ليس لدي أي شيء أهم من نفسي: ماكس شتيرنر والفلسفة الأنانية

"ليس لدي أي شيء أهم من نفسي" هذا القول مأخوذٌ من "يوهان كاسبار شميدت" فيلسوف ألماني من القرن التاسع عشر ربما يكون معروفاً أكثر باسمه المستعار "ماكس شتيرنر"، ومن المؤكد أنَّ الكثيرين سوف يشجبون في البداية هذه الكلمات؛ وذلك لأنَّ الأنانية التي كان "شتيرنر" مدافعاً عنها طوال حياته هي أمر مستهجن عموماً، لقد سمع الجميع جملاً مثل "لا يفكر إلا في نفسه مرة أخرى"، وتقييماتها السلبية، وأعتقد أنَّ جرعة من الأنانية ستفيدنا جميعاً؛ إنَّها الأنانية الصحية.



ما هي الأنانية الصحية؟

يُعَدُّ "شتيرنر" ممثلاً لما يسمى الأنانية الأخلاقية أو الصحية، وبشكل تقريبي أفعالك يجب أن تكون مبنية دائماً على ما هو أفضل لك، وروَّج لهذا الشكل من الأنانية في عمله الرئيس "أالفريد وملكيته" الذي نُشر عام 1844، وعارض "شتيرنر" فكرة أنَّه يجب على المرء أن يدافع عن شيء خارج نفسه مثل الدين والسياسة وما إلى ذلك.

نقول نعم ولكنَّنا نريد شيئاً آخر:

عليك أن تحظى بإعجاب "شتيرنر" حين يقول: "في كثير من الأحيان نقول "نعم" على الرغم من أنَّنا نريد شيئاً آخر في أعماق قلوبنا"؛ إذ يمكن للأنانية الصحية أن تأخذنا إلى أبعد من ذلك، لكن ما هو على أي حال؟ يتعلق الأمر من حيث المبدأ بالقيام بدور في الاتجاه المخالف عندما ندرك أنَّنا غير راضين عن شيء ما لأنَّه يسبب ضرراً لنا أو يجعلنا غير سعداء، فيجب علينا التعامل بطريقة مختلفة، وبكلمات بسيطة يجب أن نتعلم كيف ندافع عن أنفسنا.

كيف تعمل الأنانية الصحية؟

ليس من السهل أن تقول ببساطة "لا"، فمن الصعب جداً مقاومة إحساسنا بالواجب، لكن ليس علينا دائماً إرضاء الجميع، فإذا تخيلت شخصاً في طابور السوبر ماركت يسمح لكل شخص آخر خلفه بالتقدم أمامه، ومن ثمَّ لا ولن يتحرك، هنا تسأل نفسك: "لماذا لا يدافع هذا الشخص عن نفسه؟"، حسناً في كثير من الأحيان نحن من يفسح المجال للذين يدفعوننا من الخلف.

هل يمكن للإنسان تعلُّم الأنانية الصحية؟

يمكن للمرء أن يتعلَّم الأنانية الصحية، ويمكن صياغة دليل صغير يتضمن الخطوات الآتية:

1. تعلُّم قول "لا":

من الهام أن تكون صادقاً، فإذا كنت لا تريد شيئاً، فلا داعي للتظاهر بخلاف ذلك.

2. لست مضطراً دائماً إلى فعل شيء:

إذا قبلت فكرة أنَّه ليس عليك دائماً أن تفعل شيئاً، فستعيش حياة أكثر استرخاء.

3. القياس بمعايير مزدوجة:

نشعر بخيبة أمل سريعاً عندما يفعل الآخرون شيئاً مختلفاً ويضعون معايير مختلفة عما نتمناه؛ لذا يجب علينا أن نتوقع من الآخرين خلاف ما نريد باستمرار.

4. أخذ نفس عميق أولاً:

نسمح لأنفسنا بسرعة كبيرة أن ننجرف بعيداً في التفاعل بشكل مباشر مع موقف ما، فلا يجب أن نكون كذلك، فخذ قسطاً من الراحة لفرز أفكارك فهذا أمر صحي جداً.

5. أنت لست مسؤولاً عن كل شيء بشكل دائم:

يجب علينا بالطبع أن نبذل قصارى جهدنا دائماً، لكن هذا هو المكان الذي تنتهي فيه مسؤوليتنا (بذل قصارى جهدنا).

6. أن تكون صديق نفسك:

يمكن القول إنَّ هذا هو أهم جانب في هذه القائمة، فيجب أن يكون المرء دائماً جيداً مع نفسه، ونصيحة صغيرة "فقط تخيل أنَّك صديق لنفسك، ماذا تتوقع من الأصدقاء الجيدين؟"، هذه هي الطريقة التي يجب أن تعامل نفسك بها.

