكافي لذلك، بحيث تحافظ على منزلك نظيفاً ومرتباً؛ ممَّا يجعلك تستمتع بالاسترخاء والراحة مع الانتهاء من أعمال المنزل الروتينية.

3. التوقعات من الآخرين:

قد تصاب بخيبة أمل عندما تتوقع الكثير من الآخرين؛ فلماذا لا تُخفِّض سقف توقعاتك كيلا تحصد الخيبة إن لم يرتقوا إليها؟ وبما أنَّك لا تستطيع إجبار الآخرين على تلبية توقعاتك، فلمَ تكبد نفسك عناء المحاولة أساساً؟

تمنحك التوقعات المعقولة علاقات أفضل وأكثر سعادة مع أصدقائك وعائلتك؛ أفلا تحب أن تكون سعيداً ومرتاحاً معهم بدلاً من رؤيتهم يحققون توقعاتك ومعاييرك المصطنعة التي وضعتها لهم؟

اعلم أنَّ التعاطف مفتاح العلاقات السعيدة بين جميع الأشخاص؛ لذا بدلاً من النظر إلى توقعاتك المنخفضة للآخرين على أنَّها مبعث للفشل وسوء المعاملة، فكر في الأمر على أنَّه فرصة لإثارة إعجابك بهم من جديد، وستنبهر أكثر ممَّا تعتقد.

شاهد بالفيديو: كيف تستخدم التعاطف بفاعلية في العمل؟

الآن، لنعد إلى قصة بيب (Pip):

رغم أنَّ بيب (Pip) لم يحصل على الفتاة التي أحبها، لكنَّ ما تعلمه من الدروس لتحقيق توقعاته العالية جعله يشعر بالرضا في نهاية الرواية؛ فقد تعلم قيمة التعاطف في علاقاته (أي وضع توقعات منخفضة)، وقيمة احترام الآخرين (أي وضع معايير أعلى).

بلغ بيب (Pip) تلك التوقعات العظيمة في التعليم والمال، وأصبح جزءاً في المجتمع الراقي؛ ولكن لا شيء ممَّا ذُكِر جعله يحقق هدفه الأكبر، والذي هو الزواج من المرأة التي أحبها؛ فقد أهمل تلك العلاقة التي كانت ستجلب له مزيداً من السعادة والحب في أثناء سعيه المحموم إلى تحقيق توقعاته العالية.

نتعلَّم من هذا ألَّا ضير في وجود توقعات عظيمة أو منخفضة في بعض الأحيان؛ ولكن ينبغي عليك أن تعرف الفارق بينهما لتعيش حياة أفضل.

 

المصدر




مقالات مرتبطة