ما هي فلسفة السعادة البسيطة عند أبيقور؟

لقد ارتبطت فلسفة أبيقور حول السعادة واللذة بمعانٍ خاطئة ومغلوطة، لم يذكرها أبيقور في مؤلفاته، ولكن ولأهدافٍ دعائية وإعلانية ربحية، رُبِطَت الفلسفة الأبيقورية باللذات المادية أو الحسية من حياة المجون والترف والخمر وكماليات الحياة، وعدَّها الوسيلة الحصرية للوصول إلى السعادة واللذة، وهذه الدعاية المغلوطة وصلت إلى درجة أن يقوم أحد أهم وأشهر المعاجم في العالم؛ ألا وهو معجم أوكسفورد، بتعريف كلمة أبيقوري؛ على أنَّه الإنسان المترف أو الباذخ أو الشهواني أو الشره أو الإنسان الشغوف بالسعي إلى المتعة.



1. المفهوم الحقيقي للسعادة عند أبيقور:

إنَّ نظرة أبيقور للفلسفة واللذة، كانت مختلفة تماماً عن تلك الدعايات التجارية؛ حيث إنَّ أبيقور يرى أنَّ مهمة الفلسفة تكمن في مساعدة الإنسان على تفسير أو تأويل نوبات التعاسة والحزن التي تهجم عليه والقلق الغامض الذي يعتريه، ومساعدته على التخلص منه.

أما بخصوص اللذة أو السعادة، فقد كان أبيقور يرى أنَّه قبل أن نبحث عما يجعلنا سعداء، يجب علينا أن نفكر جيداً في عقلانية رغباتنا، هل هي رغبات عقلانية أم غير عقلانية؟ فإذا كانت غير عقلانية، هنا علينا أن نُقومها وفق ميزان العقل من أجل الوصول إلى السعادة؛ وهكذا يبرهن أبيقور أنَّ السعادة تكون بتحكيم العقل.

2. كيف عاش أبيقور شعور اللذة؟

سيستغرب كل مَن تأثَّر في دعايات الترف والخمر والمجون التي كانت تُحاك على أبيقور، بأنَّه لم يكن يملك منزلاً كبيراً، وكان شرابه المفضل هو الماء وليس الخمر، وكان غذاؤه الرئيس بسيطاً جداً؛ حيث كان بضع حبات من الزيتون ورغيف خبز وبعض الخضار، فقد كان يؤمن دوماً بأنَّ السعادة الحقيقية لا تحتاج إلى ترف ولا تحتاج إلى أموال.

3. الصداقة هي أساس السعادة الأبيقورية:

كان أبيقور يَعُدُّ امتلاك الأصدقاء الودودين أحد أهم أسس السعادة وأعظمها على الإطلاق، فقد جهَّز منزلاً كبيراً ليسكن فيه مع أصدقائه الذين يحبهم؛ حيث يحوي المنزل العديد من الغرف المشتركة لتبادل الأحاديث وتناول الشراب والطعام.

لقد كان أبيقور يوصي دوماً بألَّا يأكلوا أو يشربوا وحدهم أبداً، وقبل أن تفكر ماذا ستأكل اليوم، يجب عليك أن تفكر مع مَن ستأكل اليوم، وكان يَعُدُّ من يأكل وحده يعيش وحيداً مثلما يعيش الذئب أو الأسد.

وبحسب أبيقور؛ إنَّ وجود الصحبة الجميلة في حياتنا هو تأكيد لوجودنا وتوثيق لهوياتنا، ويؤكد بأنَّه إن لم يرَ أحد أنَّنا موجودون فنحن غير موجودين، وكلامنا كلُّه لا معنى له أبداً ما لم يكن أحد يصغي إليه؛ حيث إنَّ عدداً قليلاً من الأصدقاء المحبين يشاركوننا الحب والاهتمامات، والاحترام يمنحنا من السعادة والراحة ما تعجز ثروات طائلة عن تقديمه لنا.

4. الحرية هي ملعب السعادة الأبيقورية:

قام فيلسوفنا العظيم أبيقور وأصدقاؤه بشراء بستان صغير، يزرعون فيه مختلف أنواع الفواكه والخضار، فلم يكن طعامهم مترفاً ولا باهظ الثمن ولا انتقائياً؛ بل كان صحياً ومتنوعاً ومغذياً، وقد عمدوا إلى شراء البستان كي لا يعملون عند أشخاص لا يحبونهم، ولكيلا يضطرون إلى أن يكونوا تحت رحمة أحد، ويكون وقتهم ملك أيديهم، ومن ثم حريتهم مصانة؛ إذ إنَّ السعادة بلا حرية هي سعادة مشلولة لا تستطيع أن تُعبِّر عن ذاتها.

