ما هو محو التعلم (Unlearning)؟ (الجزء الأول)

"ما يوقعك في المشكلات ليس ما تعرفه؛ بل ما أنت متيقن منه" - الكاتب "مارك توين" (Mark Twain).



يفكر معظم الناس في التعلُّم على أنَّه إضافة المعرفة، والمهارات إلى مخزون ما تعرفه بالفعل، فعندما تتعلَّم اللغة الفرنسية، تتعلَّم أنَّ كلمة (Avoir) تعني "امتلك"، وهكذا يصبح لديك حقيقة جديدة في ذهنك لم تكن موجودة من قبل، ولكنَّ إضافة المعرفة هي في الواقع الحالة الأقل أهمية من التعلُّم، أمَّا التعلُّم الأكثر فائدة ليس عادةً إضافة معلومات جديدة، لكن أولاً التخلص من معلومات مغلوطة أو غير مفيدة.

لمعرفة سبب أهمية محو التعلُّم أكثر من التعلُّم الإضافي، ضع في حسبانك أنَّه في أيِّ مجال من مجالات حياتك توجد فيه بانتظام يجب أن تكتسب حقائق، ومعلومات عن هذا المجال، فيجب عليك فهم عملك، والمكان الذي تعيش فيه، واللغة التي تتحدث بها، والثقافة التي تعيش فيها، وما إلى ذلك.

هذا يعني أنَّه بالنسبة إلى أجزاء حياتك التي تهمك الآن أو في الماضي، وستمتلك بالفعل قدراً كبيراً من المعلومات، وحين تحصل على معرفة جديدة، فهي لا تحلُّ محل أو تغير أيَّ شيء تعرفه بالفعل؛ لهذا يجب أن تكون هذه المعرفة؛ إمَّا عن تفاصيل في حياتك الحالية كانت غير هامة في السابق، أو يجب أن تكون عن مجال ما تزال خبرتك فيه قليلة نسبياً.

معظم ما نتعلمه في المدرسة ينتمي إلى نوع التعلُّم الإضافي هذا، وهذا كافٍ لإخبارك بأنَّ قسماً كبيراً منه ليس هاماً جداً في حياتنا اليومية، بينما عندما تحتاج بدايةً إلى محو تعلُّم أو تعديل ما تعرفه حالياً، يجب أن يجري ذلك على شيء تعلمته بالفعل، وهذا لا يضمن أنَّه هام، لكن نظراً؛ لأنَّنا نكتسب معظم معلوماتنا لنتمكن من العيش في العالم، فلدينا احتمال أكبر بأنَّ ثمة شيء نحتاج محو تعلُّمه أولاً، وهو أكثر أهمية.

أنواع محو التعلُّم:

توجد طرائق مختلفة يمكنك بواسطتها محو تعلُّم شيء ما في ضوء معلومات جديدة، الأول هو دحض صريح للفكرة القديمة، على سبيل المثال: إذا كنت تظنُّ أنَّ "أبراهام لنكولن" (Abraham Lincoln) هو أول رئيس أمريكي، ثمَّ قرأت في كتاب أنَّ أول رئيس كان في الواقع "جورج واشنطن" (George Washington)، يمكن أن تتغير وجهة نظرك بالكامل.

هذا الدحض الكامل غير متوقع، ومن المرجح أنَّ المعلومات الجديدة لن تتعارض مع المعلومات القديمة، ولكنَّها قد تُعدِّلها بطريقة ما، على سبيل المثال: إذا كنت تعتقد أنَّ أعز أصدقائك جدير بالثقة، ثم اكتشفت أنَّه يخون زوجته، فقد لا يتغير رأيك عنه بالكامل، لكن قد تقل ثقتك به أو قد لا تثق به فيما يتعلق بالأمور الزوجية.

في أحيان أخرى، تُعدِّل المعلومات الجديدة صورة سهلة، وتضيف إليها تفاصيل أكثر تعقيداً، هذا مشابه لإضافة معلومات جديدة، ولكنَّك تستبدل الصورة الأقدم، والأسهل للمسألة بصورة تحوي مزيداً من التفاصيل، ولهذا يكون لديك درجة من محو التعلُّم.

على سبيل المثال: عندما اكتشف العالم "ألبرت أينشتاين" (Albert Einstein) النسبية الخاصة، أطاح بقوانين العالم "إسحاق نيوتن" (Isaac Newton) للحركة، لكن لم يكن هذا دحضاً كاملاً؛ بل تعديلاً عليها، فما تزال قوانين نيوتن سارية تقريباً في المجالات التي لا تستلزم الدقة في سرعة الضوء أو الجاذبية.

لكن في كلِّ هذه الحالات، عليك أولاً التخلي عن شيء كنت تظنُّ أنَّك تفهمه لإفساح المجال لفهم جديد، وليس من السهل دائماً القيام بهذا.

