متلازمة الشخص المتميز: هدفٌ سامٍ يخفي وراءه قيوداً وضغوطاً نفسية

نمضي أيَّامنا مُقيِّدين ذواتنا ضمن قوالب معيَّنة، ومُطلِقين عليها أسماء محدَّدة، مثل: "التميُّز"، و"البصمة"، و"التأثير الإيجابي في الآخرين"؛ إلى أن تتحوَّل هذه القوالب إلى هواجس في حياتنا، نُسعَد ونستمتع بتحقُّقها، ونكتئب ونحزن ويزول معنى الحياة تماماً بغيابها؛ فكم من أمورٍ قد أجَّلناها إلى وقتٍ لاحقٍ بحجَّة "عدم جاهزيَّتنا للقيام بها"، لأنَّها أمورٌ تتطلَّب تميُّزاً وتفرُّداً، ونحن لم نصل بعد إلى هذه المرتبة؟



ربَّما فعلناها كثيراً، حتَّى بات التأجيل والتسويف ملازمين لحياتنا، فأضعنا الكثير من الوقت ونحن مُتبنِّين لأفكار خطيرةٍ سيطرت على عقولنا، مثل: فكرة "الكمالية"، وفكرة "أنا شخصٌ عادي، ويلزمني الكثير من الوقت والجهد والسعي لأصل إلى مراتب الأشخاص المميَّزين"؛ فضِعنا في دنيا الأسماء الكبيرة اللامعة، والشّخصيات الفذَّة، والأضواء الإعلاميَّة، حتَّى ظنَّنا أنفسنا من فئة "الأشخاص العاديين" الذين يطمحون إلى أن يكونوا في مصافِ الفئة المميَّزة المشهورة.

لقد شغلنا بالنا وتركيزنا وطاقتنا في إجراء مقارناتٍ مع الآخرين لا تُفضِي إلَّا إلى مزيدٍ من التشاؤم وندب الحظ وجلد الذَّات، حتَّى أصبح أيُّ نجاحٍ للآخر يُؤثِّر فينا سلبياً، فيوتِّرنا ويزعجنا ويُذكِّرنا بعاديَّتنا، ولم يخطر لنا أن نسأل ذواتنا: كيف وصل الشخص المتميِّز إلى تميِّزه؟ ألم يكن "عادياً" مثلنا؟ هل نُولَد بطاقاتٍ مختلفةٍ وامتيازاتٍ وإمكانياتٍ متباينة؟ أم أنَّ الموضوع ليس كهذا؟ وهل التميز هدفٌ أم نتيجة؟ هل سنستمر في هذه الحياة ونحن في حالة جلدٍ عالٍ للذَّات، وعدم تقدير لإنجازاتنا؟ أم أنَّ الأمر يتطلَّب منَّا نظرةً مختلفةً إلى المواضيع، وفهماً أعمق للتفاصيل؟ ألم يحن الوقت لوقف حالة الاضطراب النفسي والضياع والتأنيب المستمرِّ للذات، والتقرُّب أكثر من ذواتنا والتصالح معها، والتماس تميُّزها واختلافها؟

سنناقش في هذا المقال مسألة الرَّغبة العارمة في التميُّز، والتي تُمارَس بطريقةٍ خاطئة، بحيث تجعل الأشخاص في حالة ميلٍ مرعبٍ إلى التوتر والضغط النفسي، وبالتالي انعدام الأمان والسكينة؛ وكيف لنا أنَّ نجعل من هذه الرغبة انطلاقةً مفيدةً في حياتنا، وقيمةً مضافةً إلينا وإلى الآخرين.

هل خدعتنا الصورة؟

نعيش اليوم في عصر الصورة، والاختراق الكبير للخصوصيات، وعبوديَّة النماذج الإعلامية؛ حتَّى أصبحت الصورة الذهنيَّة للتميِّز في عقولنا مأخوذةً من الإعلام، فانطبع في اللاوعي خاصَّتنا أنَّ الشهرة والمال والأضواء والعلاقات من المكونات الأساسية للتميُّز، وأصبح طموحنا وهاجسنا الوصول إلى تلك الحالة الفتَّانة الرَّائعة، فابتعدنا دون وعيٍ عن دائرتنا الصغيرة من الأهل والأصدقاء، وركبنا موجة المشاهير، وأصبحت أقصى اهتماماتنا تكمن في ملاحقة أخبارهم ومشاهدة آخر صيحاتهم.

