كيف تكون سعيداً عندما تسوء الأمور؟

كانت راشيل فريدمان (Rachelle Friedman) تستعد في صيف عام 2010 لإحدى أفضل فترات حياتها، حيث كانت مخطوبة ومحاطة بصديقاتها المقربات، وتستمتع بحفل توديع العزوبية.



كانت فريدمان وصديقاتها يقضين يومهنَّ في المسبح عندما دفعتها إحداهن إلى المياه على سبيل المزاح، لكن طاف جسد فريدمان ببطء إلى أعلى البركة حتى ظهر وجهها فوق الماء، وكان من الواضح على الفور أنَّ هناك خطباً ما قد حصل؛ حيث اصطدمت بقاع البركة وتهشَّمت فقرتان من فقراتها، وأدى كسر فقرتها السادسة إلى انقطاع الحبل الشوكي وشلل دائم من الصدر إلى أسفل؛ ممَّا عنى أنَّها لن تمشي مرة أخرى.

نحن سعيدون للغاية:

تزوجت راشيل بعد عام واحد من هذه الحادثة، وحملت اسم زوجها لتصبح راشيل تشابمان (Rachelle Chapman)، وقررت مشاركة بعض أفكارها حول تجربتها الكاملة خلال جلسة أسئلة وأجوبة عبر الإنترنت في عام 2013، وبدأت مناقشة بعض التحديات المتوقعة؛ حيث كان من الصعب عليها العثور على وظيفة يمكنها ملاءمة إعاقتها الجسدية، كما أنَّ التعامل مع آلام الأعصاب كان محبطاً وغير مريح إطلاقاً.

ومع ذلك، تضمنت مشاركتها مجموعة متنوعة من الإجابات الإيجابية المدهشة، فعلى سبيل المثال: عندما سُئِلَت عمَّا إذا كانت أحوالها قد تغيرت إلى الأسوأ، أكدت قائلة: "حسناً، لقد تغيرت الأمور، لكن لا يمكنني أن أقول بطريقة سيئة على الإطلاق"؛ ثم سُئِلَت عن علاقتها بزوجها، فقالت: "أعتقد أنَّنا سعيدون للغاية؛ ذلك لأنَّ إصابتي كان من الممكن أن تكون أسوأ بكثير".

ربَّما تسأل بعد أن قرأت ذلك: كيف يمكن أن تكون سعيداً عندما يسير كل شيء في الحياة على غير ما يرام؟

يمكن أن يكشف موقف راشيل الكثير عن طريقة استجابة أدمغتنا للأحداث الصادمة، وما الذي يجعلنا سعيدين بالفعل.

إقرأ أيضاً: كيف تكون سعيداً مدى الحياة؟

الحقيقة المدهشة للسعادة:

يناقش الباحث في علم النفس الاجتماعي في جامعة هارفارد دان جيلبرت (Dan Gilbert) في كتابه الأكثر مبيعاً حول العالم "التعثر بالسعادة" (Stumbling on Happiness) الطرائق العديدة التي نخطئ بها في تقدير كيف يمكن للمواقف أن تجعلنا سعيدين أو حزينين، كما يكشف عن بعض الأفكار غير البديهية المتعلقة بالسعادة.

إحدى الاكتشافات الأساسية للباحثين مثل جيلبرت هي أنَّ المواقف الشديدة التي لا مفر منها غالباً ما تحفز استجابة من دماغنا تزيد من شعورنا بالإيجابية والسعادة؛ فعلى سبيل المثال: تخيل أنَّ منزل أحدهم قد دُمِّر في زلزال، أو أنَّه يعاني إصابة خطيرة ناتجة عن حادث سيارة أفقدته القدرة على المشي؛ عندما يُطلَب من الناس وصف تأثير مثل هذا الحدث "المُفترض" فيهم، يتحدث معظمهم عن درجة ألمهم وكم سيكون وقعه كارثياً عليهم، حتى أنَّ بعض الناس قد يؤكدون على أنَّهم يفضلون الموت على عدم التمكن من المشي مرة أخرى؛ ولكن ما وجده الباحثون هو أنَّه عندما يعاني الناس بالفعل من حادث أليم مثل العيش تحت تأثير الزلازل أو أن يصبحوا مصابين بشلل نصفي، فإنَّ مستويات سعادتهم تكون مطابقة بعد ستة أشهر من الحادث لما كانوا يشعرون به في اليوم السابق لهذا الحادث؛ لكن كيف يمكن لذلك أن يحدث؟

انحياز التأثير (The Impact Bias):

تميل الأحداث المؤلمة إلى تحفيز ما يشير إليه جيلبرت باسم "أجهزة المناعة النفسية" (psychological immune systems)، حيث تعزِّز هذه الأجهزة قدرة دماغنا على تبنِّي نظرة إيجابية من موقف لا مفر منه، ويخالف هذا الأمر توقعاتنا عندما نتخيل مثل هذا الحدث؛ وكما يقول جيلبرت: "لا يدرك الناس حقيقة أنَّ دفاعاتهم من المحتمل أن تحدث نتيجة معاناة شديدة وليست خفيفة؛ فهم يخطئون في التنبؤ بردود أفعالهم العاطفية تجاه المصائب المتفاوتة التي تواجههم".