شاهد بالفيديو: 8 سمات يتحلى بها المتعلمون الناجحون

صعوبات محو التعلم:

  1. التحدي الأول في محو التعلُّم هو أنَّه عندما يتعارض شيء ما مع معلوماتك الحالية، فمن المحتمل أن ترفضه، وقد يكون السبب في ذلك استراتيجية تكيفية طورناها في عالم العديد من الأشياء التي يقولها الناس أو المعلومات التي تصادفها مغلوطة أو أكاذيب للتلاعب بك.
  2. من المرجح أن تكون الأشياء التي لا تصدقها حالياً، مع افتراض أنَّ باقي المتغيرات ثابتة، مغلوطة، ولكنَّ هذا "التحيز التأكيدي" (Confirmation bias) سيزيد من صعوبة محو تعلُّم الأمور الهامة بالنسبة إليك.
  3. المشكلة العميقة هي أنَّ البشر لا يميلون إلى التعبير عن الشك تعبيراً دقيقاً؛ أي أنَّك تصدق الأشياء التي تؤمن بها الآن، وإن كان تصديقاً مؤقتاً، لكن سواء كانت هذه المعتقدات شبه مؤكدة أو مشكوك فيها إلى حدٍّ كبير؛ فإنَّها تبدو متشابهة إلى حد كبير في الدماغ.
  4. صحيح أنَّك من المرجح أن ترفض اعتقاداً مشكوكاً فيه بسهولة أكبر من اعتقاد مؤكَّد، على سبيل المثال، إذا قالوا لك أنَّ القمر مصنوع من الجبن ستقاوم هذه المعلومة أكثر بكثير مما لو حاول أحدهم أن يجادلك في شيء تؤمن به إلى حد ما، لكن يحدث هذا الأمر عندما يُقيِّم المرء أسباب الاعتقاد المعني، ويفكر فيه مباشرة، أمَّا عندما لا تفكر في معتقد ما، وما يزال بإمكانه التأثير في تفكيرك بطرائق أخرى، ففي هذه الحالات لا تقيِّم الاعتقاد على وفق يقينك بصحته.
  5. إذا كان هذا صحيحاً؛ فهذا يعني أنَّ معظم الأشياء التي تعلمناها ليست خطيرة؛ لأنَّها محصنة من الحجج المضادة، لكن لأنَّها يمكن أن تؤثِّر في تفكيرنا في أمور مشابهة عندما لا نكون يقظين لمدى احتمالية كونها صحيحة.
  6. إذا كان هذا يبدو محيراً، ففكر في المثال الذي ذكرناه سابقاً: اكتشفت أنَّ أعزَّ أصدقائك يخون زوجته، لكن لنفترض أنَّك سمعت بذلك بوصفه شائعة من طرف ثالث، حينها لن ترفض التهمة على الفور، ولكنَّك تقبل مبدئياً وجود احتمال بأنَّ صديقك غير مخلص، وإذا أُجبرت على مواجهة هذا الاعتقاد مواجهة مباشرة بالنقاش أو التفكير، فقد تصل إلى استنتاج مفاده أنَّ لديك احتمال ضئيل فقط في أنَّه يخون زوجته.
  7. لكن ضع في حسبانك بدلاً من ذلك إذا سألك شخص ما في سياق آخر عمَّا إذا كان صديقك قد يكذب يوماً ما للحصول على ما يريده في العمل، وحينها سيؤثِّر الاعتقاد المؤقت بأنَّه يخون زوجته ضمنياً في رأيك بشأن مصداقيته، وعلى الرَّغم من أنَّ هذا الاعتقاد نفسه قد لا يكون موثوقاً به للغاية.
  8. الفكرة هنا هي أنَّ المعتقدات بفضل قدرتها على مساعدتنا على اتخاذ القرارات في حياتنا اليومية، تميل إلى أن تكون إمَّا مقبولة أو مرفوضة تماماً بدلاً من أن ننظر إليها بطريقة أكثر دقة؛ إذ يكون احتمال صحة معظم المعتقدات قابلاً للتشكيك، وفي حين يمكن أن تكون آرائنا أكثر دقة عند مناقشة الاعتقاد نقاشاً مباشراً؛ فإنَّ الحالة الخطيرة هي عندما نستخدمها للاستدلال في موضوعات أخرى، ومع ذلك نتجاهل احتمال عدم صحتها بسهولة للوصول إلى الاستنتاج.
  9. ومن ثَمَّ، فإنَّ التحدي الرئيسي المتمثل في محو التعلُّم هو أنَّنا لا نتحقق أبداً من معظم افتراضاتنا المغلوطة أو المشكوك فيها المتعلقة بالمجالات التي تؤثِّر في حياتنا، وأنَّنا نستخدم هذه الافتراضات في حياتنا، لكن نظراً لأنَّنا لا نفكر فيها أو ندرسها أو نحاول مواجهتها، فإنَّها تستمر بالتأثير بقوتها الكاملة فينا، وإن كانت حججاً سهلة، ويمكن دحضدها بسهولة.
إقرأ أيضاً: تطوير التعلم الذاتي والتعلم بسرعة بـ 13 طريقة

