كيف يؤثِّر القلق في خياراتنا الشرائية؟

إنَّ الحضارة المعاصرة حضارةٌ ماديةٌ وتشجِّع على الشراء وتُحرِّض عليه، فنجد مصطلحاتٍ كثيرةً للتعبير عن التبذير، والإنفاق المادي، وإدمان الشراء. وفي حالات الاضطراب الوجداني والقلق، يشعر الإنسان بالحاجة إلى تنظيم عواطفه والتخلُّص من المشاعر السلبية، فيعبِّر عنها عادةً بهوس الشراء العشوائي، والبحث عن الخيارات التي تمنح الشعور بالأمان، والرغبة الشديدة بالإسراف والبذخ؛ فنجد أنَّ العديد من قيمنا وسلوكاتنا الشرائية، والرغبة بالاقتناء والتخزين والاستهلاك أيضاً، ترجع بشكلٍ أساسيٍّ إلى حالةٍ من القلق والكآبة.



وفي الآونة الأخيرة، ومع تفاقم أزمة جائحة فيروس كورونا من حولنا، وتعطيل حياتنا اليومية وانقلابها رأساً على عقب؛ فإنَّ معظمنا يعاني من القلق، ولكن بنسبٍ متفاوتة. إذاً، فكيف يمكن للقلق أن يؤثِّر في الحاجة الملحَّة إلى الشراء لدينا؟ وما الذي يمكننا القيام به للشراء والاستهلاك بحكمةٍ في هذه الأوقات العصيبة؟

في هذه المقالة، سوف نتناول هذه الأسئلة. لكن في البداية دعونا نستكشف ما توصَّلت إليه الأبحاث عن دور القلق في سيكولوجية المستهلك.

1. يزيد القلق من احتمالية التبذير القهري:

يزيد القلق والارتباك من الحاجة إلى التسوق والإسراف دون توقف. والذي يُعرَف أيضاً بالتبذير القهري أو باسم: العلاج التجاري؛ حيث أنَّ الإنفاق يساعد الذين يعانون منه في الشعور بالتحسُّن، والتحكُّم بالأمور الخارجة عن نطاق سيطرتهم. وهذا ما توصَّلت إليه دراسةٌ في هذا المجال؛ فعندما ينتابنا الحزن أو القلق، تضعُف قدرتنا على ضبط النفس، ومن ثمَّ ننزع إلى اتخاذ قراراتٍ غير صائبة، إذ يبدو أنَّ الحزن والشعور بالضيق يُولِّدان لدينا رغبةً بمكافأة أنفسنا بطريقةٍ فوريةٍ للتخلُّص من هذه المشاعر.

وفي دراسةٍ أخرى أُجرِيت، كان المستهلكون الذين يميلون إلى فقدان السيطرة وعدم التحكُّم برغباتهم، والذي حدَّدها المختصون على أنَّها: "اختلافاتٌ فرديةٌ منهجيةٌ في تواتر وشدة الاستجابات للظروف والتعاطي مع الحالات العاطفية السلبية، مثل: القلق، والغضب، والضيق، والشعور بالذنب"؛ هم أكثر عرضةً إلى اتخاذ قراراتٍ متسرعة، والاستجابة لرغباتهم بالإسراف.

يجادل بعض العلماء بأنَّ حالة القلق المستمرة -بغض النظر عن المسببات- يمكن أن تؤدِّي في نهاية المطاف إلى التسوق القهري، أو زيادة تواتره بين المشترين القهريين؛ حيث يصبح التسوق طريقةً روتينيةً للتخفيف من القلق والضيق العاطفي.

إقرأ أيضاً: 26 نصيحة لتوفير المال أثناء التسوّق لشراء الطعام

2. يزيد القلق من تفضيلنا للخيارات الآمنة التي تمنح شعوراً بالسيطرة:

عندما نكون قلقين نسعى بشكلٍ طبيعيٍّ إلى تخفيف الضغوط، والحصول على الراحة، والتحكُّم بالمواقف. يعتقد بعض علماء النفس الاجتماعيون أنَّ الحالة الشعورية توفِّر مصدراً مفيداً للمعلومات من شأنه تحديد واتخاذ القرارات الموائمة للحالة. على سبيل المثال: قد يستخدم الشخص الحزين الشراء بتهورٍ للتخفيف من وطأة حزنه، وكوسيلةٍ لتعديل مزاجه.

من ناحيةٍ أخرى، عندما نشعر بالقلق والاكتئاب، فهذا دليلٌ على أنَّ محيطنا والبيئة الموجودين فيها خارجةٌ عن السيطرة، ولا يمكن التحكُّم فيها. وفي هذه الحالة بالتحديد، يكون قرار الشراء هذا عبارةً عن انجذابٍ نحو الخيارات الآمنة والموثوقة، للتقليل من مشاعر التهديد والشكوك التي نواجهها.

وفي حالات مثل القلق المفاجئ والمتطرف، قد يقود البحث عن وسائل أكثر أماناً وتأكيداً للسيطرة - إلى سلوكاتٍ ضارةٍ نفسياً ومادياً، كما هي الحالة في الذعر الشرائي، والهوس بالاقتناء والتخزين.

3. يزيد القلق من هوس البذخ واقتناء العلامات التجارية الفاخرة:

إنَّ القلق المتصاحب بشكوكٍ وتساؤلاتٍ عن الفناء، وارتفاع معدلات الموت، وكيف ستبدو عليه الحياة في المستقبل؛ له تأثيراتٌ متناقضةٌ على الرغبة بالتسوق. وباختصار، فإنَّه يتحكَّم بقيمنا وبقراراتنا المادية، حيث يعتمد الكثير من الناس على الشراء والاستهلاك كواحدةٍ من الطرائق الأساسية لاكتساب معنىً في حياتهم وليعيشوا تجربةً من السعادة، حتَّى لو كانت لمدةٍ قصيرةٍ من الزمن؛ مثل من يقودون سيارة ألفا روميو سيدان (Alfa Romeo sedan) باهظة الثمن، أو يحملون حقيبة "هيرميس بيركين" (Hermes Birkin) بقيمة عشرة آلاف دولار.

قد لا تكون هذه العلامات التجارية وغيرها من الماركات الفاخرة على مستوىً عالٍ من جودة المنتج مقارنةً بسيارة "تويوتا" (Toyota) أو حقيبةٌ من الماركة الشهيرة "كوتش" (Coach) مثلاً، والتي من الممكن أن تعطي مبرراً لسعرها الضخم.

تمنح الأسعار الفلكية للعلامات التجارية الفاخرة ما يسمِّيه خبراء التسويق: "قيمة الرفاهية المضافة"، والتي تُعرَّف بأنَّها "دور العلامة التجارية وتأثيرها في الحالة الاجتماعية، والتي تتضمَّن أيضاً كيفية تلقِّي المستهلك للجاذبية العالية للمنتج، وتجربة شيءٍ جديد".

بالنسبة إلى المنتجات الفاخرة، لا يتعلَّق الأمر بدور وأهمية المنتج، وإنَّما في الغالب بالمعنى الذي ينشأ عن طريق شراء المنتج وعرضه واستخدامه؛ فعندما يزداد قلقنا، فإنَّنا نشعر "برغبة جامحة بالبذخ".

لقد قام فريقٌ بحثيٌّ مكوَّن من ثلاثة باحثين في علم النفس الاجتماعي، يترأسه "شيلدون سولومون" (Sheldon Solmon)، بسلسلةِ دراساتٍ تجريبيةٍ على أطروحة "إرنست بيكر" (Ernest Becker)، وصاغوا "نظرية الذعر" (Terror Management). خلاصة هذه النظرية هي أنَّه في الأزمات الكبرى ولحظات الرعب القصوى -مثل انتشار وباء فيروس كورونا القاتل في الوقت الحالي- فإنَّنا نتصرَّف بطرائق مختلفةً لدرء الرعب والخوف من الفناء، ونسعى إلى خلق معنىً جديدٍ للحياة؛ فنستميت في الدفاع عن الوجود والبقاء.

الكثير من الأشخاص ماديون بطبعهم، ويسعون إلى تعزيز دورهم كمستهلكين في الحصول على مزيدٍ من الممتلكات، والقيام باستهلاكها والاستعراض أو التباهي أمام الآخرين بتوفُّرها لديهم. إنَّ القلق الناتج عن الأحداث المهدِّدة للحياة يجعلهم ماديين أكثر، ويحثُّهم على الدفاع عن نظرتهم المادية للعالم. وقد عبَّر العلماء الثلاثة عن ذلك بوصفٍ دقيق:

"إنَّ المال، وماله من سحرٍ وجاذبيةٍ في الحصول على ما نرغب به، وعلى الاستمتاع بالعالم من حولنا -مثل: الذهاب إلى إحدى المنتجعات، واكتساب اللون البرونزي الجذَّاب، وريادة الصالات الرياضية الفاخرة، والقيام بعملياتٍ تجميلية، واقتناء الجواهر- يُعدٌّ وسيلةً لقتل القلق والخوف؛ فنجد الجميع مركِّزين بصورةٍ أكبر على مظهرهم وشبابهم ومدى جاذبيتهم. وإنَّ العديد من النساء يتزيَّن أكثر من الأوقات السابقة، ويتمرَّنُ الشباب تمريناتٍ رياضيةً على غير العادة، ويستخدمون أدواتٍ صحيةٍ وقائيةٍ أكثر، كما يبحثون عن علاقاتٍ جادة أكثر وأقرب وأعمق. وكأنَّها وسيلةٌ لإقناع الموت باستثنائهم؛ لأنَّهم هامُّون في هذه الحياة".

إقرأ أيضاً: القلق لن يفيد: 10 أسباب لعدم الذعر بسبب فيروس كورونا

كيف تهدئ من روعك وتتسوَّق في آنٍ معاً؟

ربَّما يُحسِّن التسوق من الحالة المزاجية السيئة للمرء لفترةٍ من الوقت، ولكنَّ الشعور بالندم الذي يتبع متعة إنفاق مبالغ كبيرةٍ من المال سيزيد على الأرجح الحالة المزاجية سوءاً.

أثارت جائحة فيروس كورونا قلقنا، وغيَّرت من سلوكاتنا الشرائية بشكلٍ كبير. وقد أدَّت القيود التي فرضها انتشار الوباء مثل: العزل الذاتي، إلى الحدِّ من إدمان التسوق المادي الفوري، حيث جرى إغلاق العديد من المتاجر، وأُعطِيت الأولوية للتسوّق الالكتروني، ممَّا سمح لبائعي السلع الأساسية من البيع والتسليم عبر الإنترنت.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح للتباعد الاجتماعي: قواعد التسوق الآمن في ظلّ فيروس كورونا

وفي مثل هذه الظروف، أصبح من الصعب التسوق بشكلٍ متهور للأشياء التي تعدُّ من سلع الرفاهية، واقتصر ذلك على الضروريات فقط. ومع ذلك نجد أنَّ تنظيم السلوكات الأخرى مثل: هلع التسوق وشراء منتجات البقالة بكمياتٍ كبيرةٍ كوسيلة للشعور بالأمان، يتطلَّب منا مزيداً من الجهد والوعي.

لذا، كيف بإمكاننا فعل ذلك؟ الحل: العودة إلى أسلوبنا وعاداتنا السابقة في التسوق قدر الإمكان. وسوف يكون هذا حلاً مريحاً ومنطقياً للأشخاص الذين اعتادوا على التسوق بحكمةٍ وتجنُّب الإسراف والتبذير.

 

المصدر




مقالات مرتبطة