شاهد بالفيديو: 11 نصيحة تجعلك تحب نفسك

الأنا وممتلكاته:

في عام 1844 نشر الفيلسوف "يوهان كاسبار شميدت" الذي لا يعرفه الكثيرون اليوم عمله الرئيس "الأنا وممتلكاته" تحت اسم مستعار "ماكس شتيرنر"؛ إذ طور فلسفة راديكالية للغاية، وقد عدَّ "شتيرنر" اللاسلطوية عقيدة النظام الاجتماعي الذي يجب السعي من أجله دون هيمنة ودون إكراه سلطوي، وعدَّ "شتيرنر" صفة "الفردانية" مبررة وكأنَّ "شتيرنر" في الحقيقة هو الفرد الذي استيقظ على وعي تفرده.

مع ذلك فإنَّ كتاب "شتيرنر" الذي ينتمي بلا شك إلى أبرز شهادات الفكر الأناركي لم يحظَ باهتمام كبير وسرعان ما نُسي تماماً، وفي مطلع القرن الماضي حدثت نهضة في فلسفة "شتيرنر" في دوائر صغيرة، وفي الوقت نفسه ما تزال هذه الفلسفة محل اهتمام كبير حتى اليوم؛ إذ إنَّ هدفها في النتيجة النهائية ليس سوى تحرير البشرية من أغلال كل عبودية دون وجود رغبة في بناء أيَّة أيديولوجية جديدة.

الشخصية الفردية أولاً:

نظراً لأنَّ النظريات الاجتماعية الحديثة على وجه الخصوص تتطور نحو إهمال الفرد، يبدو أنَّه من الأنسب لنا أن نشير إلى المفكر الذي أكد أكثر من أي شخص آخر على الأهمية القصوى للشخصية الفردية للإنسان بالمقارنة مع التيارات الجماعية السائدة.

لخَّص مؤسس الأنثروبولوجيا "رودولف شتاينر" سلسلة الأفكار التي يستند إليها كتاب "الأنا وممتلكاته" على النحو الآتي: "يرى شتيرنر مثل نيتشه أنَّ القوى الدافعة للحياة البشرية لا يمكن أن تكون إلا بالسعي إلى التفرد وبناء الشخصية الحقيقية للفرد، وهو يرفض كل القوى التي تريد تكوين الشخصية الفردية وتحديدها من الخارج، فإنَّه يقرأ مجرى التاريخ، ويجد الخطأ الأساسي للإنسانية في السابق، وهو أنَّهم لا يزرعون ثقافة امتلاك الشخصية الحقيقية المتفردة، ولكنَّها تزرع الأهداف والغايات الأخرى غير الشخصية"، ويرى "شتيرنر" أنَّ التحرير الحقيقي للإنسان يكمن في عدم التنازل عن بناء شخصيته الفردية.

إقرأ أيضاً: ما هو الإيجو؟ وما هو الفرق بينه وبين الأنا الحقيقية؟ وكيف نتخلص منه؟

جميع الأنظمة خادمة للذات وليس خلاف ذلك:

تكوين وتطوير شخصية حرة بشكل كامل، هذا هو الهدف الذي يضعه "ماكس شتيرنر" نصب عينيه، ويعرف نفسه على أنَّه "فوضوي فردي" بالمعنى الأفضل للكلمة، فهذا هو المكان الذي يوجه به سعيه وتطلعاته، ومن وجهة نظر "شتيرنر" يتطلب تحقيق الذات قبل كل شيء التحرر من جميع السلاسل والقيود العقلية والمادية.

الذات بشقيها الجسدي والنفسي هي الواقع الفعلي والأصلي وكل ما يتجاوزها من الأنظمة السياسية وأنظمة الفكر وأنظمة المعتقدات يدين بوجوده للقوة الإبداعية الحرة للأنا، ومن ثمَّ فهذه الأنظمة هي خادمة للذات والأنا وليس خلاف ذلك، ومع ذلك فإنَّ الحقيقة هي أنَّ الأفراد يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا مستعبدين من قِبل عدد لا يحصى من الأنظمة السياسية والأيديولوجية التي صنعوها بأيديهم، فهم يفعلون ذلك جهلاً بذاتهم الحقيقية وشخصيتهم السيادية الحقيقية، ويُعَدُّ تعريفهم بهذه الحقيقة هدف ومهمة الأنانية.

هل يقصد "شتيرنر" بالأنانية إهمال الآخر؟

يستخدم "شتيرنر" كلمة "الأنانية" بمعناها الاشتقاقي الدقيق، فلا يعني ذلك بأي حال إهمال إخوانه من بني البشر؛ بل يعني فقط الاهتمام بمصالحه الخاصة، فهذا الالتزام بالأنانية هو في نفس الوقت إعلان حرب ضد كل القوى التي تريد التضييق على حياة الناس.