كما يفيد هذا التأثير بطريقة مماثلة للأحداث الإيجابية جداً، فعلى سبيل المثال: فكر كيف سيكون شعورك عند الفوز بورقة اليانصيب؛ يفترض الكثير من الناس أنَّ الفوز بها سيوفر مباشرة سعادة طويلة الأمد، لكنَّ الأبحاث وجدت عكس ذلك.

اكتُشِفَ في دراسة مشهورة جداً نشرها باحثون في جامعة نورث وسترن ( Northwestern University) عام 1978 أنَّ مستويات السعادة للمصابين بشلل نصفي والفائزين بأوراق اليانصيب كانت نفسها بعد مرور عام من وقوع الحادث أو الفوز، فهل فهمت الفكرة جيداً؟

يربح شخص ما مبلغاً من المال يغير حياته، بينما يفقد شخص آخر استخدام أطرافه؛ ويكون الشخصان خلال عام واحد متساويين في السعادة؛ أليس هذا غريباً؟

إنَّه لمن الهام ملاحظة أنَّ هذه الدراسة الخاصة لم تُكرَّر فيما بعد منذ أن نُشِرَت، ولكن دُعِمت النظرة العامة للفكرة مراراً وتكراراً؛ فنحن نمتلك ميلاً قوياً إلى المبالغة في تقدير تأثير الأحداث المتطرفة والقاسية على حياتنا، ولا تؤثر الأحداث الإيجابية والسلبية الشديدة فعلياً في مستويات السعادة على الأمد الطويل مثلما نعتقد.

يشير الباحثون إلى أنَّ هذا يُسمَّى بانحياز التأثير؛ ذلك لأنَّنا نميل إلى المبالغة في تقدير طول أو شدة السعادة التي تسببها الأحداث الكبرى، حيث يعدُّ انحياز التأثير أحد الأمثلة على التنبؤ الوجداني (affective forecasting)، وهي ظاهرة في علم النفس الاجتماعي تشير إلى عدم قدرتنا عموماً كبشر على التنبؤ بحالاتنا العاطفية المستقبلية.

إقرأ أيضاً: 9 نصائح لتنجح في تحقيق السعادة النفسيّة

كيف تكون سعيداً؟ وماذا ستفعل بعد ذلك؟

توجد فائدتان أساسيتان لانحياز التأثير حول طريقة تحقيق السعادة، وهما:

  • أولاً: نحن نميل إلى التركيز على الشيء الذي يتغير، ونتجاهل الأشياء التي لا تتغير؛ فمثلاً: عندما نفكر في الفوز بورقة اليانصيب، نتخيل هذا الحدث وكل الأموال التي سنربحها، لكنَّنا ننسى الحياة التي نعيشها بنسبة 99%، وكيف ستظل كما هي إلى حد ما؛ إذ إنَّنا سنشعر بالغضب طيلة اليوم إذا لم نحصل على قسط كافٍ من النوم، كما لا يزال يتعين علينا الانتظار في الازدخام المروري في ساعة الذروة، ولا يزال يتعين علينا النجاح إذا كنا نريد البقاء في حالة جيدة، وما زال يتعين علينا دفع الضرائب كل عام، وسيظل من المؤلم فقدان شخص نحبه، ويبقى من الجيد الاسترخاء على الشرفة ومشاهدة غروب الشمس؛ فنحن نتخيل التغييرات التي ستحصل معنا، لكنَّنا ننسى الأشياء التي تبقى على حالها.
  • ثانياً: يشكل التحدي عائقاً أمام أمر معين، وليس لك كشخص؛ وكما عبَّر الفيلسوف اليوناني ابيكتيتوس (Epictetus): "أن تكون أعرجاً يعني عائقاً لساقك وحركتك، ولكن ليس لإرادتك"؛ فنحن نبالغ في تقدير الضرر الذي ستلحقه الأحداث السلبية بحياتنا للسبب نفسه بالضبط الذي نبالغ فيه في تقدير السعادة التي تجلبها الأحداث الإيجابية إلى حياتنا؛ حيث إنَّنا نركز على الشيء الذي يحدث (مثل فقدان الساق)، لكنَّنا ننسى كل تجارب الحياة الأخرى.

على سبيل المثال: تشكِّل كتابة رسالة شكر للأصدقاء، ومشاهدة مباريات كرة القدم في عطلة نهاية الأسبوع، وقراءة كتاب جيد، وتناول وجبة لذيذة؛ أجزاء من الحياة الجيدة التي يمكنك الاستمتاع بها مع أو دون ساق؛ حيث لا تمثل مشكلات التنقل سوى جزء صغير من التجارب المتاحة لك، ويمكن للأحداث السلبية أن تخلق تحديات خاصة بمَهمَّة معينة، لكنَّ التجربة الإنسانية تبقى واسعة ومتنوعة.

توجد مساحة كبيرة للشعور بالسعادة في الحياة قد تبدو غريبة جداً أو غير مرغوبة بالنسبة إلى تصوراتك الحالية، لكنَّها متاحة دوماً مهما ساءت الظروف.

 

المصدر




مقالات مرتبطة