فوائد الصوم وأسراره والحكمة منه

الصيام عبادة قوامها أن يمتلك المرء نفسه، وأن يحكم هواه، وأن تكون لديه العزيمة التي يترك بها ما يشتهي، ويقدم بها على ما يكره.



قوام الصيام تحرير الإرادة الإنسانية، وجعلها تبعاً لأوامر الله لا لرغائب النفس، وتحرير الإرادة هو الفرق الهائل، لا أقول بين الحر والعبد بل بين الإنسان والحيوان، فإنّ الدابة تفعل ما تحب وتدع ما يضايقه، والمسافة بين عزيمتها وشهوتها معدومة، بل لا عزيمة هنالك ولا صراع بين شهوات وواجبات!

أمّا الإنسان فيتطلّع إلى أمور تردعه عنها حواجز شتّى، فإن غلب رشده كان عقله حاكماً لرغائبه، وإلاَّ فهو إلى الدواب أدنى!

وليس الصيام عن الشهوات فارقاً بين الإنسان والحيوان فقط بل هو فارق بين الناجحين من الناس والفاشلين، فالنجاح في كل شيء قدرة على تحميل النفس الصعاب، وتصبيرها على الشدائد، وقدرة على منعها ما تستحلى، وفطامها عمّا تبغي.

إقرأ أيضاً: درجات الصوم وأنواعه

ومن قديم عرف طُلاّب العُلا هذه الحقيقة، واستيقنوا من أنّ الراحة الكبرى لا تُنال إلّا على جسرٍ من التعب، وأنّ من طلب عظيماً خاطر بعظيمته، وأنّ ركوب المشقّات هو الوسيلة الوحيدة لإدراك المجد، وقد شرّع الإسلام الصيام للناس كي يدربهم على قيادة شهواتهم لا الانقياد لها، ومن هنا حرَّم على المؤمنين من مطلع الفجر إلى أول الليل أن يجيبوا أقوى رغائبهم، وأن يتمرّنوا الحرمان الموقوت، وأن يتدرّبوا عمليًّا على فهم الحديث الجليل "حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".

والصيام امتناع عن أمور، والامتناع عنصر "سلبي" لا يراه الناس عادةً إذ إنّه سر باطن كالإخلاص ما يعرفه إلّا علام الغيوب، وذلك تفسير ما ورد في الحديث القدسي: "الصوم لي". إنّه امتناع عن الطبائع المادية للبطن والفرج، وهو كذلك امتناع عن مطاوعة طبائع الغضب والاستفزاز، والصائم ساكن وقور، وذاك أعون له على ذكر الله وصفاء النفس، وتجد ذلك كلّه في الحديث المشهور عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ، فإنَّه لي وأَنَا أجْزِي به، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ".

والمشقة التي يلقاها الناس ضروب تحتاج إلى تفصيل، فهناك مشقة من الجد الذي يقابل الهزل، أو العمل الذي يقابل العطل، أو الحق الذي يقابل الباطل، أو الجهاد الذي يقابل القعود، وهذا الضرب من المشقة لابُدَّ من تحمّله، ومن ترويض النفس على أعبائه، ويصعب أو يستحيل تصوّر الإيمان بدونه.

إقرأ أيضاً: الصيام المتقطِّع: هل هو مناسب لك؟

وهناك مشقة النهوض للكمال الأعلى، والعكوف على مرضاة الله مهما حملت صاحبها من مكابدة الناس، وتحمُّل العنت، وقد بيَّن الله لنبيه طرفاً من هذه المشقة عندما استثاره لقيام الليل، ووجَّهه لهداية الناس، وصارحه بطبيعة الرسالة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]. إنه قول ثقيل حقًّا بما تضمنه من واجبات عظام، ولكنّها طبيعة المناصب الجليلة لا تنفك أبداً عن هذه الأحمال الثقال!

وهذا الضرب من المشقة مفروض على أصحاب النفوس الكبار، وهو نهج من الحياة يصطفي الله له من يشاء وتسترخص فيه مهج ونزوات وآمال وملذات. وثمَّ ضرب آخر وهو تحميل النفس ما لا قِبل لها به، وما تعجز عن أدائه. وهذا لم يكلف الله به أحداً من خلقه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

والصيام فريضة لابدّ منها لتدريب المسلم على المشقة الأولى وتهيئته للثانية، فإذا عرضت المشقة الأخيرة سقط الصيام فلا يجب على أحد، ويستبين من هذا أنّ الصوم ليس تعذيباً جسمانيّاً، وليس تعطيلاً عن عمل، إلّا إذا اعتبرنا الرياضة البدنية محاولات لهدم الجسم الإنساني، وتعجيزه عن أداء الواجبات، فالصوم رياضة لها هدف، وغراس تُرجى منه ثمار، الصوم مشقة محدودة لتدريب الناس على المعنويات العالية وتعليمهم كيف يفعلون الخير ويتركون الشر، أو كيف يعشقون الحسن ويكرهون القبيح، أو كيف يسارعون إلى مرضاة الله ويفرون من مساخطه.

إقرأ أيضاً: 5 طرق لتشجيع طفلك على صيام شهر رمضان

إنّه ليس معركة مبهمة ضدَّ الجسد ولكنّه خطة واضحة لتزكية القلب ودعم الإيمان، واحتساب التعب عند الله لا عند أحد من الناس، وفي هذا الجو من ترشيح النفوس للتقوى، والعزوف بها عن الشهوات الدنيا، والتحليق بها إلى مصافّ الملائكة، كما أنّ القرآن نزل في هذا الشهر، وأنّ على المؤمنين بعد أن يقضوا سحابة النهار على ما وصفنا أن يصفُّوا أقدامهم في المحاريب، ويرطبوا ألسنتهم بتلاوة القرأن الكريم. قال عليه الصلاة والسلام: "مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183-185].

وقبل أن نذكر الآية التي تلت هذه الآيات والتي يبدو للناظر السطحي أنّها مقحمة وسط آيات تتحدّث عن شريعة الصيام وأحكامه، نعود مرة أخرى إلى الجو الصافي المشرق الذي يحدثه الصيام في النفوس، إنّ هذه الفرصة تطهر أصحابها بالنهار كي تعدهم لاستقبال هدايات القرآن في قيام الليل، وهذا النوع من التخلية ثم التحلية كما يقول علماء القلوب يجعل المسلم أقرب شيء إلى رضوان الله وغفرانه.

إقرأ أيضاً: الصيام أهمّ علاج لأمراض الكبـد

وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِي فيه  يقولُ القرآنُ ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ"[2]. وفي رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "إنَّ للصائمِ عندَ فِطرِه لَدعوةً ما تُرَدُّ قال سمِعتُ عبدَ اللهِ يقولُ عندَ فِطرِه : اللهم إني أسألُكَ برحمتِكَ التي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ أن تغفِرَ لي - زاد في روايةٍ : ذُنوبي".

وهذا كلّه يشرح لنا قوله تعالى بعد آيتي الصيام السابقتين: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].




مقالات مرتبطة