نعم، لقد ابتعدنا عن ذواتنا وطبيعتنا، غير واعين لسؤالٍ هامٍّ جداً: "مَن الذي قيَّم أنَّ هؤلاء مميَّزون، وما هو معيار التميز؟ ولماذا لا نعود إلى الجذور في كلِّ شيء؟ لماذا سُحِرنا في الحالة ونسينا الأصل؟ ومَن الذي حدَّد أنَّ الشهرة أو المال تميُّز؟"

يجعل تبنِّي الصورة الوهمية التي يصدِّرها الإعلام الشخص مضطرباً، مشوَّشاً، ويعيش في واقعٍ غير واقعه، ويُمارِس سلوكاتٍ لا تشبهه؛ لذلك لا بدَّ من الوعي في أثناء الخوض في وسائل التواصل الاجتماعي، فهي محطةٌ لزراعة الكثير من الأفكار السلبية في لاوعينا، دون أن ننتبه إلى ذلك.

اسأل نفسك دوماً: "ما القيمة المضافة من وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل سيُضاف شيءٌ عظيمٌ إلى حياتك إن علمت أنَّ صديقتك في علاقةٍ غراميَّة؟ وهل سيزيد مخزونك الفكري ووعيك إن علمت أنَّ صديقك أصبح أباً وأنَّ امرأته حُبلَى للمرة الثانية؟ بإمكانك انتقاء أشخاصٍ محدَّدين وواعيين ويَضيفون إلى مخزونك الفكري من أجل متابعة منشوراتهم، على ألَّا يستغرق منك الأمر كثيراً، فهناك الكثير من المهام التي يمكنك القيام بها، والتي تعدُّ أهمَّ بكثيرٍ من متابعة وسائل التواصل الاجتماعي.

إقرأ أيضاً: 8 آثار سلبية تسببها مواقع التواصل الاجتماعي

كيف ننجو من المُقارنات مع الآخرين؟

هل تقضي وقتك وأنتَ في حالةٍ من إجراء المقارنات بينك وبين الآخرين، لتكون النتيجة إيجابيةً لصالح الآخرين، وتأنيبٌ وازدراءٌ لوضعك وحالتك؟

هل جرَّبت أن تسأل نفسك: ما هو التميز برأيك؟ وماذا لو تحوَّل إلى هاجسٍ لديك، بحيث تستمرُّ في تكرار مقولة "أريد أن أكون الأفضل، الأكثر تأثيراً في الناس، والأجمل"؛ ممَّا يجعلك في حالةٍ من التوتر النفسي والضغط المتواصل، وفي حالةٍ مستمرةٍ من إجراء المقارنات مع الآخرين.

التميز ليس هدفاً أو هاجساً في الحياة، بل هو نتيجةٌ نصل إليها تراكمياً، وهو نتيجةٌ تلقائيَّةٌ لتصرُّفاتٍ يوميَّةٍ متكرِّرة، ولعاداتٍ يوميَّةٍ ناجحة، فكلُّ شخصٍ ناجحٍ هو شخصٌ كرَّر عاداتٍ ناجحة. لذلك عليكَ أن تَعِي أنَّ المقارنات مع الآخرين لن تُعطيك أيَّ نتيجةٍ إيجابية، فعليك البدء بنفسك وتطويرها، ومن ثمَّ ستجد التميُّز في الطريق.

وهنا نسأل أنفسنا: "مَن الذي يُحدِّد الشخص العادي والآخر المتميِّز؟ ومَن جزم أنَّ ربَّة المنزل ومربيَّة الأطفال إنسانةٌ عادية؟ في حين تعدُّ المُغنِّية التي لديها ملايين المتابعين شخصاً مميَّزاً؟"

يستطيع كلُّ شخصٍ التميُّز من مكانه، فربَّة المنزل التي تسعى من أجل تعليم أطفالها بطريقةٍ رائعة، وتجتهد في إطعامهم طعاماً صحياً، وتعمل جاهدةً على غرس أفضل القيم في شخصيتهم، هل تعدُّ شخصاً عادياً؟

تقديرك لذاتك هو الأساس؛ لذلك قدِّر ذاتك مهما صَغُرت التفاصيل التي تقوم بها، على سبيل المثال: الأنثى التي تُقدِّر ذاتها على خلقها طفلاً رائعاً ومهذَّباً وناجحاً في مدرسته، ولا تبخس من قيمة عملها، وتشعر أنَّه "أمرٌ عاديٌ ولا يستحق الذكر"؛ سيكون لديها تقديرٌ عالٍ لذاتها، وستسعى يومياً إلى إضافة شيءٍ إيجابيٍّ إلى عاداتها، وستصل تدريجياً إلى التميُّز. أمَّا الأنثى التي تجد أنَّ التربية والتعليم مهمَّاتٌ روتينية، وغير إبداعيةٍ أو مميَّزة، وتُقلِّل من قيمة إنجازاها؛ فستميل إلى الإحباط، وجلد الذات، والإحساس بالعجز؛ فهي غير مُدرِكةٍ أن الإبداع يكمن في كلِّ شيء، فهي تستطيع أن تُبدِع في طريقة تربية أولادها، بحيث تتَّبع طرائق حديثةً وأساليب مبتكرةً تنمِّي من شخصيتهم ومهاراتهم، وهي غير واعيةٍ أنَّ التميُّز عبارةٌ عن تراكم الأشياء العادية، حيث تنهض الأمم من خلال تراكم السلوكات العادية التي تقوم بها الأمهات من تعليمٍ وتربية".

ما هو الأمر الذي يريد "ضغطك النفسي" إخبارك إيَّاه؟

نعيش الحياة غير واعين أنَّنا قد أسمينا الأمور الحقيقية بغير مسميَّاتها، فجُرنا على القيم الإيجابية التي تميِّزنا، واستبدلناها بمصطلحاتٍ أخرى تقلِّل من روعتها كثيراً، وتُصِيبنا بحالةٍ من التوتر النفسي القاسي. وهذا أمرٌ طبيعي، فالحياة ليست بالسهولة التي نتوقَّعها، ويتطلَّب خوضها الكثير من التماسك، والسعي، والوعي العميق لخفايا الأمور، والتقبُّل المستمر للتحديات، والصبر الكبير على البدايات.

لعلَّ التوق إلى "التميُّز"، وما يترتَّب عليه من حالة التوتر والضغط النفسي المستمر؛ مصطلحٌ من المصطلحات المستخدمة للتعبيرعن قيمةٍ إيجابيةٍ أخرى أكثر عمقاً وأقلَّ ضغطاً نفسياً، مثل: قيمة "التأثير في الآخرين"، كأن يعشق شخصٌ ما أن يكون مؤثِراً إيجابياً في الآخرين، وأن يحقِّق قيمةٌ مضافةٌ إليهم، لكنَّه عوضاً عن الاستمتاع بهذه الحالة من التأثير العميق في الآخرين، والسَّعي الصادق من أجل تطوير شيءٍ ما في شخصيته، لكي يصل تراكمياً إلى حالةٍ من التميز الرائع؛ يتبنَّى قيمة التميُّز مباشرةً، ويحوِّلها إلى هاجسٍ لديه، ويطمح أن يكون "أفضل مدرذِب تنميةٍ بشرية في العالم"؛ ممَّا يجعله يتوتّر ويُقارِن نفسه مع غيره، الأمر الذي يجعله يعتزل السعي، فتجده مكتئباً مستسلماً.

