قبول الفقد إنقاذ للموجود: كيف يمكن تلطيف فكرة الموت؟

لا شك أنَّ موضوع الموت موضوع شائك ومحرِج، وفيه كثيرٌ من التناقضات والمفارقات، ويسبِّب كثيراً من الإزعاج والخوف والقلق؛ لذا معظم الناس تميل إلى نسيانه أو تناسيه، في بعض الحالات قد يكون خوف الإنسان المبالغ به تجاه الفقد أو الخسارة أو الموت، يجعله في حالة خسارة حقيقية.



ما هي الآثار السلبية للتعلُّق الزائد؟

إنَّ التعلُّق الزائد بالطرف الآخر في العلاقة، لن يهدأ بسهولة؛ بل قد يتحول إلى شكل آخر، كالاعتمادية أو التملك أو الأنانية، فتذوب الخصوصيات بينهما، وتختفي الفسحة التي كان ينفرد فيها الشخص مع نفسه، حتى يشعر بنفسه بأنَّه محتل من قبل الطرف الآخر، بكل ما تعنيه كلمة محتل من معنى.

إنَّ الخوف من الفقد سيؤدي إلى نوع ضار جداً من الاعتمادية، يسمى الاعتمادية الخبيثة؛ إذ إنَّ مَن تتعلَّق به تعلُّقاً مفرطاً أو مَرَضياً، سيتعلق تعلُّقاً زائداً باعتماده عليك، وأنت تعتمد أو تتعلق بفكرة اعتماده عليك، وهذا ما يطلق عليه بعض علماء النفس اسم "الاعتمادية المتواطئة"، وهي وباء وسمٌّ لمعظم العلاقات.

ما هي الجذور النفسية للخوف من الفقد؟

لكي نفهم جذور وأساس هذا الخوف من الفقد، يطلب منا علماء النفس أن نعود إلى الوراء قليلاً، ونلامس جذور مخاوفنا، وننفض عنها غبار الأيام، لنكتشف أنَّ هذا الخوف له علاقة قوية جداً مع صورة الأب داخل جهازنا النفسي؛ إذ إنَّ الأب بالنسبة إلى الفتاة أو الشاب هو أول وآخر شخص قُوبِلَ في الحياة، وبقدر ما يعمل هذا الآخر الذي يقابله الإنسان في حياته ويتخذ منه شريكاً فيها صادقاً مخلصاً يحضنه ويشجعه ويؤكد هويته، سيتقبَّل هذا الإنسان ذاته، ويحب نفسه كما هي، ويحتضن ذاته بنفسه، وهو ما يمكن تسميته بالقدرة على تحفيز الذات.

فالأب يمثِّل دائماً الطرف الآخر الذي نحتاج دائماً إلى دفن رأسنا في حضنه، وهو ما يؤكد هويتنا ويشعرنا بوجودنا.

ماذا يمكن أن يسبب الفقد من جروح نفسية؟

لا شك أنَّ صدمة الفقد قد تتسبب في إحداث الكثير من الجروح والندوب النفسية التي تستمر مع الإنسان لفترة طويلة. لخَّص خبراء في علم النفس هذه الآثار بثلاثة جروح رئيسة يُحدثها الفقد في حياتنا، وهي:

  1. يمكن لصدمة الفقد ولوعة الخسارة أن تؤدي إلى فوضى عارمة تهز حياتنا بأكملها، وتشكِّل خطراً كبيراً على إحساسنا بهويتنا وأنفسنا، وتهدد الأدوار التي نعيشها في الحياة ونرى أنفسنا من خلالها.
  2. إنَّ الحوادث الكارثية التي تمر في حياتنا كالموت أو الفقد، لا يمكن التعامل معها وفق منظومة التفكير التي نستعملها استعمالاً روتينياً؛ إذ إنَّها تتحدى افتراضاتنا أو مبادئنا الرئيسة التي شكَّلناها عن العالم وماهية الأشياء والمفاهيم الموجودة فيه، ومن ثمَّ فإنَّ منظومة التفكير القديمة هذه ستعاني جداً لفهم هذه الحوادث الكارثية، ومحاولة دمجها ضمن الإطار الكبير لمعتقداتنا وكياننا الفكري والنفسي.
  3. قد يجد عددٌ ممَّن خاضوا تجربة الفقد، صعوبة بالغة في أن يستمروا في التواصل مع الأصدقاء أو الزملاء الذين كانوا على اتصال بهم قبل الفقد، أو حتى قد يجد بعضهم صعوبة في الاستمرار في ممارسة النشاطات التي كانت تشكِّل لنا مصدر حافز ومتعة وشعور بقيمة الذات، كما لو أنَّنا نشعر من الداخل بأنَّ إعادة الانخراط في الحياة والاستمرار فيها بعد فاجعة الفقد، هي خيانة لمن فقدناهم، وتقليل من الألم والمعاناة التي يجب أن نمر بها؛ إذ قد يكون من الصعب علينا أن نتخيل الحياة تستمر طبيعية بعد وفاة مَن كان يمثِّل جزءاً جميلاً منها.