التعلُّم مثل جمع الطوابع، التعلم للغوص في الغرابة:

هناك وجهتا نظر رئيسيتان للتعلُّم؛ الأولى تنظر إليه على أنَّه شبيه بجمع الطوابع؛ إذ يريد الشخص جمع مزيد ومزيد من المعلومات، وغالباً للتباهي بها أمام أشخاص يريد إبهارهم، وهنا تكون المعرفة خاملة إلى حدٍّ كبير، وغير هامة لحياته؛ أي إنَّها مجرد هواية لجمع مزيد من الحقائق والأفكار.

ولا مشكلة في جمع الطوابع، فمعرفة الحقائق والأفكار، وإن لم تكن مفيدة أو تؤثِّر في حياتنا ليست أمراً سيئاً، ومن المحتمل أن تكون هواية أفضل من عدة نشاطات أخرى؛ إذ يمكن أن يكون للمعرفة آثار إيجابية في نواحٍ أخرى.

وجهة النظر الأخرى للتعلُّم تدور حول محو التعلُّم، وهذا هو الرأي القائل إنَّ ما نظنُّ أنَّنا نعرفه عن العالم هو قناع من المنطق نضعه للتستر على غرابة عميقة كثيراً، ولا نعرف غالباً الأشياء التي نعتقد أنَّنا نعرفها، وقد تكون الأفكار والفلسفات والحقائق التي توجه حياتنا مقاربات مناسبة، لكن غالباً ما تكون الصورة الأدق أغرب، وأكثر إثارة للاهتمام.

جمع الطوابع شائع أكثر من الغوص في الغرابة، أولاً لأنَّه يعتمد على إضافة المعارف بالكامل؛ إذ تضيف كلُّ معلومة جديدة وموضوع تسليةُ إلى مجموعتك، والتي يمكنك استعراضها في المحادثات وإثارة إعجاب الأشخاص الذين يرغبون في التحدث عنها، وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ الغوص في الغرابة يتضمن عملية دورية لتقويض الأشياء التي كنت تعتقد أنَّك تعلمتها أولاً، فالحقائق والأفكار والنظريات لا تعود مجموعة مريحة، ولكنَّها موطئ قدم مؤقت ستتخلى عنه لمحاولة الوصول إلى شيء عميق.

شاهد بالفيديو: 13 طريقة لتطوير التعلم الذاتي والتعلم بسرعة

ما هي الغرابة؟

كلُّ شيء تقريباً أغرب بكثير ممَّا يبدو للوهلة الأولى، العلم هو أوضح مثال على ذلك، فالجسيمات دون الذرية ليست كرات بلياردو؛ بل دالَّات موجية غريبة معقدة القيمة، والأجسام ليست مواد حيوية؛ بل تريليونات من الخلايا كلٌّ منها أكثر تعقيداً من أيِّ آلة اخترعها الإنسان، والعقول ليست مركزاً للوعي؛ بل هي عملية تواصل عدد لا يحصى من المشابك العصبية بأنماط مذهلة.

يؤكِّد العلم الغرابة الكامنة وراء ذلك، لكن بالنسبة إلى معظم الناس، فإنَّ العلم هو نوع آخر من جمع الطوابع، ولا تتداخل معرفة الغرابة مع معظم مجالات الحياة العملية؛ ولذلك قد تكون حقيقة أو فكرة إضافية يعرفها المرء، ويمكن طرحها في المحادثات.

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو كلُّ المهارات والمعرفة التي نعتمد عليها ونستخدمها كلُّ يوم والتي تخفي وراءها الغرابة، فعندما تتذكر شيئاً ما، هل حدث بالفعل بهذه الطريقة؟ عندما تعطي سبباً لسلوكك، هل له علاقة بالمنطق؟ عندما تعتقد أنَّ تحقيق شيء ما سيسعدك، هل ستشعر بالسعادة حين تحقيقه؟ تماماً كما يوجد للعلم أعماق مذهلة من الغرابة، فإنَّ الحياة اليومية تنطوي على قدر كبير من الغرابة يتطلب أولاً محو التعلُّم لتقديرها.

إقرأ أيضاً: مفهوم إدارة المعرفة وأهميتها وأهدافها

في الختام:

تحدثنا في هذا الجزء عن أنواع التعلُّم، وعن أنواع محو التعلُّم وصعوباته، وسنتابع في الجزء الثاني في التحدث عن الحد الأقصى والغرابة والعشوائية وكيفية محو التعلُّم.

المصدر




مقالات مرتبطة