شاهد بالفديو: 6 نصائح لتعيش حياة مفعمة بالسعادة

5. التفكير والمال عند أبيقور:

يوضِّح أبيقور أنَّ سبب الحزن والقلق هو التفكير، ومعالجة هذا السبب هي أساس التخلص من المشاعر السيئة التي تُنغِّص السعادة؛ حيث كان هو وأصدقاؤه يحللون مشكلاتهم ويحاولون إدراك طبيعتها، من أجل التخلص من صفاتها التفاقمية كالاضطراب والانعزال والمفاجأة؛ وذلك من خلال التحدث عنها أو تدوينها.

ويرى أبيقور أنَّ الثروة ليست كل شيء، بالطبع، فإنَّ الثروة لن تسبب التعاسة لأحد، ولكنَّ وجودها وحدها دون أصدقاء أو حرية أو تفكير صحيح أو حياة منظمة، لن يحقق السعادة، بينما لو امتلكنا الأمور السابقة، فيمكننا الوصول إلى السعادة دون الثروة؛ إذ ليس المال شرطاً أساسياً للسعادة.

6. فلسفة الموت في عيون أبيقور:

إنَّ أهم المخاوف التي تشغل بال الإنسان على مر العصور، والتي تهدف الفلسفة الأبيقورية إلى القضاء عليها؛ هو الخوف من الموت، ويعتقد أبيقور أنَّ أحد أهم أسباب هذا الخوف؛ هو القلق من وجود حياة أخرى مجهولة الطابع بعد الموت، وربما تكون سيئة، ويرى أبيقور أنَّه يمكن التخلص من هذا الخوف عندما يدرك الإنسان أنَّ الموت هو الفناء؛ وذلك لأنَّ العقل يتكون من جزيئات أو ذرات تتفكك وتنتثر عند الموت.

نظرية أبيقور حول الخوف من الموت تتمحور حول أنَّ الموت لا يمكن أن يصيب الأحياء؛ وذلك لأنَّهم سيكونون أمواتاً، والميت بطبيعة الحال لا يتأثر ولا يتألم من الموت، فشرط حدوث الألم هو الحياة، وبغيابها لن نشعر بالألم؛ وذلك لأنَّ الموت فناء، ومن غير المنطقي أن نسمح لهذا الخوف أن يعكر صفو حياتنا.

ويتابع أبيقور حملته الشرسة ضد الموت وضد الخوف منه، ويقول في نظريته الخاصة التي سمَّاها "نظرية التناظر": "إنَّ كل مَن يخاف من الموت يجب أن يفكر قليلاً في كل ذلك الوقت الذي مر قبل لحظة ولادته، فهو يشبه تماماً الوقت الذي سيأتي بعد موته، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ الإنسان يخاف من اللانهاية بعد الموت، ولا يخاف من اللانهاية قبل ولادته، مع أنَّهما وجهان لعملة واحدة، ونظيران للشكل والمضمون؛ لذلك يجب ألَّا نَعُدَّ عدم وجودنا للأبد بعد الكون شراً لا بد منه.

ما يجب التأكيد عليه للقارئ العزيز، هو أنَّ الفلسفة الأبيقورية لا تهدف إلى تحقيق المتعة بحد ذاتها كما يعتقد كثيرون؛ وإنَّما ترى أنَّ السعادة طريق أكثر من أن تكون غاية فقط، وهي منتشرة على جنبات الطريق وليس فقط في نهايته.

إقرأ أيضاً: كيف تُسَخِّر حتميَّة الموت لصالحك؟

7. الأخلاق هي جوهر فلسفة أبيقور:

إنَّ نهج أبيقور الأخلاقي هو شكل من أشكال اللذة الأنانية؛ حيث يقول إنَّ قيمة أي شيء تكمن في قدرته على تقديم اللذة الشخصية، كونها قيمة جوهرية في حياة الإنسان، وأي شيء في الحياة هو وسيلة لذلك، وعلى المقلب الآخر، فإنَّ مذهب أبيقور يتميز بالأخلاقية؛ حيث كان يؤكد أبيقور في جلساته مع تلاميذه ومع الناس عامةً، أنَّ أهم وسيلة لتحقيق المتعة هي الحياة الفاضلة والسلوك القويم، وهذه نظرة متطورة لمفهوم المتعة؛ إذ إنَّ هذا الكلام يتناقض تناقضاً كبيراً مع نهج المدرسة الفلسفية الكلامية فيما يتعلق بتحقيق المتعة.