شاهد بالفديو: كيف نتجاوز فقدان شخص عزيز؟

ما هي أفضل طريقة للتعامل مع فاجعة الفقد؟

إنَّ إحدى أهم العقبات الأساسية التي تعترض طريق خروجنا من حفرة الحزن، وتجعلنا نغرق في بحور الإحباط، حتى الوصول إلى مرحلة الاكتئاب، هي إيماننا بفكرة خاطئة، وهي أنَّنا قادرون على السيطرة على أشياء لا يمكن السيطرة عليها حقيقةً؛ لذلك ترانا نُغرق أنفسنا في محاولة التحكم بأشياء خارجة كلياً عن نطاق قدرتنا، وهذا ما يطلق عليه خبراء علم النفس مفهوم "الضرب في الحمار الميت"؛ إذ إنَّ ذلك يزيد من إحباطنا وغضبنا كلما فشلنا في التحكم.

إنَّ الدماغ يقرأ هذه الحادثة على أنَّها فشل، ويبني الإحباط والغضب على أساسها دون أن يعي أنَّ هذا الفشل ناتج عن كون المشكلة غير قابلة للضبط أو السيطرة، وهذا يجعلنا نعيش في حلقة مفرغة من الضغط النفسي والإحباط، حتى ينتهي بنا الأمر في براثن الاكتئاب.

لذلك من أجل حماية أنفسنا من الوقوع في هذه التخبطات والاضطرابات، من الأفضل ترك الأمور التي لا يمكن أن نسيطر عليها، والتخلي عنها من أجل الحفاظ على صحتنا النفسية، وأحد أهم الأمور التي لا نستطيع التحكم بها هو الموت أو الفقد.

عندما يحصل الموت فمن غير الممكن إعادة مَن مات إلى الحياة مرة أخرى؛ لذا فإنَّ أفضل أسلوب في التعامل مع الفقد، هو تقبُّله، والإيمان بأنَّه أمر خارج عن إرادتنا، هذا ما يرفع عن كاهلنا هذا الثقل أو العبء الذي لا يحمل أي فائدة، هذا يعني أن نطبِّق المثل القائل: "تقبُّل الموت هو إنقاذ للموجود".

إنَّ من يحالفه الحظ بالنجاة من الكوارث أو الصدمات مثل الموت أو الفقد، يعاني من كثيرٍ من الانفعالات المؤذية، التي تكون موجودة حتى لو لم يستطع الشخص أن يشعر بها؛ إذ إنَّ عدم وجود أي انفعالات أبداً، هو بحد ذاته انفعال أو رد فعل لجهازنا النفسي على مشاعر وأحاسيس تفوق قدرتنا على تحمُّلها أو الرد عليها أو التعبير تجاهها، وإنَّ أي إنسان يكون على قيد الحياة، فإنَّه قادر على الشعور، حتى إذا كان جسده في حالة خدر، أو في حالة انفصال أو عزلة عن جسدك وانفعالاتك.

هل صحيح أنَّ خروجنا من حالة الحزن يتوقف على عدم الحديث عن المتوفى؟

إنَّ حزننا على شخص عزيز علينا، لا يتناقض مع استذكار ما جمعنا به من ذكريات جميلة، ولا يتعارض مع امتنانا الدائم لوجوده المستمر في عواطفنا ووجداننا مع ما يبعثه من سعادة وبهجة في حيز الوعي؛ إذ إنَّ تقبُّل مشاعرنا على اختلاف ألوانها وأنواعها ومصادرها، هو كلمة السر في تقبُّل الفقد والتعايش معه، مع الاستمرار في مسيرة الحياة ومحافظتنا على التوازن والاستقرار النفسي.

إنَّ اليتم الحقيقي ليس في موت الأم أو غيابها الفيزيائي والمادي عن بيتها وأسرتها وأولادها؛ إنَّما هو غيابها الوجداني والعاطفي عن قلوب وذاكرة أبنائها.