اسأل نفسك: هل تُخفِي قيمة "العطاء" وراء مصطلح "المسؤوليات الضاغطة؟" على سبيل المثال: كم من مهام تفعلها الأم، وتكون فيها في حالةٍ من الضغط والتَّوتر، مع التقليل من قيمة إنجازاتها واعتبارها غير هامَّة؛ فلا تحصل على ما تريد من نتائج؛ لأنَّها صدَّرت الأفعال بطاقة رفضٍ وتذمُّر؟

 لو أنَّها استنبطت القيمة العليا الكامنة وراء أفعالها وهي "العطاء"، عوضاً عن تبنِّيها لمصطلح "المسؤوليات" وما يحمله من قيود؛ كانت ستفعل كلَّ التفاصيل بحبٍّ وصدقٍ وعمقٍ أكبر، مُستشعرةً طاقةً إيجابيةً رائعة، وستُدرِك أنَّها شخصٌ مميَّز؛ لأنَّها تقدِّم نفعاً إلى العائلة، وبنيَّةٍ طيبةٍ وطاقة خير، وستصل تدريجياً إلى حالةٍ أعمق وأكثر جمالاً وتميُّزاً.

إذاً اسأل نفسك دوماً: "ما هي الجواهر التي يُخفِيها ضغطي النفسي؟" وعندها ستُدرِك المصطلحات الكارثية التي تتبنَّاها، والتي تشوِّه قيمك الإيجابيَّة الرائعة، وتضعك في حالةٍ من القلق المستمرِّ وعدم الراحة.

شاهد بالفيديو: 6 نصائح علميّة للتخلص من الضغط النفسي

هل أنتَ أسير "الكمالية"؟

يطمح الكثير من الأشخاص إلى الوصول إلى حالة "الكمالية"؛ ممَّا يجعلهم أسرى التأجيل والتسويف ريثما تكتمل الصورة لديهم، فهم في حالة انتظارٍ قاتلةٍ دوماً؛ سواءً انتظار تحسُّن الظروف، أم تغيُّر الأشخاص من حولهم، أم اكتمال شخصيَّتهم وإحاطتها بالأمر المُقدِمين عليه من كافة جوانبه، وبطريقةٍ أكثر من احترافية.

اعلم أنَّ الحياة تتبنَّى قانون "التراكم"، فكلُّ أمرٍ ناجحٍ عبارةٌ عن أشياء صغيرةٍ تراكمت مع بعضها لكي تُحقِّقه، والسعي هو الهدف الحقيقي لوجودنا؛ لذلك انوِ بصدقٍ أن تطوِّر أمراً ما في شخصيَّتك، وسلوكاً ما مهما كان صغيراً، وسيؤدِّي استمرارك على هذه النية إلى تحقيق نتائج مُبهرِةٍ دون أن تشعر، وإلى وضعك على طريق التميُّز.

الأصل في هذه الحياة: التجارب، والخطأ والتعلُّم؛ فكم ستكون الحياة مُملَّة من دون تجارب؟

الفشل هو رسالةٌ لنا بأنَّ هناك أمراً ما علينا تغييره في أنفسنا، فلا يوجد شيءٌ اسمه "انتظار اللحظة المناسبة الكاملة" في قاموس الحياة؛ لأنَّ اللحظة المناسبة هي "الآن". لذلك انطلق الآن، ولا تنتظر شيئاً، وعِش اللحظة مهما كانت بسيطة، واستمتع بها وبكلِّ أبعادها، فالحياة هي تراكم اللحظات لا أكثر.

اسعى ضمن "المُتاح" لديك، واطرق جميع الأبواب المفتوحة حالياً لك، وسيأتيك ما هو "غير متاحٍ" لاحقاً.

إقرأ أيضاً: كيف تتخلّص من السعي إلى المثالية!

الخلاصة:

يبدأ التميُّز من كلامك؛ لذلك راقب كلامك عن ذاتك، واحرص على أن تحمل في طيَّاتها تقديراً عالياً، وتأكَّد من أنَّ التميُّز يكمن في تراكم فعلك للأشياء مهما صَغُرت، ولا تقع في وهم المثاليَّة؛ إذ تأتي السعادة الحقيقية في أثناء رحلة سعيك، وليس على القمَّة.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة