لماذا يقلل الحكم على الآخرين من جودة حياتك وكيف تمنع حدوث ذلك؟

لقد ارتكبنا جميعاً ذنب إصدار الأحكام بحق الآخرين، فإنَّه جزء من طبيعتنا البشرية. وبطبيعة الحال، أنت تُطلِق الأحكام لتقييم مقدار خطورة الموقف ولفهم نوايا الأشخاص الذين تقابلهم، فهذا جزءٌ من غريزة البقاء، ومع ذلك، لا يعني هذا أنَّ كل الأحكام مفيدة، فما يميِّز البشر هو أنَّنا نمتلك أيضاً الأدوات للتشكيك في غرائزنا البدائية لنفصل أنفسنا عن الأحكام التي نتخذها، فلا يجب أن تفعل هذا لمصلحة الآخرين فقط؛ بل لمصلحتك أنت أيضاً.



لا يُعَدُّ الحكم على الآخرين صفةً بشرية جيدة؛ ذلك لأنَّ الحكم على شخص ما أيضاً يثير الخوف ويولِّد لديك الشعور بعدم الأمان والاستقرار ويُقلِّص منطقة راحتك، والسبب في ذلك هو أنَّ الحكم على الآخرين يدفعهم للحكم عليك أيضاً، ستتعلم في هذا المقال بالضبط لماذا يجعلك الحكم على الآخرين تشعر بعدم الاستقرار، وبعد ذلك، نتعمق في الموضوع حتى تعرف كيف تتوقف عن إصدار الأحكام على الأشخاص.

لماذا يحكم الناس على الآخرين؟

يؤدي الحكم على الآخرين دوراً هاماً في تطوُّر الجنس البشري؛ حيث يمكن أن يكون للفرق بين الحكم الجيد أو السيئ تأثيراً كبيراً، فقد يأكلك نمر على سبيل المثال، أو يمكن أن تُقتَل على يد أفراد قبيلة معادية، ويساعدك الحكم على التمييز بين الخير والشر، أو على الأقل قدر الإمكان؛ حيث يحتوي التاريخ أيضاً على الكثير من الأمثلة التي كانت فيها الأحكام غير صائبة.

وعلى الرغم من سهولة التمييز بين الحيوانات المفترسة، إلا أنَّه من الصعب معرفة نوايا الناس وما إذا كانوا يريدون مساعدتك أم لا، لذلك قمنا بتطوير نظام للحكم على الآخرين.

تصف "إيمي كودي" (Amy Cuddy) العالِمة النفسية الاجتماعية الأمريكية نوعين من الأحكام التي نُطلقها لتقييم رأيك في الآخرين:

  • الود: هل هم ودودون ونواياهم حسنة؟
  • الكفاءة: هل يتصرفون حسب نواياهم؟

هذا النوع من الحكم مفيد لإحراز النجاح، لكنَّنا نحكم على الناس لأغراض أخرى أيضاً، تلك التي تكون أكثر ضرراً لنفسك وللآخرين، على سبيل المثال: نحن نحكم على الآخرين بناءً على لباسهم ومظهرهم واهتماماتهم المختلفة وسلوكاتهم؛ حيث نعلم أنَّ الحكم على الآخرين أمرٌ مؤذٍ، إذاً لماذا نفعل ذلك؟ لأنَّ ذلك يمنحنا شعوراً بأنَّنا جزءٌ من مجموعة.

هذا أيضاً يعود إلى غريزة البقاء؛ حيث تُخبرنا الغريزة أنَّنا بحاجة إلى أن نكون جزءاً من مجموعة للبقاء على قيد الحياة، فأنت بحاجة إلى الانتماء إلى مكانٍ ما، ويؤدي النموذج "نحن" مقابل "ليس نحن" دوراً كبيراً في ذلك، فالمنزلة هي خير مثالٍ على ذلك، فعندما تكون واحداً من الأطفال المحبوبين في المدرسة، فأنت تنتمي إلى مجموعة، ولكن لكي تظل جزءاً من هؤلاء، كان لا بُدَّ من وجود مجموعة غير محبوبة، أليس كذلك؟ من الواضح أنَّ هذا ليس أمراً لطيفاً، لكن من المدهش أنَّه يؤلم الجميع.

ما معنى أن تحكم على شخصٍ ما؟

من السهل الحكم على الآخرين، وغالباً ما يكون القيام بما هو سهل في الحياة غير مفيد بسبب رداءة جودته، وإليك السبب؛ حيث ينشأ الحكم على الآخرين غالباً من الشعور بعدم الأمان، فأنت تحكم على الآخرين لترفع معنوياتك وتبدو أعلى شأناً، وقد تنجح في ذلك ظاهرياً لكنَّه يدمرك من الداخل، وإليك فيما يلي بعض الأمثلة على الأحكام وما تعنيه:

  • يرتدون ملابس تجعلهم يبدون مختلفين؛ والمعنى: أنا غير واثق من مظهري.
  • إنَّه بدين فكيف يجرؤ على الظهور في صالة الألعاب الرياضية؟ المعنى: أنا غير واثق من مظهري.
  • لديه معدل ذكاء منخفض؛ لذا فهو غبي؛ والمعنى: أنا غير واثق من معدل ذكائي والصفات الأكثر أهميةً التي أفتقدها مثل الذكاء العاطفي.

عندما تلاحظ أنَّك تحكم على الآخرين أو تُسبب لهم الإحراج، اسأل نفسك عن السبب؛ ذلك لأنَّ الأمر لا يتعلق بهم أبداً؛ لكنَّه تكهُّن يكشف عن شعورك تجاه نفسك، فالأشخاص الذين يشعرون بالحاجة إلى الحكم على الآخرين يفتقرون للثقة بأنفسهم، فلن يشعر الشخص الواثق أبداً بالحاجة إلى إهانة الآخرين، ولن يفعل ذلك أبداً، فالأسوأ من ذلك، عندما تحكم على الآخرين، فإنَّك تُصبح عُرضةً للحكم من قِبلهم أيضاً؛ بمعنى آخر: الحكم على الآخرين يثير الخوف وعدم الاستقرار.

لا يهم إذا عبَّرتَ عن أحكامك أو احتفظتَ بها لنفسك، فكلما حاولتَ إحباط الآخرين بأحكامك لتشعر تجاه نفسك بشعورٍ أفضل، زاد خوفك وإحساسك بانعدام الأمان والاستقرار، وفعل ما هو سهل يولِّد البؤس، بينما القيام بما هو صعب يزرع بذرة النجاح الشخصي.

ومن الصعب أن تكون لطيفاً مع الآخرين، ومن الصعب قبول وتقدير الاختلافات بين الناس، ومن الصعب أن تُظهر اختلافك مع الآخرين بودٍ ومحبة، ومن الصعب فهم الأشخاص الذين ينتمون إلى بيئات وثقافاتٍ مختلفة، ولكن فعل ما بوسعك لقبول ذلك الاختلاف على الرغم من صعوبته يجعل حياتك أفضل، وعندما لا تشعر بالحاجة إلى الحكم على الآخرين، فأنت حر.

كيف تتوقف عن الحكم على الآخرين؟

إذا كان الحكم على الآخرين يثير لديك الخوف ويولِّد الشعور بعدم الأمان والاستقرار، فمن مصلحتك التوقف عن ذلك، فضلاً عن أنَّ طيبتك وإيثارك يصبَّان في مصلحة الجميع، ولكن كيف تتوقف عن فعل شيء تفعله بالفطرة؟ وكيف تنمِّي الثقة حتى تتقبَّل الآخرين وتُعاملهم بلطف؟ يجب أن يحدث التغيير الأكثر أهميةً من داخلك، فعليك أن تدرك متى تحكم على الآخرين ولماذا تفعل ذلك، وعندها فقط يمكنك إحداث التغيير المطلوب.