الأنانية التي يناجي بها "شتيرنر" هي أخلاقيات فردية عليا خالية من الجشع والحسد والمنافسة وبعيدة كل البعد عن الأنانية بالمعنى الشائع، وقد يكون مؤيداً للإيثار إلى أعلى درجة، على سبيل المثال يقول أيضاً: "أليس من الأفضل أن يكون لدي اهتمام بالآخر؟ وأن يكون فرحه ورفاهه هامين بالنسبة إليَّ؟ وأليس جميلاً أن يكون من دواعي سروري دعمه؟ ولكنَّني لا أضحي بنفسي من أجله".

فرد استيقظ على وعي تفرده:

إذا كانت اللاسلطوية الفردية ترى هدفها الأسمى والأهم في تحقيق الذات، فهي في نفس الوقت تناضل ضد نظام قمعي يمنع تكوين شخصية حرة، والفرد الذي استيقظ على وعي تفرده يطالب بالحق الكامل في تقرير مصيره، فهو لا يريد السيطرة على أي شخص، ولكنَّه لا يريد أن يسيطر عليه أي شخص آخر، وهذا السعي من أجل الحكم الذاتي يأتي حتماً في صراع مع السلطات الحاكمة وخاصةً مع الدولة.

شاهد بالفيديو: كيف تتفادى التحول إلى شخصية سامة؟

"شتيرنر" والرفض القاطع لهيكلية الدولة:

من حيث هيكليتها فإنَّ الدولة هي مؤسسة لا يمكن أن ينفذ فيها حق تقرير المصير بشكل ثابت؛ وذلك لأنَّها ليست مجتمعاً تطوعياً، ولكنَّها قد تقف أحياناً في تناقض مباشر مع المجتمع الذي يقوم بطبيعته على الإرادة الحرة، وبطبيعة الحال فإنَّ المجتمع المعاصر بعيد كل البعد عن تلك الصورة النموذجية للمجتمع الحر.

يقول "شتيرنر" في وصف هيكلية الدول: "الدول تدوم فقط ما دامت هناك إرادة مهيمنة، وتُعَدُّ هذه الإرادة المهيمنة معادلة لإرادة الفرد؛ أي إنَّ الفرد يجب عليه أن يعتمد على قلة إرادة الآخرين من أجل البقاء، وإذا توقفت العبودية فستزول السيادة والسلطة والدولة، فإرادتي الحرة هي خراب الدولة".

"شتيرنر" ومجتمع معدوم الجنسية:

لا شك في أنَّ "شتيرنر" رأى أفضل شكل من أشكال تنظيم الحياة الاجتماعية في مجتمع معدوم الجنسية، ومن الصعب القول كيف تخيل هذا المجتمع بشكل ملموس، فلا يوجد سوى عدد قليل من الإشارات إلى هذا في كتابه، وما هو مؤكد هو أنَّه دعا إلى تشكيل مجموعات فوق فردية، كما عدَّ دستور المُلكية الجديد ضرورياً، وإذا كان لمجتمع متحرر أن يتطور يجب أن تتخلى المُلكية عن شكلها الاحتكاري الحالي.

المسار الذي يؤدي إلى مجتمع حر يمر فقط من خلال الفرد الذي هو مصدر كل تغيير اجتماعي، وفقط في الأنا وفقط من خلال الأنا يمكن أن يتحقق التحرر، فأولاً يجب أن تحدث ثورة فردية في كل واحد منا لتشكل التربة أو الأرض التي يمكن أن تحدث عليها الثورة الاجتماعية، لكن ربما يجب أن نتجنب كلمة "ثورة" في هذا السياق؛ وذلك لأنَّها كما يقول "شتيرنر" ترتبط عادة بشيء فظيع وعنيف.

هل العنف طريقة لتحرير المجتمع؟

هذا ليس صحيحاً بأي حال من الأحوال، فلا يمكن للعنف أبداً أن يساهم في التحرير الحقيقي للناس وزيادة وعيهم، ومهمة الثورة الفردية هي أن تعطينا نظرة ثاقبة على ذواتنا الحقيقية، كما أنَّ مهمة الثورة الاجتماعية هي إنتاج مجتمع من الشخصيات الحرة، وليس من قبيل المصادفة أنَّ الفرديين كانوا دائماً معادين لفكرة الثورة العنيفة، فإنَّه مرتبط ارتباطاً أساسياً بفلسفتهم.

في الختام:

لا تنقلب نظرية "شتيرنر" ضد الدولة وحدها؛ بل ضد أي حكم من قِبل الناس على الناس، فإنَّها الأناركية في أنقى صورها وأكثرها أصالة، فلا التطلعات الليبرالية المعاصرة ولا النماذج المختلفة للشيوعية الطوباوية بمنأى عن النقد الاجتماعي لـ "شتيرنر"، وعلى الرغم من تعقيد أفكاره إلا أنَّه يؤكد على فكرة بسيطة جداً وأساسية وهي أنَّ الهدف الحقيقي للنظم بمختلف أنواعها خدمة الفرد وليس خلاف ذلك.




مقالات مرتبطة