سيكولوجيا الخوف من الموت:

  • مع اختلاف نوعية حياة البشر، بحسب الحضارة التي يعيشون فيها، إلا أنَّهم يشتركون جميعاً في أمر واحد هو الموت؛ لذا ترى الجميع يحاول نسيانه كي لا يخاف منه، ولكنَّه يبقى خائفاً منه حتى لو نسي ذلك.
  • تعلَّمنا في مجتمعاتنا وعاداتنا وتقاليدنا تجنُّب الحديث عن موضوع الموت؛ وذلك لأنَّ فيه استحضار له ولكل ما يرافقه من مشاعر سلبية لا تفيدنا في أي شيء؛ لذا فإنَّ معظم الناس تتحدث عنه بحذر، وربما يتكلم بعضهم عليه بنوع من السخرية، مثل الكاتب والمخرج المشهور "وودي آلن" الذي يقول إنَّه لا يخاف من الموت إطلاقاً، لكنَّه في الوقت نفسه يتمنى ألَّا يكون موجوداً في تلك اللحظة.
  • بعض الناس ينتابه الرعب عند الحديث عن الموت، وقد يتحول هذا الخوف إلى مرض؛ إذ يفسِّر أي أمر غير مفهوم في حياته على أنَّه إشارة إلى دنوِّ الأجل.
  • مع أنَّنا في كل يوم نقترب من الموت أكثر من اليوم السابق، يبدو هذا بديهياً، وفي الوقت نفسه إنَّنا ننهمك بإفراط في محاولة تفاديه، وهذا يجعلنا نعيش هذه التناقضات على شكل صراعات داخلية، نعيشها باستمرار كلما واجهنا مرضاً أو موتاً.
  • يدفعنا ما ذُكِرَ سابقاً إلى التساؤل عن جدوى العمل وجدوى الحياة نفسها، ونظل نسأل أنفسنا عن الوقت الذي سيأتينا به الموت، وما هي الحالة التي قد يأتينا بها، تساؤلات رهيبة تراودنا، وتجبرنا على العيش داخل قمقم الخوف، الذي يقيد حياتنا وتصرفاتنا.

ونتساءل في أنفسنا هل يوجد طريقة ما لتغيير هالة الحزن والخوف والبكاء التي تحيط بفكرة الموت؟ وهل من سبيل لنتصالَح مع فكرة الموت، ونحتفل بها كما نحتفل مع فكرة الحياة؟ لكي نطبق القانون الذي يقول إنَّ زوال خوفنا من الموت يعني زوال الخوف من أن نحيا كل ما نريده على طريقتنا الخاصة.

إقرأ أيضاً: كيف تُسَخِّر حتميَّة الموت لصالحك؟

كيف حاول الإنسان إلغاء الهالة السوداء المحيطة بالموت؟

إنَّ العادات والتقاليد المتَّبعة والمرافِقة لفكرة الموت، تغيَّرت عبر العصور، وتوجد العديد من الثقافات التي طوَّرت هذه العادات وغيَّرَتها إلى عادات أخرى أكثر تخفيفاً للرعب المحيط بفكرة الموت؛ إذ تحوَّلت حفلات البكاء والنحيب خلال مراسم الجنازة في المملكة المتحدة، إلى جلسات احتفال بالحياة التي عاشها الميت.

قرر البريطانيون أنَّ الوقت قد حان لإعادة النظر إلى موضوع الموت، وجعله أكثر إيجابية؛ إذ تحوَّلت الجنازة إلى فرصة لتذكُّر مناقب الميت، وترديد الأغاني التي كان يحبها، ويتحدثون عن تجاربهم الجميلة التي عاشوها إلى جانبه خلال فترة حياته. إنَّهم لا يلبسون اللون الأسود؛ وذلك لأنَّه يزيد الحزن حزناً، حتى الأغاني التي يسمعونها تحمل طابع الفرح لا الحزن.

وقد أجرَت مجلة "التايم" بحثاً على 2000 شخص، ووجدت أنَّ أكثر من نصف الأشخاص يودُّون أن تكون جنازتهم فرصة لكي يحتفلوا بحياتهم.

في الختام:

في أي علاقة يدخل الإنسان بها يجب عليه أن يقنع جزءاً عميقاً من ذاته بالتصالُح مع فكرة قبول الفقد؛ وذلك لأنَّ الخوف الزائد الذي يبديه الإنسان تجاه الفقد، سيُغرقه في دوامة من التعلُّق المفرط بالشريك، تجعله مختنقاً في العلاقة، أو يمكن القول إنَّه يصبح أسيراً، وتصبح العلاقة مجرد سجن، قد يلجأ إلى الهرب منها عندما يتخطى الاهتمام المفرط عتبة تحمُّله.




مقالات مرتبطة