إقرأ أيضاً: أثر اللطف مع الآخرين في العناية الذاتية
أثر اللطف مع الآخرين في العناية الذاتية

هناك خطوات هامة عليك اتباعها قبل إحداث أي تغيير:

1. القبول:

إذا كنتَ مذنباً بالحكم على الآخرين، فاعترِف بذلك، وبعد أن تعترف بذنبك، عليك قبوله؛ حيث يحاول معظم الناس تجنُّب هذه الخطوة الصعبة، وهم يحاولون فعل ذلك بطريقتين شائعتين:

  • اختلاق الأعذار: "حدث ذلك بسبب كذا".
  • الغضب من نفسك: "لماذا أتصرف بهذا الغباء؟".

كلاهما وسيلة لتجنُّب المسؤولية وعدم قبول ما حدث؛ لذا إذا كنتَ مذنباً بهذا الحكم، فإليك هذه النصيحة: اعلم أنَّ ارتكاب الأخطاء أمر طبيعي، وأنَّ الاعتراف بها أمر صعب، وأنَّك لن تقدر على إحداث التغيير المطلوب إلا إذا تقبَّلتَ الموقف وتحمَّلتَ مسؤوليته.

2. تحديد متى تحكم على الآخرين:

حالما تقبل بأنَّك بالفعل تقوم بالحكم في بعض المواقف، يمكنك تحديد متى تفعل ذلك؛ حيث يحكم بعض الأشخاص على الآخرين بناءً على كل التفاصيل التي يلاحظونها، وبعضهم الآخر أكثر انتقائيةً في حكمهم ولا يحكمون إلا على مظهر الآخرين على سبيل المثال.

ويُعَدُّ تحديد وقت الحكم خطوةً مخيفة، فإنَّه الوقت الذي تشعر فيه بالضعف وتكون صادقاً مع نفسك والوقت الذي لا تريد فيه أن تكشف عن عيوبك وانعدام ثقتك، لكنَّها خطوة ضرورية لتغيير الذات، فكن صريحاً جداً مع نفسك، ويمكنك إجراء التغيير بمجرد القيام بذلك.

3. الفضول:

بمجرد أن تكشف الحقيقة لنفسك، يمكنك القيام بأمرين، فيمكنك إما أن تهاجم نفسك وتغضب، لكنَّ هذا سيزيد الأمور سوءاً ولن يحل مشكلة إطلاق الأحكام، وبدلاً من ذلك، كن فضولياً واطرح على نفسك الأسئلة التالية:

  • لماذا تشعر بالحاجة إلى الحكم؟
  • كيف تشعر عندما تحكم؟
  • ماذا يحدث عندما تحكم؟
  • ما هو شعورك إذا لم تحكم؟
  • كيف يساعدك الحكم على الآخرين؟
  • كيف لا يساعدك الحكم على الآخرين؟

هل لاحظتَ صراحة هذه الأسئلة؟ معظم الناس لا يسألون أنفسهم أبداً سؤالاً مثل "كيف يساعدك الحكم على الآخرين؟"، ويفترضون أنَّهم يعرفون الجواب: لا يفيد أي شخص، ولكن هذا قد لا يكون صحيحاً، فربما يساعدك ذلك لأنَّك تشعر بالحماية وأنَّك جزء من مجموعة عندما تفعل ذلك.

وهناك العديد من الأسباب الأخرى التي من الممكن أن يكون لها بعض الفوائد على الأمد القصير، فالفضول هو العنصر الأساسي لتجريد نفسك، ودون الحكم على الذات، حاول أن تفهم سبب حكمك على الآخرين.

إقرأ أيضاً: بناء العقلية الفضولية!

4. تحديد مَن تريد أن تصبح:

نحكم غالباً على الآخرين لأنَّنا نريد أن نكون جزءاً من مجموعة، ولكن اسأل نفسك هذا السؤال: "إذا شعرتَ بالحاجة إلى الحكم على الآخرين لتصبح جزءاً من مجموعة، فهل هذه هي المجموعة التي تريد أن تكون جزءاً منها؟" فقد تكون الوحدة بديلاً أفضل، وإليك السبب: عندما تستمر في الحكم على الآخرين لتكون جزءاً من مجموعة، فإنَّ هذا يُبعدك أيضاً عن أيَّة فرص جديدة، خصوصاً الفرص الأفضل.