وتوصي هذه المدرسة بالأكل والشرب والنوم والمرح، كوصفة سريعة لتحقيق السعادة أو المتعة، وهذه الطريقة موغلة في البدائية، مع أنَّها تُوصِل الإنسان إلى المتعة بسرعة، ولكنَّ هذه المتعة لا تدوم، فسرعان ما تختفي، وإنَّ معاودة هذه الأفعال للحصول عليها، لن توصلنا فيما بعد إلى السعادة نفسها.

8. تصنيف المتع عند أبيقور:

تصنف مدرسة أبيقور الأخلاقية مفهوم المتعة حسب الفترة الزمنية؛ وهو تصنيف فريد من نوعه لم يسبقه إليه أحد؛ حيث إنَّ المتع الحسية والآلام الجسدية مرتبطة بالحاضر فقط، وبمؤثر موجود بشكل حسي على أرضية الظرف الراهن.

أمَّا المتع الذهنية أو الآلام العقلية والنفسية فيكون مصدرها الماضي؛ كاستحضار المواقف المحزنة أو المحرجة، أو أخطاء الماضي والندم عليها، ويمكن أن يتذكر اللحظات الجميلة والمفرحة فتنتابه السعادة.

ومن الممكن أن يكون مصدر الآلام والمتع العقلية هو المستقبل؛ حيث يشعر الإنسان بالخوف من المستقبل المجهول، أو بالثقة بإمكاناته وقدراته على تطويع الظروف لصالحه في المستقبل.

يُصنف أبيقور المتع بطريقة أخرى معبرة وجميلة إلى قسمين: ثابتة ومتحركة، فاللذَّات المتحركة هي التي تكون في طور الإشباع؛ كأن يشرب الشخص الماء عندما يشعر بالعطش، ولكنَّه بعد الانتهاء من شرب الماء سيشعر بالارتواء؛ وهذا ما يسميه باللذة الثابتة، ويرى أبيقور أنَّ هذه اللذة الثابتة هي أفضل أنواع الملذات على الإطلاق؛ وبهذا يكون قد نفى وجود أيَّة حالة وسط بين المتعة والألم؛ حيث يتجلى الألم عند الإنسان بوجود رغبات غير محققة، أمَّا المتعة فتتجلى بالوصول إلى الرغبات وتحقيقها.

إنَّ مفهوم اللذة عند أبيقور لا يقر بوجود أيَّة حالة أخرى بين حالة اللذة وحالة الألم؛ إذ إنَّ الألم يتجسد عندما يكون للمرء رغبات غير محققة، وفي المقابل؛ عندما تتحقق رغبات الشخص جميعها، فإنَّه يصل إلى الحالة الثابتة الأكثر متعة.

9. تقليص الرغبات، وصفةُ أبيقور لتحقيق السعادة:

بما أنَّ الوصول إلى السعادة عند أغلب البشر يرتبط بشكل واضح بتحقيق الرغبات، فقد كرَّس أبيقور جزءاً كبيراً من وقته لدراسة الرغبات؛ حيث عَدَّ السعادة ناجمة عن الوصول إلى ما نريد، والألم ينتج عن عدم الحصول على ما نرغب فيه، ففي الحالة الأولى أُشبِعَت الرغبة ومن ثم تحقَّقت السعادة أو المتعة، وفي الثانية جرى إحباط الرغبة فنتج الألم، وهنا يرى أبيقور أنَّنا إن لم نستطع أن نغير النتيجة، فلِمَ لا نغير السبب؟

أي تغيير الرغبات وجعلها واقعية أكثر أو منطقية أو سهلة التحقيق؛ وذلك بالتخلي عن الأهداف التي تبدو بعيدة والاستمتاع بما هو متاح من ملذات بسيطة، فقد كان أبيقور شديد الاستمتاع بعشائه المؤلف من الخبز والجبن فقط؛ وبمعنى آخر، ينصح أبيقور بتقليص الرغبات إلى الحد الأدنى؛ حيث يمكن إشباعها بسهولة.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح مهمة لتحقيق السعادة المُطلقة في الحياة

كلمة أخيرة:

يعلِّمنا أبيقور دروساً هامة علينا أن نتذكرها جيداً في نهاية هذا المقال؛ حيث إنَّ السعادة ممكنة بغير المال، وتقليص الرغبات أو بالأحرى خفض سقف التوقعات، يحمينا من خيبات الأمل ويحقق لنا الوصول إلى السعادة كوننا اخترنا رغبات بسيطة يمكن الوصول إليها بسهولة، والسعادة أو اللذة ليست هدفاً ولا وصفة سحرية ولا ثروة؛ بل هي طريقة حياة، وهي فن علينا إتقانه.

المصدر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة