علم نفس الشخصية: بصمتنا الحقيقية في الحياة

لطالما أطلقنا على الأشخاص أحكاماً معينة مبنية على سمات شخصياتهم؛ فقد عدَّ الناس الشخصية البخيلة تُهمة، والشخصية الكريمة نعمة وقيمة، وهربوا من الشخص العصبي السلبي ومالوا إلى الإيجابي الهادئ.



عندما نختبر تجارب مؤلمة في الحياة وأخرى مُفرِحة، ويخفق قلبنا للمرة الأولى، ونعيش قصة غرامية رائعة تنتهي بنهاية درامية صادمة، ونثق بصديق لنا ثقة مطلقة، ولا تُشكِّل هذه الصداقة رادعاً قوياً يقينا خيانته وغدره؛ يأتي السؤال الأهم: هل سنبقى الشخص ذاته الذي كان قبل الصدمة، أم ستغزو تفاصيل جوهرية شخصيتنا وتُبدِّل من قناعاتنا ومعتقداتنا؟ كم تغيِّرنا تجارب الحياة وتحدياتها صاقلة شخصيَّتنا تارة، ومدمرة سماتنا الشخصية تارة أخرى؟

لم تُكتَشف حتى هذه اللحظة خفايا النفس البشرية كاملة، فهي بحر من الأسرار والتفاصيل المميزة والمتفردة، ويبقى موضوع الشخصية موضوعاً شائكاً وحسَّاساً ويتطلب الكثير من العمق والبحث والدارسة.

ما هو علم نفس الشخصية؟

هو ذاك العلم الذي يدرس الشخصية الإنسانية بأبعادها ومكوناتها ونظرياتها وأنواعها، ويحلِّل سلوكاتها، ويقيس ردات أفعالها، ويقيِّم نتائجها.

لقد عُرِّفت الشخصية على أنَّها:

  1. مثير: وهي مجموع ما يمتلكه الفرد من مظاهر خارجية تؤثِّر في الآخرين، ويُؤخَذ على هذا التعريف إهماله للتنظيم الداخلي للإنسان، والحكم عليه على أساس الأشياء المادية الخارجية فقط، دون الغوص في داخله.
  2. استجابة: وهي قدرة الفرد على الاستجابة للمثيرات المختلفة ومدى توافقه مع الظواهر في البيئة الاجتماعية، ويُؤخَذ على هذا التعريف عدم قدرته على الوصول إلى حكم موضوعي دقيق عن الشخص، حيث تتغيَّر استجابة الشخص لموقف ما باختلاف عامل الزمن، مع الحفاظ على المثير نفسه.
  3. تنظيم داخلي يتوسط ما بين المثير والاستجابة: وهو التعريف الأدق والأكثر واقعية؛ فالشخصية هي التنظيم التفاعلي في داخل الفرد لكل أجهزته النفسية والجسدية، والتي تُملي عليه طابعه الخاص في الفكر والسلوك.

نظريات علم نفس الشخصية:

1. نظرية الأنماط:

أسسها الفيلسوف هيبوقراط، وهي قديمة جداً، وتربط ما بين الشخصية والجانب الجسدي، وتُقسِّم الشخصية إلى أربعة أنماط هي:

  • النمط السوداوي: وهو الشخص بطيء التفكير، والذي يميل إلى التشاؤم.
  • النمط الصفراوي: وهو الشخص الطموح والجاد وسريع الاستثارة والغضب.
  • النمط الدموي: وهو الشخص النشيط والمتفائل والمرح وسريع الاستثارة.
  • النمط البلغمي: وهو الشخص الذي يميل إلى الخمول والتبلد.

نملك جميعنا الأنماط الأربع من الشخصية في داخلنا، ولكن بنسب مختلفة؛ وإنَّ الشخص السوي هو الشخص القادر على تحقيق التوازن فيما بينها، واستخدام كل نوع منها في الوقت المناسب.

إقرأ أيضاً: أنماط الشخصية الأربعة وطرق التعامل معها

2. نظرية التحليل النفسي لفرويد:

يعَدُّ فرويد مؤسس علم التحليل النفسي، حيث أكَّد على أهمية السنوات الأولى من حياة الشخص في تكوين شخصيته مستقبلاً، وعدَّ الطاقة النفسية الدافع الأساسي لنشاط الإنسان، وتشتمل عنده الطاقة النفسية على قوتين أساسيتين هما: غرائز الحياة متمثلة بالغرائز الجنسية، وغرائز الموت متمثلة بغرائز العدوان؛ وقد تؤدي هذه الغرائز إلى سلوكات مرفوضة من قبل المجتمع.

قسَّم فرويد شخصية الإنسان إلى ثلاث مكونات هي: الهُوَ، والأنا، والأنا العليا؛ حيث يشتمل "الهُوَ" على كل ما هو منافٍ للأخلاق، وتشتمل "الأنا العليا" على الأخلاق والقيم المثالية جداً والمبالغ فيها، أمَّا "الأنا" فهي الوسيط الذي يهدف إلى تحقيق التوازن فيما بينهما؛ فإن كان لدى الإنسان طاقة جنسية عالية جداً قد تجعله يأخذ مساراً خاطئاً في الحياة، يأتي دور "الأنا" هنا لكي تُهذِّب هذه الطاقة، كأن يمارس الإنسان رياضة معينة أو هواية معينة.

قسَّم فرويد عقل الإنسان إلى العقل الواعي والعقل اللاواعي؛ حيث يشتمل العقل الواعي على المشاعر التي يُعبَّر عنها بصورة طبيعية وآنية، في حين أنَّ اللاوعي يشكِّل نحو 70% من شخصيتنا، وهو بمثابة خزان كبير يحوي كل التجارب القديمة في مرحلة الطفولة والصراعات والمخاوف والرغبات التي رفض الوعي قبولها ومعالجتها، فاستقرت في اللاوعي وتحوَّلت إلى طاقة مكبوتة تُؤثِّر في طبيعة سلوكاتنا وتعاطينا مع الحياة والناس.

يعدُّ اللاوعي السبب الأساسي وراء سلوكنا سلوكاً غريباً لا يتوافق مع قيمنا ووعينا؛ ويظهر في ذلات اللسان، أو في حالات الهذيان وانعدام الوعي، وفي التعبيرات الفنية (الرسم، الكتابة).

إقرأ أيضاً: تحليل شخصية الإنسان من خلال لغة الجسد

3. نظرية علم النفس الحديث:

أكد التحليليون الجدد أنَّه يجب التعامل مع الإنسان كوحدة متكاملة وليس كمكونات منفصلة مثل ما قام به فرويد، وأشاروا إلى وجود فروقات فردية بين الأشخاص، وانتبهوا إلى تأثير المتغيرات الاجتماعية (السعي إلى الرضا الاجتماعي) في سلوك الإنسان، ناقضين بذلك كلام فرويد عن أنَّ الغرائز هي مَن تحكمنا؛ حيث وجدوا أنَّ شعور الإنسان بالنقص يشكِّل دافعاً له من أجل التقدم والإنجاز والتفوق والكمال، على عكس فرويد الذي عدَّ أنَّ شعور النقص مدمِّر.

4. النظرية السلوكية:

عدَّت أنَّ كل سلوكاتنا مكتسبة وناتجة عن الواقع البيئي، أي أنَّ البيئة هي مَن تشكل شخصياتنا، وليس جيناتنا أو لاشعورنا أو طفولتنا؛ أي أنَّها لم تأخذ في عين الاعتبار ما يعتمل داخل الإنسان من تجارب ومواقف ومشاعر وصراعات.

من جهة أخرى، وجدت أنَّ السلوكات محكومة بنتائجها؛ فنحن نكرر السلوكات التي تعطينا نتائج مُرضِية، ونبتعد عن تلك التي تعطينا نتائج غير مُرضِية؛ كما أنَّها تَعُدُّ الشخصية السوية شخصية قادرة على خلق عادات صحية للتكيف مع الحياة؛ وتأتي هنا فكرة الثواب والعقاب؛ فنحن نُعزِّز سلوكاً ما من خلال المكافآت، ونُقوِّم سلوكاً آخر من خلال العقاب.

5. النظرية المعرفية:

أكَّدت هذه النظرية على فكرة المشاهدة و الملاحظة، حيث تتكوَّن شخصية الطفل من خلال تقليده سلوكات النماذج المحيطة به؛ ووجدت أنَّ أفكارنا هي مَن تُحدِّد حياتنا، وأنَّ كل ما هو موجود في حياتنا ما هو إلَّا انعكاس لأفكارنا.

6. النظرية الإنسانية:

أكَّدت هذه النظرية على فطرة الإنسان السليمة والخيِّرة، بحيث تتأثر فطرته بما يتعرَّض إليه من تأثيرات في البيئة المحيطة به، ووجدت أنَّ تحقيق الذات هو الغاية الأساسية لوجودنا، واهتمت بقيمة الحرية، على أن تكون حرية مشروطة ومسؤولة وتراعي حدود الآخرين ومساحاتهم.

مكونات الشخصية:

1. العوامل الوراثية:

تتأثر شخصية الإنسان بالجينات الوراثية الموجودة لدى أبويه أو أقربائه، فقد يُخلَق شخص ما والكرم سمة من سماته، في حين يُولَد شخص آخر والبخل سمته الأساسية.