وأيضاً، لن تنسجم مع الأشخاص الذين لا يُطلقون الأحكام جزافاً، فهم إما سيكتشفون إحساسك بانعدام الأمن أو ببساطة لا يريدون البقاء مع أولئك الذين يشعرون بالحاجة إلى الحكم على الآخرين.

فالحكم على الآخرين يبقيك في فقاعة لا تخدمك ولا تخدم الآخرين؛ لذا كلما زاد سبب وجوب إدراكك لذاتك والتوقف عن الحكم على الآخرين حتى لو كنتَ خائفاً من الشعور بالوحدة لفترة وجيزة، فقرِّر أي شخص تريد أن تصبح، ثمَّ كن شجاعاً بما يكفي للتصرف بناءً على ذلك، حتى لو كان ذلك يعني الألم على الأمد القصير، مثل الوحدة.

5. إحداث تغيير:

المكونات الرئيسة لتغيير سلوكك هي الوعي الذاتي والمسؤولية والرؤية الشخصية، وهذا بالضبط ما ساعدَتك به الخطوات الأربع الأولى، ولكن إليك هذا التذكير: على الرغم من أنَّ هذا المقال قصير، إلا أنَّ عملية اكتساب الوعي الذاتي أطول بكثير، فقد يستغرق الأمر منك أياماً أو أسابيع أو حتى شهوراً لترى وتفهم نفسك، ويتطلب الأمر ممارسةً مستمرة ومدروسة، لكنَّ الأمر يستحق مجهودك، وبمجرد أن تصل إلى هذا الوعي الذاتي، يمكنك أيضاً التعامل مع نفسك بشكل أفضل، وبعد كل شيء، يمكنك فقط إدارة ما تفهمه، وعندما تفعل ذلك، يصبح إجراء التغيير خطوةً سهلة، وإذا كنتَ لا تزال تعاني، فإليك بعض النصائح:

  • استخدِم التدوين اليومي لممارسة الوعي الذاتي باستمرار.
  • استخدِم الملاحظات اللاصقة لتذكير نفسك بممارسة الوعي.
  • اسأل نفسك أسئلةً مختلفة للحصول على إجابات أفضل.
  • تأمَّل لاكتساب رؤىً مختلفة.
  • اطلب الحصول على تغذية راجعة من الآخرين إذا كنتَ مستعداً لذلك.

ستمنحك هذه الممارسة الأفكار التي تحتاجها لإجراء التغيير.

إقرأ أيضاً: 6 طرق عملية لتصبح أكثر وعياً بذاتك

في الختام:

الحكم على الآخرين شيء يفعله الجميع من حينٍ لآخر، ويَحدث ذلك تلقائياً، ومع ذلك، فإنَّ معظم الناس لا يتعلمون أبداً السيطرة على أنفسهم، فإنهَّم يشعرون بالحاجة إلى التقليل من شأن الآخرين للرفع من شأنهم؛ لذا عليك أن تكون حريصاً تجاه هذا النوع من الحكم؛ وذلك لأنَّك لن تبتعد عن الأشخاص الطيبين والفرص العظيمة فحسب؛ بل ستثير أيضاً الخوف وانعدام الأمن، وذلك سيجعل عالمك أصغر، فالحكم يؤذيك ويؤذي الآخرين، وتأمُّل الذات الصادق والممارسة المدروسة هما السبيل لتصبح مدركاً للذات، وعلى الرغم من أنَّ هذا المقال وصفَ خمس خطوات للقيام بذلك، إلا أنَّها عملية تستغرق وقتاً أطول، لكنَّها رحلة تستحق العناء.

المصدر




مقالات مرتبطة