2. العوامل البيئية:

تُبنَى شخصية الطفل بداية من سلوكات الأشخاص المحيطين به، خاصة الوالدين؛ إذ لا يكون الطفل الصغير قادراً على تحليل الأمور واستنباط المعلومات، بل يزرع الوالدان القيم والتقاليد والعادات والخطأ والصواب فيه.

3. التجارب الشخصية:

يكبر الطفل ويصبح بالغاً، وتغزو هنا تحديات الحياة وتجاربها واقعه بقوة، تاركة ندبات ظاهرة على شخصيته، وقد تنتصر هذه الندبات على الجينات الوراثية ومعتقدات وأفكار الأبوين، فاسحة المجال لشخصية جديدة ومختلفة في الظهور والنمو، بحيث تكون هذه الشخصية من صنع تجارب الحياة ونتاج تحليلات البالغ وملاحظاته.

تعدُّ التجربة الشخصية فرصة حقيقية أمام الإنسان لكي يضع جيناته الوراثية ومعتقداته وصفاته وطباعه موضع اختبار ودراسة.

4. المكونات الجسدية: 

يبني الطفل أفكاره عن مظهره الخارجي من خلال كلمات أهله ونظراتهم وتعليقاتهم؛ لذلك على الأهل الانتباه إلى كلماتهم مع طفلهم، والعمل على تقبُّل شكل ولدهم أيَّاً كان، حتى في حال وجود إعاقة جسدية.

5. القدرات العقلية:

يملك كل طفل قدرات عقلية مختلفة عن الآخر، فقد يملك طفل ما ذكاء اجتماعياً، بينما يملك آخر ذكاء دراسياً؛ لذا على الأهل الوعي لهذه الجزئية، والعمل على تنمية قدرات طفلهم العقلية ومهاراته، إذ يمتلك كل طفل نقاط قوة ينبغي على الأهل اكتشافها وتعزيزها.

إقرأ أيضاً: 11 وسيلة لتعزيز القدرات العقلية والذاكرة والتحفيز

6. المكانة الاجتماعية:

يعدُّ افتخار الطفل بأبويه ومكانتهم الاجتماعية أمراً جيداً ودافعاً له لكي يتقدَّم، ولكنَّه يتحوَّل إلى أمر سلبي في حال استغلال الطفل هذه المكانة للقيام بأفعال غير مقبولة اجتماعياً؛ لذا على الأهل هنا تربية الطفل على تحمُّل مسؤولية أفعاله وقراراته.

7. أسلوب التربية:

سينجح مَن يعتمد أسلوب التربية الديمقراطي والدافئ والمتعاون والعقلاني مع طفله في خلق طفل سوي نفسياً؛ أمَّا مَن يعتمد أسلوباً متسلِّطاً في التربية، مانعاً طفله من التعبير عن آرائه ومشاعره، ومتعدياً على حريته ومساحته؛ فسيعمل على خلق طفل مشوه من الداخل.

إقرأ أيضاً: أهم 10 نصائح في تربية الأطفال تربية سليمة

8. المكوِّن القيَمي:

تعدُّ القيم أفضل رأسمال يُعطَى للطفل لكي يستطيع عيش الحياة بطريقة سليمة وصحيحة؛ فكلَّما كانت قيم الأهل إيجابية وخيِّرة ومتوافقة مع سلوكاتهم، كان الطفل أكثر انتماء واقتناعاً وتبنِّياً لتلك القيم.

9. التمكين الاقتصادي:

يعاني الطفل المحروم مادياً من مشكلات نفسية على الأمد البعيد؛ لذلك على الأهل السعي إلى تأمين أقصى ما يمكنهم لطفلهم، وتعويض تقصيرهم المادي من خلال الاهتمام المعنوي الواعي بطفلهم.

10. التمكين اللغوي:

لن يستطيع امتلاك ثقة كافية بنفسه مَن لا يملك المقدرة اللغوية الجيدة، والمصطلحات المتنوعة، ونبرة الصوت الواضحة، والقدرة على التعبير؛ لذلك على الأهل تدعيم مهارات طفلهم اللغوية، وتدريبه على الإلقاء بصوت واضح  ومؤثِّر، والعمل على محاورته يومياً لكي يتعلَّم مهارة التعبير عن نفسه بحرية، وإغناء حياته بإضافة عادة القراءة إلى أيامه، بحيث يبني مخزوناً لغوياً كبيراً ومفيداً.

الخلاصة:

لكي تبني شخصية متوازنة نفسياً، عليك أن تكون منفتحاً على الحياة، ومرناً، ومتفبِّلاً لتحديات الحياة ودروسها، وإيجابيَّاً، وقادراً على رؤية الجانب المشرق من كل أمر.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7




مقالات مرتبطة